بعيدا عن التفاؤل المفرط او التشاؤم المطلق، هل الضحك ضرورة بشرية؟ بقلم: د. مصطفى رجب

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتعدد الآراء وتختلف الاجتهادات حول (ظاهرة الضحك) , هل سلوك تافه لا ضرورة له؟ ام حركة فزيولوجية لا اكثر؟ ام انه موضوع فلسفي معقد؟ ام هو مظهر للأسى والحزن, على رأي من يقول: شر البلية ما يضحك. الاجابة الجامعة المانعة قد تكون صعبة, وربما مستحيلة, لكن ذلك لايمنع طرح المسألة ومناقشتها من وجوهها المختلفة وجوانبها النفسية والاجتماعية والفلسفية والعلمية, ولكل حقه في ابداء رأيه وتقديم وجهة نظره . هذا العصر تتزايد فيه ضغوط الحياة, وتختلط فيه لفحات السعار الانساني المتزايد نحو امتلاك وسائل الدمار والخراب, وتتفاقم فيه المشكلات على مستوى العلاقات الانسانية الصغيرة بين الناس, وعلى مستوى العلاقات الدولية, وكلما اخفقت الامم المتحدة في خفض حدة التوتر او حل التراعات المسلحة, ازداد تشاؤم الناس ازاء حياتهم: حاضرها ومستقبلها. واذا كان الناس يتداوون من الجراثيم والميكروبات بالمضادات الحيوية, فإن الفكاهة والسخرية من المضادات (فوق الحيوية) التي لها فعل السحر في محاصرة القلق وارغامه على رفع راية التسليم, وهي من الاسلحة الفعالة ــ المجربة ــ ضد الاكتئاب بشرط ان يتم تعاطيها بجرعات مناسبة وطبقا للارشادات والضوابط والشروط التي يجدها القارىء في نهاية هذا المقال. الفلاسفة والضحك ما أن يتناول الفلاسفة موضوعا واضحا بسيطا, حتى يتحول على ايديهم الى موضوع شديد الغموض, كثيف التعقيد, وقد كان من سوء طالع الفكاهة ان امتدت اليها تلك الايدي الغلاظ فأحالتها الى موضوع علمي يتجرعه القارىء ولا يكاد يسيغه, حتى ان احد كبار الكتاب الفكهين في العالم وهو العالم والصحفي المجري جورج مايكس مؤلف كتاب (كيف تكون غريبا) الذي صدر عام 1946م, والذي بيعت من كتبه عدة مليارات كما اخبره الناشرون, هذا الرجل كان يسخر من تناول الفلاسفة لموضوع الفكاهة فيقول: (ان كتبا مملة الفت في الفكاهة اكثر مما الف في اي موضوع آخر) . وبالرغم من ذلك فلا مناص من ان نعرج على رؤى الفلاسفة ــ المفهومة ــ لموضوع الفكاهة, فعلى سبيل المثال كان افلاطون يقول: (اننا نضحك من المصائب التى تنزل بأصدقائنا) . وكان من رأي ارسطو ان السخرية من انسان ما تعني شتمه واهانته, في حين كان شيشرون يرى ان السبب الحقيقي للضحك هو عيوب الآخرين وعاهاتهم. اما برجسون فكان يرى ان الضحك وسيلة من وسائل التأديب والتهذيب وكان يدرك تماما ــ ووافقه على ذلك فرويد فيما بعد (ما يتسم به الضحك من طابع القسوة والعدوان) . ويرى العالم الانثروبولوجي الدكتور احمد ابو زيد ان معظم الكتابات في موضوع الفكاهة تفتقر الى روح الفكاهة والمرح, بل ان بعضها يتمتع بدرجة كبيرة من (كثافة الظل) التي لاتتناسب اطلاقا مع طبيعة الموضوع الذي تعالجه. كما لاحظ ابو زيد ان موضوع الفكاهة شغل كثيرا من الكتاب والادباء والفلاسفة, ولكنه لم ينل سوى قسط ضئيل من اهتمام المشتغلين بالعلوم السلوكية (كالادارة والتربية وعلم النفس وغيرها) وذلك ــ في رأيه ــ راجع الى سببين: ــ الاول: ما ذهب اليه آرثر كيسلر ــ احد كتاب الفكاهة ــ من ان الفكاهة نوع من النشاط الذي لايخدم غاية نفعية معينة بالذات. ــ الثاني: انها نوع من النشاط غير الموجه, بمعنى انها لا تسعى الى تحقيق هدف محدد. غير اننا نرى ان اعراض المشتغلين بالعلوم السلوكية عن دراسة الفكاهة لايرجع الى السببين السابقين ــ المتصلين بالفكاهة نفسها ــ بقدر ما يرجع الى اولئك الباحثين انفسهم, فمعظمهم يجب ان يرتدي مسوح العلماء, ويصطنع وقار الحكماء, ويتخذ مناهج اصحاب العلوم الطبيعية (المعيارية) , وكأنهم يرون في