الانتماء العرقي والموضوعية الفكرية: بقلم - د. تيسير الناشف

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتناول كتاب من باحثين ومفكرين وادباء شتى المسائل في مجالات الحياة ينتمون الى قطر واحد او الى بلدان وقارات وثقافات وحضارات مختلفة. واحيانا كثيرة تجري مناقشات بينهم في اطار الرغبة في دعم حجة من الحجج او دحضها او تبيان مواطن القوة والضعف فيها , وتكثر في الوقت الحاضر المسائل الحيوية التي يتفق او يختلف عليها الكتاب العرب والغربيون, ويبدو ان نقاط الاختلاف اكثر من نقاط الاتفاق بينهم, فالسياسة والاقتصاد والتاريخ والحضارة والثقافة والتراث والماضي والحاضر والمستقبل والتقدم والنهضة والحداثة والدور الحضاري للعرب واثر البيئة الاجتماعية والسياسية في التنمية ودور الغرب في عرقلة التنمية او النهوض بها في العالم الثالث ودور الدين في شؤون الدنيا ووقوع او عدم وقوع الغزو الثقافي الغربي ومكونات الشخصية العربية والمصالح الاقتصادية الغربية, ــ هذه كلها من المسائل التي يتناولها كتاب عرب وغربيون ــ في هذا التناول يحدث احيانا التقاء فكري بين كتاب عرب وغربيين ولكن في الاغلبية الكبيرة من الحالات, وخصوصا في حالات تناول القضايا السياسية وقضايا التحيز الغربي والقضايا المتعلقة بالسياسات الخارجية التي تتخذها بلدان غربية تجاه الشعب العربي وقضاياه الجوهرية والمصيرية, تختلف افكار مفكرين عرب وغربيين وتتباعد وتتناقض احيانا كثيرة. وتقوم طرائق مختلفة للتوصل الى الاستنتاج العلمي الذي هو على قدر اكبر من الموضوعية ومن غير الممكن التوصل الى الموضوعية التامة لاسباب من اهمها انه يستحيل فصل الذات عن الموضوع وللتوصل الى ذلك الاستنتاج يجدر بالكاتب الباحث المفكر المحلل ان يراعى تلك الطرائق من قبيل القيام بالملاحظة ومحاولة توخي قدر اكبر من الحيدة حيال الموضوع قيد النظر والبحث ومحاولة التسلح بقدر اكبر من الموضوعية ومحاولة تحقيق قدر اكبر من فصل الذات عن الموضوع او محاولة تقليل ارتباط الموضوع بالذات, وغيرها من الطرائق. ان مدى اتسام فكرة او استنتاج من الاستنتاجات بالموضوعية او مدى صحة تلك الفكرة او الاستنتاج لا يتوقف على الانتماء العرقي او الحضاري او القاري لمن قام بالدراسة ولكن يتوقف على مراعاة ذلك الدارس للطرائق المذكورة اعلاه وغيرها التي يطبقها للتوصل الى الاستنتاج الاكثر موضوعية وصحة. واذا كان مدى اتسام استنتاج من الاستنتاجات بالموضوعية والصحة متوقفا على ذلك الانتماء فان ذلك يكون بمقدار اتساق مضامين ذلك الانتماء مع مراعاه تلك الطرائق. وبالنظر الى عدم توقف اتسام استنتاج بالموضوعية على الانتماء العرقي او الحضاري او القاري فمن الخطأ الجسيم الذي لا يغفر ان تنسب الى استنتاجات كاتب من قارة او حضارة معينة, كاتب اوروبي, مثلا, صفة تحليها بقدر اكبر من الموضوعية او الصحة او الدقة لمجرد ان ذلك الكاتب اوروبي, او الا تنسب الى استنتاجات كاتب من حضارة او قارة اخرى, كاتب عربي, مثلا, صفة تحلي كتابته بقدر من الموضوعية او الدقة او الصحة لمجرد ان الكاتب عربي او ان ينسب الى كاتب من اوغندا مثلا قدر محدود وضئىل من الموضوعية والصحة لمجرد انه من افريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. هذا الميل الى اصدار ذلك الحكم سمة من سمات عدد لا يستهان به من الكتاب الغربيين. ولدى عدد لا يستهان به من الكتاب العرب وغير العرب انطباع, قد يبلغ حد اليقين, قائم على قراءة كتابات في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس في الغرب والوطن العربي وبلدان من سائر العالم الثالث ــ انطباع بأن نسبة الكتاب الغربيين الذين يصدرون هذا الحكم اكبر من نسبة الكتاب غير الغربيين. وتقوم اسباب للمدى الاكبر من انتشار هذه الظاهرة الاكثر شيوعا في الغرب ــ ظاهرة نسبة او عدم نسبة الكاتب للموضوعية في الاستنتاج الى الكتاب حسب انتمائهم العرقي او القاري او الحضاري. واحد هذه الاسباب هو اعتقاد كتاب غربيين بأنهم يفوقون كتابا من بلدان غير