التاريخ ينير الحاضر، كردستان ... ملف العقد القادم من القرن الجديد،بقلم: د. أحمد القديدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

شلال دافق من المعرفة التاريخية والحضارية والاستراتيجية هطل على ذاكرتي حين كنت ارى مثل كل الناس على شاشات التلفزيونات صور القرصنة التركية الاسرائيلية التي خطفت عبدالله أوجلان في كينيا وما تبع ذلك مما يعرفه العالم من خزي وعار وتداعيات. شلال دافق من تاريخ الشعب الكردي المسلم البطل الصامد انهال على ذاكرتي وذهني , ولعل أبرز ملاحم الدولة الايوبية الكردية التي قامت بمصر عام 569هــ (1173م) واتسع سلطانها الى سوريا والجزيرة العربية وكردستان وارمينيا وامتد انتشار الاسلام وحماية ثغوره الى وفاة صلاح الدين الايوبي 589هـ (1193م) بعد استرداد القدس الشريف من الصليبيين.. ويعود الفضل للاكراد في هزيمة المغول عام 680 هــ (1281م) في سوريا مما كان ايذانا تاريخيا بنهاية الحروب الصليبية الى جانب موت القديس لويس التاسع في قرطاجة بتونس عام 672هــ (1270م) ثم جاءت نكبة الاكراد الطويلة حين ارادت الجغرافيا وضعهم ما بين السلاطين العثمانيين وملوك الدولة الصفوية في ايران حيث كانت كردستان مسرحا للقتال الضاري على مدى عشرات السنين بل على مدى قرون اذا استثنينا عهود الهدنة القصيرة والسلام الهش. جاءت كل هذه المعلومات القيمة في أفضل كتب التاريخ الكردي, أي كتاب الوزير العراقي الأسبق محمد امين زكي والذي صدر باللغة الكردية عام 1931 وتعرضت له بالدرس مجلة السياسة الدولية في عدد يناير 1999. ويذكرنا الكتاب بدور الاكراد في تأسيس الخلافة العباسية وتوطيد اركانها وتضحياتهم حين دافع الباز أبو شجاع الكردي عن حقوق ومكاسب الخلافة العباسية وهو الذي اوقف سيول جيوش (الغز) المتدفقة على البلاد الاسلامية. وتواصل جهاد الشعب الكردي الى قرار معاهدة (سيفر) في العاشر من اغسطس 1920 والقاضي بانشاء دولة كردية مستقلة على اساس ان الخلافة العثمانية لم تعد قائمة وان القوميات العربية والارمنية والبلقانية والكردية ستتمتع بدول مستقلة. والذي جرى سجله التاريخ الحديث بسطور من دم وخزي حيث التف كمال اتاتورك على المعاهدة وانقض على اسلام الشعب التركي لصهره في دين جديد يسمى الكمالية له طقوسه وتعاليمه.. وكان الشعب الكردي أول من تحمل تلك المصيبة وضاعت كردستان بين تركيا الكمالية وإيران الشاهنشاهية وسوريا والعراق وأرمينيا وهي دول كانت بصدد التشكل. ومند خمسين عاما صدر وعد الرئيس الامريكي روزفلت باقامة دولة كردية ــ نفطية ــ هذا ما ذكرنا به البروفيسور كابوري حين اكد بأن انهيار الشيوعية سيحول حزب العمال الكردستاني الى حزب اسلامي كردستاني. ويرد الاستاذ الدكتور محمد حرب احد ابرز الخبراء المختصين في تاريخ تركيا الحديث على هذه الرؤية قائلا: ان الماركسي الكردستاني لا يختلف عن الاسلامي الكردستاني من حيث ارادة دولة كردية مستقلة (مجلة السياسة الدولية عدد يناير 99 ص 123). فالزعيم الكردي عبدالله أوجلان هو نفسه خفف من حماسه للدولة الكردية المستقلة وحصر طلبه في حكم ذاتي تدريجي, كما تخلى منذ سنتين عن الكلفاح المسلح ليسلك طريق الدبلوماسية والمفاوضات. فالشعب الكردي يتركب من 35 مليون نسمة وهو ليس شعبا هجينا أو يتيم حضارة بل هو شعب مسلم اسهم الى حد كبير في اعلاء كلمة الحضارة الاسلامية ومن المستحيل ان يتواصل قطع اشلائه الى 15 مليون كردي في تركيا و 7 ملايين في ايران و5 ملايين في العراق وحوالي 8 ملايين موزعين بين سوريا وارمينيا وجورجيا وبلاد المهجر الاوروبية والامريكية! والذي طرأ في السنوات الاخيرة على المسألة الكردية هو المخطط الامبريالي الامريكي الاسرائيلي الذي اصبح يدفع المؤسسة العسكرية التركية الى عمليات استئصال الكفاح الكردي في تركيا وفي العراق. ويقول د. وليد عبدالناصر في دراسة بعنوان (الاكراد واسرائيل) (نفس المصدر ــ ص 130) بأن اسرائيل مهمومة بتثبيت شرعيتها وتعزيز مصالحها على حساب الاكراد ويهمها اشعال حروب عنصرية وأثنية تضعف تركيا وسوريا وايران وتلهيهم تحسبا للمستقبل مما يعطي اسرائيل ــ كما هو الحال اليوم في تركيا ــ قوة وحضورا ودورا تخدم جميعها مستقبل اسرائيل وتغولها في الشرق الاسلامي. هذا بالاضافة الى ان حكومة اسرائيل استخدمت ورقة اقلية من الاكراد تعيش في اسرائيل للتأكيد بأن ليس لهم الحق في كيان مستقل كالفلسطينيين وبقية الأعراف الاخرى. ونذكر هنا للتاريخ بأن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كان منصفا ازاء الشعب الكردي وكان يعتبره شعبا اصيلا وفتح للاكراد اذاعة كردية في القاهرة عام 1985 بعد ان عرض عليه الزعيم الكردي مصطفى البرزاني المشاركة الفعالة في صد العدوان عن السويس عام 1956. وكانت مواقف عبدالناصر تصب في مصلحة الوفاق بين القوميتين العربية والكردية لقطع الطريق في وجه العنصرية الاسرائيلية وموظفيها من غلاة الامبريالية الغربية. كل ذلك الشلال الدافق من ذكريات الشعب الكردي تزاحم في ذهني, بمناسبة محنة عبدالله أوجلان, وهي محنة ستكون ــ شئنا ام ابينا ــ شرارة اندلاع حركة قومية كردية أكثر فهماً للخريطة الدولية الجديدة وأوفر ذكاء في التعامل مع التناقضات العالمية الراهنة... بل اني لا اتردد في القول بان العقد الاول من القرن الحادي والعشرين سيكون عقد القضية الكردية... سواء بعبدالله أوجلان الآن أو بخلفائه من الزعماء الاكراد. فلتكن هذه الحقيقة حاضرة في اذهان وحسابات الدول العربية., حتى لا تفاجأ كعادتها بتيار التاريخ الجارف يأخذها طوفانه الجبار العنيد على حين غفلة.. كما هو شأنها من زمن بعيد... بعيد.

Email