كل ما يتصل بالنفس الانسانية ــ في قوتها وضعفها ــ مساسا بأبراجهم العاجية فهم يعزفون عن دراسة الفكاهة لشدة ما يستبد بمعظمهم من كآبة وشرود واحساس زائف بالعظمة والهيبة. تفسير الضحك.. مضحكة وقد طبل الكثيرون وزمروا لآراء برجسون في تفسير سر الضحك التي بثها في كتابه (الضحك) الذي راج مطلع القرن العشرين وترجم الى كثير من اللغات ــ ومنها العربية ــ عدة مرات. فمن افكار برجسون في هذا الكتاب ان الضحك غريزة جماعية بمعنى ان الضحك في جماعة يتخذ معنى اكثر من ضحك الانسان بمفرده, هذا اذ جاز ان الانسان يضحك بمفرده, ومن افكاره ايضا ان الانسان يضحك لما في سلوكه ــ غالبا ــ من جمود, كما كان يرى ان التكرار الآلي في سلوك الانسان سبب كاف للضحك. ولكن آراء برجسون تلك لم تلبث ان تلاشت وبهتت بعد ان رد عليها المتخصصون فيما بعد, ولاسيما كيسلر الذي رد على الآراء السابقة على النحو التالي: 1ــ ان الزعم بان الانسان يضحك في اطار الشعور الجماعي مردود عليه بان هذا ليس سلوكا خاصا بالضحك, بل ان كثيرا من سلوكيات الافراد تنتج عن (العدوى) الاجتماعية, مثل السعال الذي يحدث من احد الافراد في المسرح مثلا او السينما فينتقل ــ لا شعوريا ــ لمعظم الجالسين, ومثل البكاء الجماعي الذي يحدث من الأطفال إذا بكى أحدهم, وهكذا. 2 ــ والزعم بأن الضحك سببه الجمود فقط غير صحيح إذ لو صح فسيكون ما في التماثيل والوحدات والآثار القديمة من جمود مدعاة للضحك وهذا غير صحيح. 3 ــ أما الزعم بأن التكرار الآلي في سلوك الانسان سبب كاف للضحك, فهذا أيضا غير صحيح لأن الاستماع إلى ضربات القلب, أو رؤية انسان يعاني من تكرار حركات عصبية (كالمصابين بالشلل الرعاش مثلا) كل ذلك لا يدعو للضحك بل يدعو للشفقة أو الرثاء وربما الحزن. وعلى ذلك فإن التفسيرات التي قدمها برجسون وغيره من الفلاسفة لم تقو على البقاء وأصبحت في مجال اللوم الاجتماعية مجرد تأريخ لدراسة ظاهرة تستعصي على التفسير. التفسير المقبول؟ ومع ذلك فإن هناك تفسيرا مقبولا للضحك من وجهة نظرنا, وهذا التفسير يقوم على أساس ان الضحك امر نسبي يختلف من انسان إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع, فما أراه أنا مضحكا قد يرى فيه غيري ما يثير الأسى, والعكس صحيح. ومن هنا ذهب جورج مايكس إلى ان الفكاهة لا تتوقف على الموقف المضحك بل تتوقف على نظرة الانسان إلى الأمور والفرق الوحيد بين الكاتب الساخر والرجل الصارم المعادي للفكاهة هو ان الأول ىرى في كل المواقف ما يضحك والثاني يرى في كل تلك المواقف ما يثير البكاء. لماذا يجب ان نضحك إذن؟ إذا كانت اجتهادات العلماء في محاولة تفسير الضحك قد باءت بالازدراء, فإن الحجج التي قدموها لاقناعنا بأهمية الضحك والفكاهة في حياتنا حظيت بالقبول لأنها تلبي الحاجات النفسية والفسيولوجية للانسان, ولا حاجة بنا هنا لاستعراض (الحجج) الطبية التي قدمها علماء الصحة في هذا الصدد من حيث فائدة الضحك في تنشيط الدورة الدموية وما يتصل بذلك من انقباض وانبساط عضلات الوجه في حالتي السرور والحزن, فكل ذلك مبسوط في المقالات والأبحاث العلمية المتخصصة. ولكننا هنا نتوقف أمام تفسيرين غريبين لأهمية الضحك: الأول: مستقى من الفلكلور الصيني الذي يحتفظ بأقصوصة ملخصها ان أحد العلماء بعد ان بلغ السبعين من عمره رزقه الله تعالى بطفل فكأنه رأى فيه مكافأة له على جهاده طوال عمره المديد فأسماه (العمر), وفي العام التالي رزق بمولود آخر تبدو عليه أمارات الذكاء فأسماه (التعليم) ولم يكد العام يمر حتى رزق بمولود ثالث فضحك كثيرا من عجائب القدر الذي أتاح له ان يكون أبا لثلاثة أطفال وهو في مرحلة توديع الحياة, وخطرت له ــ وهو يضحك ــ خاطرة عجيبة هي ان يسمي ابنه