غربية فكرا. والسبب الآخر لذلك هو مدى معرفة الكاتب للشعوب الأخرى. يبدو ان الكتاب غير الغربيين لديهم في المتوسط قدر من معرفة الشعوب الغربية اكبر من قدر معرفة الكتاب الغربيين للشعوب غير الغربية. ان كتابا غربيين ــ اذ تقل معرفتهم بالشعوب غير الغربية واذ يعتقدون انهم متفوقون فكرا وعقلا على الكتاب غير الغربيين ــ يظنون ان استنتاجاتهم اكثر موضوعية وان استنتاجات الكتاب غير الغربيين اقل موضوعية. وينبري طبعا مفكرون عرب لديهم مواقفهم الفكرية ويحاولون تبيان العيوب التى تعتور افكار مفكرين غربيين من قبيل الخطأ او النقص او التحيز او الانتقائية. ومن الملاحظ ان كتابا عربا لا يستهان بعددهم لديهم تحمس ــ لدى محاولتهم تبيان تلك العيوب للاستناد الى استنتاجات بعض المفكرين الغربيين الذين تماثل او تشابه مواقفهم الفكرية مواقف المفكرين العرب او للاقتباس من كتاباتهم. في حالات يكون اولئك الكتاب الذين استندوا الى استنتاجات مفكرين غربيين محقين في ذلك الاستناد بالنظر الى ان اولئك الكتاب لعلهم تيقنوا من ان اولئك المفكرين قد توخوا الطرائق العلمية في التوصل الى الاستنتاج. وفي حالات اخرى ليس لدى المرء شعور او اقتناع بأن الكاتب العربي الذي قام بالاستناد قد تيقن فعلا من توخي المفكر الغربي لهذه الطرائق. ولدى المرء احيانا شعور بأن الكاتب يعتقد بأن سوق استنتاج توصل اليه مفكر غربي من شأنه ان يكون أشد دعما لموقف ذلك الكاتب من سوق استنتاج داعم لموقفه توصل اليه مفكر غير غربي لا عيب طبعا في القيام, دعما لموقف فكري معين, بالاستناد الى استنتاجات مفكرين آخرين بغض النظر عن الانتماء العرقي او القاري او الحضاري لأولئك المفكرين ما داموا قد توخوا في التوصل الى ذلك الاستنتاج الطرائق العلمية اللازم توخيها لتحقيق قدر اكبر من الموضوعية. ان الاستناد الى استنتاجات فكرية لآخرين والاقتباس من كتاباتهم ــ دعما لموقف فكري معين ــ يحفل بهما التاريخ الفكري للبشر. غير انه ــ من منطلق ان توخي الموضوعية ليس محددا بالانتماء العرقي او القاري او الحضاري ــ من المرفوض والمستهجن ان يولي المفكرون قدرا اكبر من الاهمية لكتابات مفكرين غربيين لمجرد انهم مفكرون غربيون. من المرفوض علميا وموضوعيا وانصافا ان يعمد المفكرون بتحمس الى الاستناد الى موقف فكري غربي دعما لموقف اولئك المفكرين لمجرد ان ذلك الفكر غربي وان صاحبه غربي. قابلية او عدم قابلية الاستناد الى موقف فكري ــ سواء كان صاحبه اوروبيا او افريقيا او يابانيا مثلا ــ لا يحددها الانتماء العرقي او القاري او الحضاري ولكن يحددها قدر ذلك الموقف الفكري من الموضوعية والدقة والصحة. ان ما قد يجعل كتابات المفكر الغربي صالحة للاستناد اليها ليس كون المفكر غربيا ولكن مدى مراعاة ذلك المفكر للطرائق التي سبق ذكر قسم منها والتي تقر ب الى الخلوص الى استنتاجات اكثر موضوعية. واذا كان ذلك المؤلف الغربي لم يتوخ في كتاباته تلك الطرائق ولم يخلص الى استنتاجات ذات قدر اكبر من الموضوعية فهي ــ اي كتابات ذلك المؤلف ــ لا تصلح لان تكون مصدرا يستند او يرجع اليه او يقتبس منه او يستشهد او يعتد به. ولا يستحق تلك الكتابات العربية الاستناد اليها اكثر من استحقاق كتابات غير غربية تتسم بقدر اقل من الموضوعية لذلك الاستناد. وبعبارة اخرى, مربط الفرس ليس الانتماء العرقي او القاري او الحضاري للمفكر ولكن استخدامه للطرائق المفضية الى الخلوص الى استنتاجات لها قدر اكبر من الموضوعية. واذا انتهجنا هذا النهج ــ في الاستناد الى كتابات المفكر الغربي لمجرد انه غربي, والرجوع اليها والاستشهاد بها باعتبارها موضوعية وصحيحة ودقيقة دون التيقن من مراعاة ذلك المؤلف للطرائق المفضية الى استنتاجات على قدر اكبر من الموضوعية ــ نكون بذلك قد تنكرنا لهذه القاعدة وقبلنا بالمقولة الخاطئة والمرفوضة, مقولة التفوق الفكري الغربي على الفكر غير الغربي وتفوق المفكرين الغربيين على المفكرين غير الغربيين لمجرد انه فكر غربي ولمجرد انهم مفكرون غربيون.

Email