العيب الذي أخذناه عنهم:بقلم- صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

سلط القبض على الزعيم الكردي (عبدالله أوجلان) الضوء من جديد على قضية حق تقرير المصير, وأثار ارتباكا في أوساط التيارات الفكرية والسياسية العربية, التي وجدت نفسها أمام موقف ملتبس, لا تعرف كيف تحدد موقفا مبدئيا وغير متناقض منه , لأنه يتطلب مراجعة شاملة وحوارا واسعا وخاليا من العصابية, ومن الشعارات سابقة التجهيز, بين كل هذه التيارات للتوصل الى موقف جديد من قضية حق الاقليات العرقية ــ بشكل عام ــ وفي الوطن العربي بشكل خاص في تقرير مصيرها. ومع ان معالجة القضية في اطار الظروف الدولية والاقليمية المحيطة بها, أمر لا مفر منه, الا ان النتائج التي أسفرت عنها هذه المعالجة, تبدو نموذجا لهذا الارتباك وللتشوش. والخط المشترك بين الجميع, سواء كانوا ينتمون لليسار بمختلف مدارسه, من الماركسيين الى القوميين, ومن الناصريين الى الاشتراكيين, أو كانوا ينتمون الى التيار الاسلامي بكل ألوان الطيف التي تخرج من معطفه, أو كانوا غير هؤلاء, وأولئك, هو التركيز على التنديد بالموقف الغربي, وبالذات الامريكي, لأنه ــ كالعادة ــ يكيل بكيلين, فيدافع عن حق أكراد العراق في تقرير مصيرهم والانفصال بدولتهم, ويشجعهم على ذلك, بل ويفرض على الدولة الكردية, التي تكاد تكون قد أقيمت بالفعل, حمايته العسكرية, ويكف يد الحكومة العراقية عن ممارسة سلطتها على قسم من رعاياها, لأن في تفتيت العراق وتقسيمه الى دويلات, مصلحة سياسية واستراتيجية لها, بينما يتآمر لتصفية ثورة أكراد تركيا, ويساند أشكال القهر التي يمارسها خلفاء أتاتورك ضدهم, بل وتساهم أجندة استخباراتهم في اقتناص قائد هذه الثورة ليحاكم محاكمة يعلم الجميع انها لن تكون عادلة, وستنتهي في الغالب باعدامه من دون دفاع, لأن تركيا حليفة ولأن مصالحه السياسية والاستراتيجية تفرض عليه ان يبقي عليها موحدة, أو على الاقل يراعي ما تعتبره مصالح لها. ولا جديد في الحكم بازدواجية الموقف الغربي من حق تقرير المصير, لأنه كان كذلك في الأغلب الأعم من حقب التاريخ, فالثورة الفرنسية, التي رفعت شعارات تحرير الشعوب المقهورة, ما لبثت ان احتفظت بالاراضي التي فتحت في العهد الملكي الاقطاعي, بل وتوسعت في الفتح, ولكن بذريعة جديدة هي انها تريد ان تنشر مبادئها التحررية في كل انحاء العالم. وخلال القرن التاسع عشر, كان الغرب, هو الذي شجع الاقسام الاوروبية من الامبراطورية العثمانية على الاستقلال, ودافع عن حقها في تقرير مصيرها, فاستقلت اليونان ورومانيا والصرب وبلغاريا والبوسنة والهرسك, بينما تدخل لاجهاض الثورة العرابية في مصر, والثورة المهدية في السودان. وما أكثر شعوب العالم التي علقت آمالها على الرئيس الامريكي الاسبق (ولسن) عندما قال ان الشعوب لا يجوز ان تنتقل من سيادة الى اخرى بمؤتمر دولي, أو باتفاق بين متنافسين أو أعداء, وان الأماني القومية يجب ان تحترم ولا يجوز ان تساد الشعوب أو تحكم الا بمحض ارادتها ورغبتها, وأعلن المبادىء الشهيرة التي دخلت امريكا على أساسها الحرب العالمية الأولى, ومن بينها حق تقرير المصير, وما كانت الحرب تنتهي حتى شد زعماء هذه الشعوب رحالهم الى باريس لكي يعرضوا قضاياهم على مؤتمر الصلح, ويطالبوا بحقهم في تقرير المصير, فاذا بالمؤتمر يوصد أبوابه في وجوههم, اذا بما حدث, هو بالضبط ما انتقده (ولسن) وما وعد بألا يحدث, ودخل الحرب لكي يحول دون حدوثه, فتنتقل الشعوب من سيادة الى أخرى بمؤتمر دولي, وباتفاق بين متنافسين من دون ان يفتح فمه بكلمة اعتراض. وما يقال اليوم, حول ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع حق تقرير المصير, كلام صحيح, ولكنه قديم.. أما المهم.. فهو انه ناقص لأن فضح مواقف الآخرين لا يشكل في ذاته موقفا بديلا عن الاجابة عن السؤال المحدد المطروح وهو: أين تقف التيارات الفكرية والسياسية العربية من حق الأقليات العرقية في البلاد العربية, في تقرير المصير؟ ما يلفت النظر في المعالجات العربية التي تناولت مسألة القبض على (عبدالله أوجلان) هو ذلك التعاطف الواسع مع الرجل, وهو ما يستحقه بلا جدال, لكنه يعطي الانطباع بأن الجميع لا يختلفون على حق أكراد تركيا في تقرير المصير وفي الانفصال بدولتهم عن تركيا, أو على الاقل التمتع بدرجة واسعة من الحكم الذاتي, وفي حين ركز هؤلاء على التنديد بازدواجية المعايير الغربية بشأن حق تقرير المصير, فإن كثيرين منهم مارسوا تلك الازدواجية بشكل أقل صراحة ووضوحا ووقاحة مما يفعل الغرب, فوقعوا فيما نهوا عنه, ومارسوا ما نددوا به, وكالوا بكيلين, لا فرق بينها وبين مكاييل الآخرين, الا ان هذه أمريكية, وتلك عربية. فمن بين اليساريين العرب, من يتعاطفون مع حق أكراد تركيا في الانفصال لأن الحزب الذي يقود نضالهم, حزب يساري أو ماركسي, يقاوم حكما مواليا للغرب, بينما يتحفظون أو يرفضون الاقرار في حق أكراد العراق, في المطالبة بالانفصال, لأنه يتوجه ضد دولة عربية وضد نظام حكم يعتبرونه معاد للغرب. ومن بين القوميين العرب من كانوا, وربما يزالون, يعتبرون ان قرار ضم العراق للكويت عام ,1991 كان قرارا صائبا بصرف النظر عن حق الشعب الكويتي في تقرير مصيره, لأن ذلك يحقق حلم الوحدة العربية, ولأن معظم الوحدات القومية قامت عن هذا الطريق, وهم لا يجدون في دفاعهم عن (عبدالله أوجلان) أو حماسهم لحق أكراد تركيا في تقرير المصير, ما يتناقض مع مصادرتهم لحق عرب الكويت في تقرير المصير. وهذا الكيل بكيلين نفسه هو ما يغلب على معالجات الكثيرين من المنتمين للتيار الاسلامي لمسألة حق تقرير المصير. فهم مع حق الاقليات المسلمة في الدول غير الاسلامية في تقرير مصيرها والانفصال بدولها عن الوطن الأم, لذلك كانوا مع انفصال باكستان عن الهند, وكانوا مع انفصال القبارصة المسلمين عن القبارصة اليونانيين, ومع استقلال الجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفييتي السابق, وذلك هو موقفهم الآن من قضايا حق تقرير المصير في (البوسنة) و(كوسوفو) و(كشمير) ! لكنهم ليسوا مع حق تقرير المصير, اذا تعلق الأمر بأقليات غير مسلمة في دول أغلبيتها من المسلمين, كما هو الحال في جنوب السودان! وليسوا مع حق تقرير المصير اذا تعلق الأمر بأقليات عرقية مسلمة كما هو الحال في موقفهم من أكراد العراق وتركيا وايران. والأساس الذي ينطلق منه الجميع واحد, هو النظر الى حق تقرير المصير من منظار المصلحة الايديولوجية لكل تيار, فقد نددت النظرية الماركسية بما تمارسه الدولة الرأسمالية من قهر ضد الأقليات القومية التي تقع داخل حدودها, أو في البلاد التي تدفعها رغبتها في توسيع نطاق سوقها الى الاستيلاء عليها وأدانت التمييز العنصري الذي يرفع شعاره سيادة جنس على جنس, وينشر التعصب القومي بحثا عن أقصى ربح ممكن وحفاظا على الأسواق.. وأعلنت ان الدولة الاشتراكية التي يقوم نظامها الاقتصادي, على أساس الملكية العامة لوسائل الانتاج, التي لا يقودها قانون