الثالث هذا (الفكاهة). وتقدمت السن بالعالم الكبير حتى كبر أولاده, وذات يوم خرجوا جميعا إلى الجبال ليحتطبوا فلما عادوا سأل الرجل زوجته عن كمية الحطب التي أحضرها كل منهم فقالت: زوجته: (لقد عاد (العمر) بحفنة من الحطب, أما (التعليم) فلم يعد بأي شيء, ولكن (الفكاهة) عاد بكومة كبيرة من الحطب. ومغزى هذه القصة/ الاسطورة واضح فهي تشير إلى ان الحياة العادية الرتيبة (العمر) ذات عائد قليل, وان (التعليم) في ذاته لا طائل من ورائه وان الحياة المرحة (الفكاهة) هي الأكثر جدوى وحيوية. وبتعبير العالم السويدي كريستوفر شبير أستاذ الدراسات الصينية الشعبية بجامعة باريس, فإن هذه القصة الصينية تصوير للحكمة الصينية الشعبية التي تنادي بأن قليلا من الفكاهة في الحياة يمكن ان يكون أكثر فائدة من الخبرة أو من التعليم. والتفسير الثاني لأهمية الضحك للعالم السوفييتي يوري بورييف الذي يقول: في عصرنا الحاضر ــ عصر الطاقة الذرية ــ يعتبر الضحك السلاح الوحيد النافع المفيد, وذلك لأنه سلاح للبناء والتعمير, لا التدمير والتخريب. والقارئ العربي الذي يتابع أي صحيفة عربية اليوم يجدها مكتظة بأخبار الحروب والنزاعات والزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية كالسيول والبراكين, والكوارث المفاجئة كحوادث تصادم القطارات وسقوط الطائرات وجنوح السفن والاغتيالات والارهاب..إلخ. ولا توجد في أية صحفة عربية ــ إلا ماندر ــ صفحة للفكاهة تخفف من عناء بقية صفحاتها التي تزرع الكآبة في الصفحة الأولى وتُرويها ببقية الصفحات فإذا وصل القارىء إلى الصفحة الأخيرة ارتفع عنده ضغط الدم واختلت نسبة السكر, وبدأت علامات السعال ومقدمات الامساك بصفحة الوفيات ورسوم الكاريكاتير التي تمثل ــ غالبا ــ النافذة الوحيدة التي تطل على عالم المرح. الضحك عند العرب أما العرب فهم أولى الأمم بالضحك لكثرة ما في بلادهم من المضحكات المبكيات, وقد حفلت كتب التراث القديم بنماذج هائلة من المواقف الفكهة الممتعة حقا كما نرى في كتاب الابشيهي (المستطرف من كل فن مستظرف) ومعظم كتابات الجاحظ, بل ان الجاحظ أفرد كتاب (البخلاء) وبعض رسائله للفكاهة الهادفة حقا الممتعة حقا في آن واحد. وفي العصر المملوكي عرف تراثنا الأدبي شاعرا خطيرا في الفكاهة هو (ابن سودون) الذي كتب شعره بطريقة غريبة فهو ينظم المعاني الفارغة السطحية لتبدو وكأنها حكمة خالدة!! كما أرخ الجبرتي في تاريخه لرجل يدعى (عامر الأنبوطبي) نظم ألفية في الأطعمة على غرار ألفية ابن مالك في النحو و اللغة, وذكر الجبرتي منها مطلع قوله في ألفيته: يقول عامر هو الأنبوطي أحمد ربي لست بالقنوط واستعين الله في ألفية مقاصد الأكل بها محوية فيها صنوف الأكل والمطاعم لذت لكل جائع وهائم على غرار قول ابن مالك: قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك وأستعين الله في ألفية مقاصد النحو بها محوية فإذا قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم قال الشيخ عامر: طعامنا الضاني لذيذ للنهم لحما وسمنا ثم خبزا فالتقم وللشيخ عامر هذا معارضة فكاهية شهيرة للقصيدة المعروفة باسم (لامية العجم) للطغرائي ومطلعها: أصالة الرأي صانتني من الخطل وحلية الفضل زانتني لدى العطل فيقول الشيخ عامر معارضا: أناجر الضأن تريات من العلل وأصحن الرز فيها منتهى أملي أريد أكلا نفيسا استعين به على العبادات والمطلوب من عملي والدهر يفجع قلبي من مطاعمه بالعدس والكشك والبيصار والبصل ويعارض لامية عمر بن الوردي الشهيرة (اجتنب ذكر الأغاني والغزل) فيقول: اجتنب مطعوم عدس وبصل في عشاء فهو للعقل خبل واحتفل بالضأن إن كنت فتى زاكي العقل ودع عنك الكسل من كباب وضلوع قد زكت أكلها ينفي عن القب الوجل

Email