مستقبل النظام الاقليمي العربي: بقلم- د. علي الدين هلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

ونحن نستقبل عام ,1999 الذي يعتبره البعض آخر أعوام القرن العشرين, بينما يعتبره آخرون العام الأول من القرن الحادي والعشرين, يصبح من الضروري أن نتناول مستقبل النظام الاقليمي العربي, والذي يقصد به الاطار التنظيمي للعلاقات العربية ــ العربية, بما يتضمنه من مؤسسات وأجهزة من ناحية, وقيم رموز سياسية من ناحية أخرى, خصوصا وأننا نعيش في عالم تتجه فيه الدول إلى اقامة أسواق حرة وتجمعات اقتصادية, مثل الاتحاد الأوروبي, والنافتا في أمريكا الشمالية, والآسيان في جنوب شرقي آسيا, والكوميسا في شرق افريقيا, والابيك بين الدول المطلة على المحيط الهادي. والاداء الجيد لهذه التجمعات يحفزنا إلى المقارنة بينها وبين أداء النظام الاقليمي العربي, ويدعونا إلى التساؤل عن حصاد عام 1998 عربيا, وعما نتوقعه, أو نتمناه, للنظام الاقليمي العربي, ونحن على أبواب الألفية الثالثة من التاريخ الميلادي. وإذا بدأنا بجرد حصاد عام ,1998 فإنه يمكن استخلاص أربعة اتجاهات عامة: أولها, تراجع التحدي, أو التهديد, الذي مثله مشروع وأفكار (الشرق أوسطية) للنظام العربي, ففي منتصف التسعينات, تصاعدت الجهود إلى اقامة مؤسسات شرق أوسطية, تهدف إلى تنظيم التعاون بين دول (الشرق الأوسط) , وجوهر هذا المشروع هو ادخال اسرائيل في شبكة العلاقات الاقليمية, كجزء من الترتيب الاقليمي لفترة ما بعد تحقيق التسوية السلمية للقضية الفلسطينية والصراع العربي ــ الاسرائيلي. وتمثل ذلك في أنشطة لجان المباحثات متعددة الأطراف, والتي عقدت اجتماعاتها في أكثر من بلد عربي. كما تمثل في سلسلة المؤتمرات التي عقدت تحت اسم (القمة الاقتصادية لدول الشرق الأوسط وشمال افريقيا) , والتي انعقدت في الدار البيضاء ,1994 والعاصمة الأردنية عمان ,1995 والقاهرة ,1996 والدوحة 1997. وفي هذا السياق, صدر كتاب شيمون بيريز, رئيس وزراء اسرائيل السابق, عن (الشرق الأوسط الجديد) , والذي دعا فيه إلى اقامة ترتيبات اقليمية على مستوى دول المنطقة كلها, بما فيها اسرائيل. وقد شهد عام 1998 توقفا لهذه الجهود, ارتبط بالجمود الفعلي لعملية التسوية السلمية, بسبب سياسات حكومة نتانياهو, والتي مثلت عودة للمفاهيم الاسرائيلية التقليدية التي تربط الأمن بالأرض وبالاستيطان على الأراضي الفلسطينية, ولم تتحمس حكومة الليكود لأفكار بيريز عن (الشرق الأوسط الجديد) , وعن التعاون الاقتصادي الاقليمي. وهو الأمر الذي انعكس على المباحثات متعددة الأطراف التي توقفت وأيضا على مؤتمرات القمة الاقتصادية. فلم يشارك وزراء خارجية أية دولة عربية في مؤتمر الدوحة عام ,1997 على عكس الحال بالنسبة لكل المؤتمرات السابقة, ولم ترسل اسرائيل وزير خارجيتها لحضور هذا المؤتمر. كما تمثل هذا التوقف في عدم انعقاد هذا المؤتمر في عام 1998. حيث أعلن المنتدى الاقتصادي, وهو الجهة المنظمة لهذه الاجتماعات, عدم استعداد أي طرف عربي لاستقبال المؤتمر, وتم تأجيل انعقاده إلى حين أن تتغير الظروف السياسية في المنطقة. أما الاتجاه الثاني, فهو التحسن المطرد لعلاقة دول النظام العربي بصفة عامة بدولتي الجوار الجغرافي الرئيستين إيران وتركيا. ففيما يتصل بإيران, فإنه مع بروز توجهات جديدة في سياستها الخارجية في عهد الرئيس محمد خاتمي, اتجهت علاقات إيران إلى التحسن مع مجمل الدول العربية, خصوصا بعد انعقاد قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في طهران في ديسمبر 1997. وعلى سبيل المثال, فقد شهدت العلاقات السعودية ــ الإيرانية