الربح, ليست في حاجة الى أسواق, وأنها ــ بالتالي ــ تقدم الحل التاريخي لمسألة القوميات, وتقرر ــ بلا تحفظ ــ المساواة الكاملة بين جميع القوميات, في الحقوق بما في ذلك حق الأقليات القومية المطلق في تقرير المصير, سواء بالانفصال أو بالبقاء في وحدة اختيارية, في مجتمع يرفض كل أشكال التمييز.. لأنه يقوم على (أممية) يعتمد على وحدة الطبقة العاملة, ويسقط بذلك كل مبررات التمييز, وكل دواعي القهر والاستعلاء! ولا يختلف الامر كثيرا, بالنسبة للتيار الاسلامي, الذي ينطلق هو الآخر من أهمية تجمع أبناء الدين الواحد, وتسقط كل دعاوى التعصب للعرق أو للقبيلة أو للأرض, فالدين الواحد, يخلق شعبا واحدا, لا فضل لعربي فيه على عجمي الا بالتقوى. والدولة القومية الموحدة ــ كما يذهب القوميون ــ قادرة بقوتها ووحدتها, ومكانتها, على ان تصهر كل الأقليات التي تعيش على أرضها الواحدة, في أمة واحدة لا تفرق بين مواطنيها! لكن حقائق التاريخ والواقع تثبت ان الفارق كان دائما شاسعا بين الكلام والفعل, وبين النظرية والتطبيق,.. فلم تكد الثورة السوفييتة تتحول الى دولة, حتى أصبح حق تقرير المصير مشروطا بالحفاظ على وطن الاشتراكية, وسلامة دولة البروليتاريا, ثم تكشفت الحقائق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, واتضح للجميع ان الحل النظري الذي قدمته الماركسية لمسألة القوميات, قد تحول في التطبيق الى هيمنة أوروبية على الاقسام الآسيوية.. واضطهاد قومي بشع. ولا يكاد تاريخ الدولة الاسلامية, حتى في عنفوان ازدهارها, يخلو من التمردات التي قامت بها الأقليات العرقية احتجاجا على ما تعانيه من اضطهاد, بعد ان نسى المسلمون, ان التقوى هي معيار المفاضلة, وتحولت الخلافة الراشدة الى ملك عضوض, وكان الاضطهاد القومي الذي مارسته آخر الامبراطوريات الاسلامية, وهي الامبراطورية العثمانية, ضد الشعوب التي خضعت لهيمنتها, ومنهم العرب, هو أحد أهم اسباب تقوضها, وانهيارها. والصعوبات التي تحول دون الاقرار بحق تقرير المصير, وبالتالي حق الاقليات في الانفصال بدولها المستقلة, صعوبات حقيقية, اذ المؤكد ان اقراره بشكل مطلق, وبلا تحفظات ومن دون وضعه في اطار الظروف الدولية والاقليمية المحيطة به, سوف يزيد من اختلال التوازن الدولي الذي يتطلب مزيدا من التوحد بين الكيانات القائمة, لا مزيد من التفتيت فيها.. ثم انه سوف يضعف الطرفين, وقد يلقي بأحدهما أو كليهما, بين براثن أعداء مشتركين, أو يضطره للالتحاق بهم, وهناك ــ فضلا عن ذلك ــ مصالح مشتركة ينبغي ان توضع في الاعتبار, من بينها الثروات الطبيعية والمواقع الاستراتيجية, وخاصة الانهار والمنافذ على البحار, التي قد تجعل الانفصال كارثة على الدولة الام, أو الدويلة الساعية للاستقلال! المسألة اذن معقدة, وهي تحتاج الى رؤية عربية جديدة, تزيل التناقض بين الوحدة القومية, التي أصبحت في ظروف عالمنا الراهن ضرورة, أكثر من أي وقت مضى, وبين حقوق الأقليات. ولن يتحقق ذلك إلاّ بالعودة الى الأسس التي قامت عليها الدول القومية الحديثة, التي توحدت على الرغم من تنوعها العرقي والديني استنادا الى عقد اجتماعي يصون حقوق كل أطرافه, ويساوي بينها, واستمرت وحدتها على أساس انها مجتمعات سياسية, فتقدم الانتماء السياسي, على الانتماء الديني والعرقي, وذلك هو ما حافظ على وحدة الدول الغربية, التي تكيل بكيلين في هذه المسألة وفي غيرها, وهو العيب الذي أخذناه عنهم, بينما لا نأخذ بكثير من مزاياهم!

Email