عالم تشكله الحروب: بقلم- محمد وقيدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

اذا نظرنا الى العالم المعاصر في ضوء مكوناته وجدنا ان الحروب لعبت دورا أساسيا في تكوينه, سواء تعلق الأمر بتكوين خارطته الجغرافية أو تعلق بتكوين التصورات المختلفة لأطرافه بعضها عن البعض الآخر, أو تعلق بالعلاقات السياسية والاقتصادية وعلاقة القوة بين البلدان المختلفة . كانت الحروب في نظرنا من أهم مكونات العالم المعاصر. واذا كنا قد استخدمنا هنا كلمة الحروب في صيغة الجمع, فإن المقصود لدينا من ذلك لا يقف عند الاشارة الى كمها فحسب, بل المقصود ايضا هو الاشارة الى تنوعها وتعدد أشكالها والغايات منها واختلاف أشكال تأثيرها في العلاقات القائمة اليوم بين بلدان العالم. اذا كنا نقول بأن الحروب لعبت دورا أساسيا في تشكيل عالم اليوم, فإن ذلك لا يعني انها لم تلعب هذا الدور الا في الزمن المعاصر لنا, فوقائع التاريخ الانساني شاهدة على ان الحروب غيرت مجرى حياة الأمم والحضارات, وانها كانت في كثير من الاحوال علامة على تحول تاريخي وعلى الانتقال الكيفي من عصر الى آخر. كانت الحروب في كثير من الاحيان علامة على نهاية أو اعلانا عن بداية, فقد كانت الوسيلة التي يتم بفضلها انهاء عهد من عهود التاريخ وما يرتبط به من سيادة نوع من السيادة لحضارة ما أو لأمة ما على عداها, أو علامة على انهاء نوع من الحكم داخل بلد ما وقيام حكم بديل, أو كانت علامة كذلك على انهاء خلافات وحلها بوسيلة القوة بعد ان يكون الطرفان الداخلان فيها قد استنفدا سبلا اخرى. وكانت الحروب من جهة اخرى الوسيلة التي يعلن بها كيان ناشىء عن وجوده القوي, وتعلن بها حضارة جديدة عن قيامها, أو يعلن بها نظام سياسي ومجتمعي جديد عن بزوغه. خلاصة القول, ان الحرب مفتاح لفهم التاريخ لأنها تعبر بصورة تركيبية عن جملة من العوامل الفاعلة فيه, ولأننا يمكن ان نتعرف بفضلها على لحظات الاستمرار والانقطاع في ذلك التاريخ. لكن, حين نعود الى عالم اليوم فإننا نؤكد ان دور الحروب في تشكيله على جميع المستويات قد اصبح اكثر وضوحا. ونفسر ذلك بما سبق لن التعرض له من قول بوحدة العالم المعاصر, حيث لعب التقدم العلمي والتقني, الذي شمل كل ميادين الحياة بما فيها ميادين التسلح وأساليب القتال, دورا في توحيد العالم الذي لم تعدو وقائعه السياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية والعسكرية منفصلة بفعل التباعد الجغرافي. لم يعد الانفصال الجغرافي عائقا للاتصال الحضاري سواء أكان سلما أو حربا. وقد غدت مصالح البلدان المكونة للعالم المعاصر مترابطة رغم التباعد الجغرافي بينها, فصارت النزاعات بينها حول هذه المصالح قائمة حتى وان كانت المسافات الفاصلة بينها كبيرة. وعندما نسمع اخبار عالم اليوم ونتعرف على وقائع تفاعله وصراعاته, يبدو لنا وكأنه لم تعد هناك قضية وطنية أو جهوية وأن الصفة العالمية قد أضيفت على كل القضايا التي تعيشها كل البلدان. اذا انتبهنا في ضوء ما قلناه الى عالم اليوم فإننا واجدون ان الحروب قد لعبت دورا كبيرا في تشكيله الجغرافي, فبفضلها انمحت بلدان واندثر ما كان لها من وجود وذاب وجودها في كيانات اخرى اكبر