تحسنا واضحا, تمثل ذلك في قيام الأمير سعود الفيصل, وزير الخارجية السعودي بزيارة لإيران, تم فيها ابرام عدد من اتفاقيات التعاون. وقيام رئيس مؤسسة تشخيص مصلحة النظام, الرئيس الإيراني السابق, هاشمي رافسنجاني, برفقة وفد إيراني رفيع المستوى بزيارة للسعودية, تم فيها ابرام العديد من الاتفاقيات في مختلف المجالات. كما توقفت الحملات الاعلامية المتبادلة بين القاهرة وطهران. ولأول مرة, منذ قيام الثورة الإيرانية, قام وفد برلماني مصري, في ديسمبر ,1998 بالمشاركة في مؤتمر دولي عقد في ايران. وتظل العقبة الرئيسية أمام استمرار هذا التحسن هي قضية جزر الامارات المحتلة من جانب إيران. وبخصوص تركيا, فقد بدأ عام 1998 بشكوك وانتقادات في عدد من الدول العربية ازاء التعاون العسكري بين تركيا واسرائيل, وان كانت لغة الانتقاد وحدته قد اختلفتا من عاصمة عربية لأخرى. وفي نهاية شهر أغسطس الماضي, توترت العلاقات بين تركيا وسوريا على نحو حاد, وأعلنت تركيا حالة التأهب العسكري على الحدود, متهمة سوريا بايواء عبدالله أوجلان, رئيس حزب العمال الكردستاني, وبسماحها لهذا الحزب بالتدريب العسكري في سوريا, أو في مناطق خاضعة للنفوذ السوري في لبنان. ونتيجة لتدخل سريع من الرئيس حسني مبارك, الذي استشعر خطورة الموقف, واحتمالاته السلبية على الوضع الاقليمي, فقام بزيارة لتركيا في اليوم السادس من أكتوبر, وفي غمرة احتفالات مصر بمرور ربع قرن على انتصارات حرب أكتوبر ,1973 فقد تم نزع فتيل الأزمة. وكان من شأن هذه الجهود, اعلان سوريا استعدادها للتعاون من أجل تهدئة الأزمة, والوصول إلى اتفاق بين الطرفين في 30 أكتوبر الماضي. وثالث هذه الاتجاهات, هو استمرار حالة الاضطراب وعدم الانسجام في السياسات العربية, وعدم الاتفاق على الأولويات المتعلقة بالتهديدات الموجهة إلى الأمن العربي. لذلك, فرغم استمرار الدعوة إلى ضرورة التضامن العربي والمصالحة العربية, ورغم الدعوة إلى ضرورة عقد مؤتمر للقمة العربية, فإن هذه القمة لم تنعقد خلال عام 1998. ولعل ردود الفعل العربية الرسمية تجاه الضربة العسكرية التي وجهتها الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق تكشف عن مدى التباين في مواقف الدول العربية. فبعض هذه الدول أدان الاجراء الأمريكي ــ البريطاني, واصفا إياه بالعدوان, وبأنه يمثل انتهاكا لقرارات مجلس الأمن وخروجا عن الشرعية الدولية. والبعض الآخر, أعرب عن قلقه وأسفه لما حدث. بينما اكتفى البعض الثالث, بالاعراب عن القلق والأسف, مؤكدا تعاطفه مع ما يواجهه الشعب العراقي من ظروف معيشية صعبة. ويمكن أن نسجل التفاوت نفسه بين المواقف الرسمية العربية من الضربة العسكرية الأمريكية للسودان, أو بالنسبة لموقف ليبيا من تسليم المتهمين في حادثة لوكيربي لمحاكمتهما في هولندا. أما الاتجاه الرابع, والأخير, فيتعلق بتفعيل العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية, من ذلك, انه في يناير ,1998 بدأ تطبيق البرنامج التنفيذي لاقامة سوق عربية حرة, والذي بمقتضاه, يتم الخفض التدريجي للرسوم الجمركية المفروضة على السلع العربية بنسبة 10% سنويا ولمدة عشر سنوات. كما نشطت اللجان الثنائية المشتركة بين الدول العربية, والتي تهدف إلى تسهيل التبادل التجاري بينها وبين بعضها البعض. وهكذا, فإن صورة النظام الاقليمي العربي, والعلاقات العربية ــ العربية, تبدو معقدة ومتشابكة, فمن ناحية, فقد تراجع مؤقتا تهديد (الشرق أوسطية) , بما يحمله من مخاطر ذوبان النظام العربي في اطار اقليمي أوسع, وبما يتضمنه من دخول اسرائيل كطرف فاعل في العلاقات الاقليمية, بل وكعنصر