سفينة الجنون في السياسة الأمريكية، بقلم محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

فاجأ الفاحصون أفراد العينة بسؤال حول ما يعرفه المواطن الأمريكي عن مفهوم واجراءات ونتائج الامبيت شمنت - المساءلة والمحاكمة بقصد العزل من الولاية, وفاجأ المفحوصون الجميع بأنهم لا يعرفون الا شذرات أكثرها مضلل أو مغلوط عن الأمر من أوله الى آخره لم يتردد الصحفي الأمريكي (كارل برلنشتين) عن وصف مسرح السياسة الأمريكية الراهنة في العاصمة واشنطن بانه (لعبة الجنون) ولا تردد زملاؤه في مهنة الرصد السياسي والتحليل الاعلامي عن وصف تكتيكات الحزب الجمهوري المعارض بانها مثل قاطرة ضاعت السيطرة عليها وانفلت عيارها وخرجت عن شريط السكة الحديد تدمر ذات اليمين وذات الشمال. ولا يسع المراقب المحايد والرابض ــ أمثالنا ــ خارج الحلبة حيث لا ناقة لنا في هذا الصراع ولا بعير, الا ان يلاحظ ان اللعبة الديمقراطية في أمريكا وربما في الغرب كله يمكن ان تتحول هي في التحليل الأخير الى ذريعة من ذرائع السياسة الحزبية ووسيلة من وسائل السيطرة او الطمع في السيطرة على مقاليد الامور .. ومن ثم فهي تتحول في وسط دوامة الخصومات والأطماع الحزبية عن هدفها النبيل الذي توخاه مبشروها الأوائل ــ هدف التعددية والمشاركة الشعبية والتمثيل النيابي وتداول ــ تناوب السلطة, كي تصبح اداة لتصفية الحسابات والرد على الثأرات المترسبة في اعماق السياسيين أو فلنقل بايجاز شديد: ان الديمقراطية تتحول الى كلمة حق ولكن يراد بها باطل, وقد يصدق عليها ما صدق يوما على شعار الحرية فيقال: ايتها الديمقراطية كم من الاخطاء ترتكب باسمك. فوكس بوبولي ولقد يقال ان جوهر الديمقراطية هو الاستماع الى صوت الجماهير, وهذا حق وجوهري بالدرجة الأولى, واذا كان ساسة امبراطورية روما القديمة قد اعتادوا على الاصغاء لهدير التجمعات أو همسات المكلومين أو دمدمة الغاضبين واطلقوا عليها شعارهم المعروف (فوكس بوبولي, فوكس ديي) اي صوت الشعب هو من صوت الله ـ فان ساسة امبراطورية امريكا المعاصرة دأبوا, ومعهم كبار المديرين والمسؤولين والمتنفذين في مجالات شتى ما بين الاعلام والاقتصاد, وما بين الأزياء وانتاج لعب الاطفال ــ على السلوك واتخاذ القرار في ضوء ما توافيهم به استطلاعات الرأي العام من رصد اتجاهات الجماهير وحجم ونوعية استجاباتها ازاء ما يتهمه هؤلاء السادة ــ الكبار كما قد نصفهم من سلوكيات وما يصدر عنهم من قرارات وفي اطار الاستجابة لهذه الحاجة الى رصد واستطلاع آراء الجماهير فقد تطورت بحوث الاستطلاع الى حد التعمق والتخصص الممعن والعجيب, بل اصبحت كبرى مؤسسات بحوث الرأي العام ــ جالوب أو هاريس مثلا من ركائز المجتمع والحياة السياسية في أمريكا, يعين بها الساسة ويزدهرون, واحيانا يسقطون بها ويخمد ذكرهم وتتبدد صولتهم ادراج الرياح. قطار الجمهوريين المفلوت والحاصل ان هذه القناعة العميقة باستطلاعات الرأي وقد كادت تكتسي في الذهنية الامريكية صفة اقرب الى الايمان والتسليم, سرعان ما دهستها عجلات القطار الجمهوري الحزبي الذي ما زال منطلقا مثل معبودة القدر الاسطورية المنتقمة (تيمسيس) في تراجيديات الاغريق للفتك برئاسة بيل كلينتون ومن ثم بولاية الحزب الديمقراطي الذي ظل يحكم البلاد ست سنوات متوالية ويمكن ان يحكمها عشر سنوات أخرى (سنتان بقيتا من ولاية السيد بيل وفترتا رئاسة بأربع سنوات عن كل فترة لمرشح ديمقراطي قد يكون النائب الحالي آل جور أو غيره) مما يضع الجمهورييين المحرومين من لذة الحكم وهيلمان السلطان في عنت شديد وغم بالغ وهم مقيم. والحاصل ايضا ان استطلاعات