منها, كما اندرج تاريخها في صنع بداية تاريخ جديد لكيان اكبر. وبفضل الحروب ظهرت قوميات جديدة, أو عادت بعض القوميات والعصبيات الى الظهور بعد فترة خضوع لكيانات اخرى او اندماج قسري ضمن كيانات اكبر. أكثر الحروب تأثيرا لا شك في ذلك هما الحربان العالميتان اللتان طبع عنفهما النصف الأول من القرن العشرين, واللتان أثرت عواقبهما في النصف الثاني من هذا القرن نفسه. لكن هناك حروبا اخرى جهوية لا يمكن الاستهانة بعواقبها في تشكل واقع العالم المعاصر. لقد غيرت الحربان العالميتان من خارطة العالم المعاصر, فظهرت على اثرهما قوميات جديدة في أوروبا بصفة خاصة. غير انه كان لهما ايضا الاثر في القارتين الافريقية والآسيوية. كما انه ظهرت في غضونهما, ثم بعدهما, قوى عالمية جديدة كان لها الأثر في التطورات السياسية التي عرفها العالم منذ ذلك الوقت. لم تكن الحروب الجهوية اقل اثرا, اذ انها جاءت لترتيب المواقع والعلاقات في جهات متعددة من العالم. ولعل ما يسمى في خارطة عالم اليوم بالشرق الاوسط كان احد الجهات التي عرفت حروبا لعبت دورا ملحوظا في المسار السياسي لهذه المنطقة من العالم. ليست غايتنا, مع ذلك, هي تعداد حروب العالم المعاصر, بل اثبات السياق الجديد الذي ظهرت فيه, وهو وحدة العالم التي تحققت بفضل التقدم العلمي والتقني الذي سار, من جهة, في اتجاه تحقيق الرفه للانسان حين استخدم لأغراض انسانية وسلمية, وسار, من جهة اخرى, في اتجاه تهديد الوجود الانساني ووضع مصيره موضع سؤال حين استخدم لأغراض عسكرية وحربية. غايتنا, بعد هذا, ان نبرز انواع الحروب التي عرفها زمننا لأنها فيها ما لم يسبق له مثيل, اذ ان الانسانية التي تقدمت بفعل الثورات العلمية والتقنية المتلاحقة في هذا الزمن, تقدمت بفضل ذلك نفسه في وسائل صراعها وطرق هذا الصراع وغاياته. لقد أصبحت هناك انواع من الحروب لم تعرفها الازمنة السالفة لأنها لم تكن تملك الوسائل التي يمكن ان تخوضها بها, ولأنها عبر ذلك لم تكن قادرة على ان تتصور الغايات التي وجدت من أجلها تلك الحرب. هذا بعض مما نعنيه بالحروب التي تشكل العالم المعاصر. وما نود الاشارة اليه قبل ان نتعرض لأنواع الحروب الممكنة ولآثار كل نوع منها على عالمنا المعاصر هو ان هذه الأنواع متداخلة, وأن كل واحد منها قد يحتوي على خصائص من أنواع أخرى. النوع الأول هو حروب تصويرية تسبق الحروب الواقعية. ويعتمد هذا النوع من الحروب على بعض مظاهر التقدم العلمي والتقني أو على نتائج هذا التقدم. انها لا تقع في مكان, ولكنها تقع في زمان يسبق الحرب الواقعية. وتستغل هذه الحروب التقدم العلمي الحاصل في مجالات متعددة. في المجال الفيزيائي حيث أصبح التواصل الصوتي والتواصل بالصورة أقوى من أي عصر مضى, حيث تستغل الوسائل السمعية والبصرية لممارسة اعلام قوي يمهد للحرب التي ستقع بعده ويقدم رؤية كل جهة اليها, كما انه يقدم التأويلات المتعلقة بالوقائع التي تبررها. ومن الأكيد ان الأقوى اعلاميا هو المنتصر في هذه الحرب الاولى. وإلى جانب هذا النوع من التقدم, فإن الحملات الممهدة للحروب أصبحت تستغل في تطبيقاتها ما حصلت عليه العلوم الانسانية. النوع الآخر من الحروب هو ما نقترح ان ندعوه