مؤثر في العلاقات العربية ــ العربية ذاتها. كما تحسنت تدريجيا العلاقات مع كل من إيران وتركيا. وظهر اهتمام أكبر بموضوع تنشيط العلاقات الاقتصادية, وتيسير التبادلات التجارية بين الدول العربية, ولكن ذلك لم ينعكس بصورة واضحة على حالة التضامن السياسي بين الدول العربية. والتي تنعكس, أول ما تنعكس, على مؤسسات جامعة الدول العربية, باعتبارها المنظمة الأم, والاطار الذي تنتظم فيه العلاقات العربية ـ العربية. وتتمثل المشكلة, في هذا الصدد, في أن الجامعة العربية لا تملك سلطة تتجاوز سلطات الدول الأعضاء فيها. وكما عبر عن ذلك د. عصمت عبدالمجيد, أمين الجامعة, بأنه لا يمتلك (عصا سحرية) لتحقيق التضامن العربي, فالجامعة في نهاية الأمر ليست سوى (مرآة) تنعكس عليها حالة العلاقات بين الدول العربية. فإذا اتفقت تلك الدول, وتراضت على موقف ما, نشطت الجامعة وتحركت بايجابية, أما إذا اختلفت وتناحرت, فإن الجامعة تصاب بالشلل والقعود. وهنا تثار قضية انعقاد القمة العربية, وضرورة انتظام انعقادها. وذلك بحكم ما تمثله اجتماعات القمة من معان ورموز, ازاء الرأي العام العربي وازاء العالم. والغريب, انه بينما تعطلت اجتماعات القمة العربية, فإن اجتماعات القمة على مستوى المنظمات الاقليمية الأخرى تنعقد بشكل دوري, مثل الاجتماع السنوي لقمة الدول الصناعية السبع الكبرى, والذي انضمت إليه روسيا, والاجتماعات الدورية لقادة دول الاتحاد الأوروبي, وقادة دول حلف شمال الأطلسي, والقمة الافريقية, وقمة دول الآسيان, وقمة دول الابيك.. إلى غير ذلك من تنظيمات. ومن الغريب أن يكون تبرير عدم انعقاد القمة العربية هو وجود اختلافات في الرأي بين الزعماء العرب, ذلك ان وجود هذه الاختلافات هو سبب ادعى للاجتماع بين القادة والرؤساء لبحث هذه الخلافات, وعرض وجهات النظر المختلفة حولها, والوصول إلى اتفاق أو حلول وسطى بشأنها, خاصة وان مستوى القمة هو وحده الكفيل بالمصارحة وتبادل الرأي والمشورة وتسوية الخلافات. وإذا كان انتظام انعقاد القمة العربية هو رمز للتضامن السياسي بصفة عامة, فهو أيضا الآلية التي يمكن من خلالها تنشيط العلاقات الاقتصادية والتجارية, وتقييم ما تم انجازه على صعيد تطبيق البرنامج التنفيذي لانشاء سوق عربية حرة, والذي كشفت خبرة العام الأول منه عن عدد من المشاكل, مثل عدم انضمام عدد من الدول العربية إليه, وقيام الدول المشاركة بعمل استثناءات لعدد كبير من السلع التي تنتجها, مما يجعل مستقبل السوق العربية محل نظر وتساؤل. وحسم مثل هذه الأمور يحتاج إلى إرادة سياسية, توفرها آلية القمة. ثم تبقى قضية الموقف نحو الدول العربية الخاضعة لعقوبات من مجلس الأمن, وهي العراق, وليبيا, والسودان. وإذا كان من غير المطلوب مناشدة الدول العربية انتهاك قرارات صادرة عن مجلس الأمن, فإنه من غير المقبول أيضا, غياب وجهة نظر عربية, أو موقف تضامني عربي, بشأن كيفية حل هذه المشاكل. وبعبارة أخرى, فإن المطلوب هو (مبادرات عربية) , تعبر عن وجهة النظر العربية في كيفية التعامل مع هذه الموضوعات. وهكذا, فإن بعث الحيوية في النظام الاقليمي العربي يرتبط باستراتيجية ذات أضلاع ثلاثة: أولها, العمل على تنشيط العلاقات الاقتصادية, سواء في شكل زيادة التجارة البينية العربية أو زيادة الاستثمارات والمشروعات العربية المشتركة. وثانيها, بلورة مبادرات عربية بشأن المشاكل المزمنة التي واجهت النظام العربي في الحقبة الأخيرة. وثالثها, انتظام انعقاد مؤتمرات القمة كآلية لتحقيق الهدفين السابقين ولتنشيط أجهزة الجامعة العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك.

Email