الرأي العام ما زالت تؤيد بقاء كلينتون في سدة الرئاسة الاولى للولايات المتحدة واحدث تلك الاستطلاعات وقت كتابة هذه السطور هو ذلك الذي أجروه فور قرار المحاكمة تمهيدا للعزل الصادر مساء السبت الماضي عن مجلس النواب ذي الأغلبية الجمهورية وقد استرعى انظارنا ان زادت معدلات تأييد اداء الرئيس كلينتون الى 72% وتلك أغلبية احصائية نراها كاسحة في بلد يأخذ بالتعددية والديمقراطية مثل أمريكا. ولقد لاحظنا ان قادة الحزب الجمهوري قد آثروا ان يتجاهلوا هذا التأييد الشعبي للرئيس الذي تناولوه باتهامات مفزعة وبعضها عبر الخيط الرفيع الفاصل بين مساءلة الرئيس على أساس انه لا أحد فوق القانون, وبين التشهير بالرئيس رغم كونه مسؤولا عاما منتخبا بأغلبية من الشعب ليكون قائدا للبلاد ورمزا لها. شواهد تاريخية من مصر ولقد نلاحظ ايضا ان ثمة شواهد من التاريخ المعاصر يمكن ان تحملنا على فهم هذا اللدد في الخصومة الحزبية وهذا الإمعان في نفي الآخر من منطلق الشعور بالحرمان الشديد من صولجان الحكم, وربما يكون اقرب هذه الأمثلة تلك الأزمة التي يشار اليها في التاريخ المصري المعاصر بأنها (حادث 4 فبراير عام 1942) وقد شهد على ما هو معروف حصار الانجليز بالدبابات لقصر عابدين ــ واصر الملك فاروق في ذلك الوقت على استدعاء زعيم الوفد مصطفى النحاس باشا وتكليفه بتشكيل وزارة جديدة تحل محل الوزارة القديمة التي اعتبرها السفير البريطاني وقتها ــ اللورد كيلرن ــ معادية للانجليز وممالئه لاعدائهم الالمان والطليان وسط واحدة من أشد أزمات الحرب العالمية الثانية. صحيح ان الدراسات التاريخية للحادثة برأت النحاس باشا من تهمة التآمر مع الانجليز المحتلين كي يأتوا به وبحزبه الى حكم البلاد وقد عبر عن هذه التهمة وقتها زعيم سياسي آخر هو أحمد ماهر باشا الذي خاطب النحاس قائلا كيف ترضى يا باشا ان تأتي الى الحكم على حراب الانجليز؟ لكن الصحيح ايضا هو تلك الاسباب التي ساقتها الاوساط الوفدية للمجيء الى الحكم وكان في مقدمتها عبارة شاعت في ذلك الوقت وهي: لقد تعبنا وكانت اكثر من دالة على مشاعر الاحباط والظلم والحرمان التي كانت تجيش في صدور الوفديين القادة والقواعد الحزبية على السواء وكان مردها الى فترات الابعاد والنفي السياسي عن الحكم نتيجة مؤامرات الملك وبطانة القصر واعوان الانجليز واحزاب الأقلية التي كانت تزيف الانتخابات وتزين للملك فاروق الشاب وقتها العبث بأعراف الدستور وتمعن في التنكيل بالمنتمين الى الوفد ومن يشتبه بأنهم انصار ذلك الحزب الذي كان يجسد الاغلبية بحق ويقوده زعيم وطني في مناقب مصطفى النحاس رحمه الله. (لق تعبنا) عبارة ربما رددها اركان الحزب الجمهوري على امتداد السنوات التي مضت منذ فوز ويليام جيفرسون كلينتون في انتخابات الرئاسة على منافسه جورج بوش, وفي ضوء ما ظل يرصده الجمهوريون من عوامل قوة الرئيس الشاب الذي يتمتع بمواهب قيادية يفتقر اليها جميع ــ نقول جميع زعماء الحزب الجمهوري المعارض وفي مقدمتها موهبة التواصل مع الناس ــ وتوصيل رسله الى هؤلاء الناس بان رئيس البلاد ــ كلينتون يحس بما يحسون ويشاركهم فيما هم فيه من آلام وأحلام وتطلعات ويردد على مسامعهم احلى معزوفة مفتاحها اسمه نغمة المستقبل . وهو ينطلي في هذا كله .. من حيث وسامته وشبابه (هو من ابناء طفرة مواليد ما بعد الحرب العالمية ــ بيبي بومر كما يقول المصطلح الامريكي وهي الطفرة المرتبطة في الذهنية الامريكية المعاصرة بالازدهار ومشاعر الفوز والحيوية والتطلع المستقبلي .. وقد اختار نائبا له من نفس الفئة العمرية المؤهلة للاستمرار من حيث الفعالية في العمل