بحروب التوازن في العالم المعاصر. فهناك في العالم المعاصر وضع معين للعلاقات بين البلدان المختلفة والقارات والجهات المتباينة, وهو وضع يمكن ان نقبله بوصفه توازنا اذا ما انطلقنا من مبدأ معقولية ما هو واقع, كما يمكن ان ننظر اليه بوصفه اختلالا اذا ما نظرنا الى المعقول بوصفه ما يتجاوز الواقع الحالي ومظاهر الاختلال فيه وما يهدف الى إقامة علاقات أكثر عدلا بين بلدان العالم. ما نلاحظه في العالم المعاصر هو عدم التعادل بين البلاد المختلفة والجهات المتباينة من حيث قوتها, ومن حيث امكانياتها التي تسمح لها بالتدخل في توجيه السياسة العالمية. ان ما مر من تاريخ العالم منذ القرن التاسع عشر الى الآن, وهو التاريخ الذي شكل بوقائعه السلمية والحربية والعلمية والتقنية العالم المعاصر, قد أنتج فرقا واضحا بين دول ساهمت عوامل مختلفة في تشكيلها كقوة قادرة على توجيه مسار العالم المعاصر وبين دول أخرى توجد الآن في موقع التبعية على أصعدة كثيرة, وهو الموقع الذي لا تستطيع من خلاله ان تلعب الدور المؤثر في توجيه السياسة العالمية وفق رؤيتها ومصالحها. واذا كنا قد أشرنا الى ان المنظمات الدولية تأسست من اجل العمل على اقرار الشروط التي تمنع اسباب الحروب وتجعل السلام واقعا قائما ودائما, فإن ميزان القوى الذي تحدثنا عنه ايضا لا يظل خارج هذه المنظمات وينعكس داخلها وفي توجيه العمل بها. وهكذا, فإن البلدان الاقوى لها ايضا وجود أقوى في المنظمات الدولية, بل حوق اقوى في توجيهها. ما نلاحظه اليوم كذلك هو قيام صراع يتخذ اشكالا متعددة من اجل توازن جديد لا تكون خلفيته القوة المكتسبة عبر حروب وظواهر احتلال وهيمنة على اصعدة كثيرة, غير انه لا يمكننا ان نتنبأ بالنسبة لمستقبل قريب على الاقل بما يمكن ان يؤول اليه هذا الصراع, وبما اذا كان العالم يسير نحو حالة توازن جديد او نحو حالة اختلال اكثر ظهورا. حرب التوازن التي تحدثنا عنها لا تكون بين طرفين متمثلين في البلدان القوية والبلدان الضعيفة فحسب, بل ان هذه الحرب تدور ايضا بين البلدان القوية التي تتصارع بدورها حول مركز القرار والتأثير في السياسة العالمية. ولن نمتنع ايضا عن القول بأن مثل هذه الحروب تدور بين البلدان الضعيفة, وذلك لاتخاذ موقع لها ضمن التوازن العالمي يتيح لها ان تواجه صعوبات نموها. لقد دارت حروب التوازن هذه بعد الحربين العالميتين بين معسكرين كان كل منهما يتبنى نظاما سياسيا ومجتمعيا واقتصاديا مختلفا: المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي. غير ان الامر تغير عن هذه الصفة بعد التحولات العميقة التي عاشتها بلدان كانت في السابق محسوبة على المعسكر الثاني. ولذلك فقد انقلبت توجهات حروب التوازن نحو جهات اخرى, وفي ظننا ان الشرق الاوسط والشرق الادنى والاقصى صارا موقعين متميزين لهذه الحروب الجديدة التي تتخذ أشكالا متنوعة وتدور على أصعدة مختلفة. لقد انتهى ذلك الشكل الذي كان يسمى في التاريخ المعاصر بالحرب الباردة, والذي كان هدف كل معسكر فيه هو خلق الشروط الملائمة لاضعاف المعسكر الآخر, وقامت بدلا من هذه الحرب حروب أخرى لها غاية توازن جديد بعد نهاية الحرب الباردة. كاتب ومفكر مغربي

Email