العام لفترة ليست بالقصيرة ولا بالهينة من عمر القرن الوشيك القدوم). حرمان المصالح بالبلايين والحرمان من الحكم عند الجمهوريين ليس مجرد شعور عاطفي بالظلم أو الاحباط .. ولا هو في كان في حالة الوفد المصري زمان مجرد موظفين حرموا من الترقية او مديرين عزلوا من الوظيفة أو حتى رأسماليين ضنوا عليهم بأذونات الاستيراد أو التصدير أو شرطيين نقلوا ابعادا ونفيا الى الواحات أو أقاصي الصعيد .. الحرمان من الحكم معناه عند الجمهوريين مصالح مليارية وتجارات عابرة للقارات ومؤسسات متعددة الجنسيات فالمعروف ان الحزب الجمهوري اسمه حزب البج بيزنس بمقر حزب الهوامير او كبار الدهاقنة من ملوك الصلب او اباطرة البترول او بارونات صناعة السلاح وتلك قوى لا يستهان بها في الحياة العامة في امريكا وفي غيرها وهي قوى قد لا يظهر اباطرتها على السطح.. ولكنهم يبعثون بمن يروج دعاويهم في اكثر من لوبي بين اروقة واحيانا قد يوفدون ــ بقدرات التمويل الطائل وامكانات الاعلام المبالغ التأثير ــ بمن يمثلونهم شخصيا داخل عضوية الكونجرس ذاتها. ورغم ان الحزب الديمقراطي الامريكي لا يفضل كثيرا منافسة الجمهوري, الا انه استطاع من الناحية الايجابية ان يفوز بلقب او صفة حزب الاقليات من الفئات المستضعفة او المهمشة في مجتمع الولايات المتحدة.. وتلك قائمة طويلة كما لا يخفى عليك تشمل السود والمهاجرين والمرأة والعمال وصغار المستثمرين, في حين ان الحزب لصقت به من الناحية سلبيا صفة مذمومة بأنه مؤيد لعمليات الاجهاض غير المشروعة ومؤيد أيضا للاسف للعلاقات الشاذة الخارجة عن كل عرف بين اوساط الرجال او النساء... الى حد قد يصل الى تقنين تلك العلاقات التي يرفضها الانسان الامريكي العادي وخاصة في مدن وارياف الجنوب المحافظ ووسط الغرب والمتمسك بالتقاليد والاعراف وشمال الشرق (نيوانجلاند) حيث الناس متدينون وفي غاية الحساسية ازاء قيم الاخلاق. من جانب اخر, ثمة عوامل اساسية خمسة مؤثرة في لعبة الصراع الذي يحمل لافتة الديمقراطية ويدور حاليا في دوائر الحكم والتشريع بين البيت الابيض وكابيتول هول في واشنطن: العامل الاول: ويتمثل في ان التأييد الذي يتمتع به الرئيس كلينتون اوسع من قطاعات الرأي العام وتجسده استطلاعات الرأي هو تأييد لاداء الرئيس وليس تأييدا لشخصية كلينتون ولا مساندة لسلوكياته, وليس صدفة مثلا ان تؤكد جماهير الاستطلاعات انها لا تقر سلوكيات كلينتون الخاصة وعلاقاته النسائية غير المشروعة بل تؤكد انها لا تثق في شخصية الرئيس كانسان, فيما تؤكد ايضا انها تقر اداءه وتؤيد نهجه الرئاسي وتساند انجازاته في مضمار العمل العام مثل اصلاح نظام التأمين الصحي او مظلة الضمان الاجتماعي او الانتصار لحقوق المرأة او التصدي لتحجيم لوبي الاسلحة الذي ينشر ادوات الدمار في بيوت وجيوب المواطنين الامريكيين حتى تصل الى حقائب اطفال المدارس.. الخ, هو اذن تأييد ليس مطلقا ولا ساذجا, بل مشروط بالوعي بما يجري ومرهون بانجازات الرئاسة قبل شخصية الرئيس. العامل الثاني: ان هذا التأييد يبدو, من ثم وكأنما تعوزه الحماسة او قوة الاقتناع على نحو ما يذكر اندو كوهوت مدير مركز بحوث الجماهير والصحافة الذي يقول: ـ صحيح ان الناس متشددون في رأيهم بأن لايتم ابعاد الرئيس عن منصبه, ولكنني اتصور انهم ليسوا متواصلين عاطفيا او انفعاليا مع الرئيس. ولقد نعلق من جانبنا لنقول انهم لم يعودوا كذلك لم تعد ثمة عاطفة من الدفء والمحبة او الاعجاب الصادر عن اقتناع تربط بين جماهير الشعب الامريكي وبين قائد باتوا يعرفون انه لم يوقر جلال المنصب ولا احترام المكتب البيضاوي... بل سلك نهج الترخص اللا مسؤول في الانسياق وراء نوازعه الدنيا ولم يكترث حتى بالتمييز بين وقته المفروض تكريسه للولاية التي اوكلت اليه من جموع ناخبين وبين الوقت الذي يمكن ان يملكه كفرد وانسان. وبصرف النظر ان خصومه الجمهوريين يعيشون في بيوت اخلاقية من زجاج شفاف, ومنهم من لا يقل عنه في سوء المسلك الشخصي, الا ان المحاسبة تكون على قدر المسؤولية, وبقدر سمو المنصب وخطورة الامتيازات وشارات التوقير المكفولة للوظيفة, بقدر ما ينبغي لشاغل المنصب ان يترفع عن سقوط الهمة. العامل الثالث: ما ثبت كما يقول الكاتب السياسي ادم ماجواني بأن الجمهوريين لا يعارضون كلينتون السياسات والاستراتيجيات فحسب بل انهم يمقتون كل ما يمثله كلينتون الانسان عقلاؤهم يرون فيه فتى مغرورا مفلوت السلوك ويشكل خطرا على النسيج الاخلاقي او الاجتماعي (سوشياك فابريك) في امريكا... وحزبيوهم يرونه كما سلفنا خطرا على تطلعاتهم السياسية ومنهم من يصوره وكأنه لص سياسي سرق من تحت اقدامهم سجادة تأييد الجماهير وكانوا يركنون الى خيوطها الناعمة في عهد رونالد ريجان بالذات وسواء كانت الكلمة الاخيرة للعقلاء او لغير العقلاء فلا شك انهم مواصلون السير في شوط المحاكمة البرلمانية المرتقبة الى اخره فاذا لم يختتم الامر بقرار العزل من منصب الرئاسة ـ ونحن من جانبنا ـ الخاص نستبعد مثل هذا القرار ـ فلا اقل من ان ينشغل الرأي العام ـ الناخبون الامريكيون بالذات ـ على مدى شهور طويلة بوقائع محاكمة مقصورة في حد ذاتها لانها تشمل التجريح والتشهير برئيس الجمهورية الذي سوف يجسدون فيه كل خصومتهم مع الديمقراطيين والهدف لن يكون بيل كلينتون الشخص, بل هو كلينتون المستقل الحزبي وفي ضوء هذا التشويه للصورة تقطع اسباب البوح امام الخليفة المنتظر آل جور مع اولى سنوات القرن الجديد. العامل الرابع: ويتمثل في حقيقة محورية تقول بأن استطلاعات الرأي انما تسير اتجاهات الناس على المستوى القومي في طول الولايات المتحدة وعرضها وعلى هذا الصعيد الشامل الكلي يصدق التأييد للرئيس كلينتون لكن هذا الصعيد القوي يصلح اساسا للسياسة الخارجية او العلاقات الدولية وفي مقدمتها مثلا قضايا الحرب والسلام, اما سياسات الكونجرس واما اتجاهات السلوك التصويتي لاعضائه في مجلس النواب والشيوخ فتحكمها في المقام الاول اعتبارات السياسة المحلية على مستوى 180 دائرة التي نجح وينجح فيها الممثلون الجمهوريون, وفي ضوء هذه الحقيقة يمكن ان نفهم عبارة النائب الجمهوري (ادبريانت) الذي قال: نحن لا نستطيع ان نحكم البلد بواسطة الاستطلاعات. لقد ارسلونا الى هنا (الكونجرس) لكي نصوت على المبادئ الذي يعتنقها الناخبون. ويمكن ان نفهم ايضا عبارة استفزت الصحفيين وقد ادلى بها النائب لفجستون وكان قد رشحوه رئيسا لمجلس النواب لكنه آثر الاستقالة تجنبا بدوره لفضيحة التشهير بسلوكه اللا اخلاقي. ـ دعونا نتجاهل المؤثرات الخارجية (يقصد مؤثرات الرأي العام والصحافة خارج اطار البرلمان) . العامل الخامس: ولعله اكثر العواملة طرافة ويتمثل في نتيجة احد الاستطلاعات التي اجريت مؤخرا وفاجأ بها الفاحصون افراد العينة بسؤال حول ما يعرفه المواطن الامريكي عن مفهوم واجراءات ونتائج الامبيتشمنت المساءلة والمحاكمة بقصد العزل من الولاية, وفاجأ المفحوصون الجميع بأنهم لا يعرفون الا شذرات اكثرها مضلل او مغلوط عن الامر من اوله الى اخره) .. وان معلوماتهم لا تعدو ان تكون كلمة من هنا وعبارة من هناك.. وكفى الله المؤمنين.. ومازالت سفينة المجانين في بحر السياسة الامريكية تشق طريقها وسط موج متلاطم وانواء عاصفة. * كاتب مصري مقيم في نيويورك

Email