المشروطة الخاتمية في الميزان أو منشور الحريات الدستورية:بقلم- محمد صادق الحسيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كان للغرب وجهه السيء المعروف بالفساد الأخلاقي فإن له وجهه الجيد وهو المشروطة (الدستور) . وإذا كانت الليبرالية ليست مذهبنا, فإن الحريات التي تتضمنها أمر مطلوب, كما انه لا يجوز الوقوع في شراك الفاشية هروبا من الليبرالية. (وان ديننا الحنيف وقراءتنا للإسلام تقول ان الحرية والدين متصالحان وأي تفسير للدين من خلال مذاهب غريبة عنه أمر غير مقبول يتناقض مع مبادئ ثورتنا ودستورنا المدون) . هذا هو جوهر المنشور الذي أعلن عنه صراحة الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي في لقائه الجماهيري مع طلبة الجامعة أوائل الاسبوع الماضي. وهذا هو بالضبط ما اثار حفيظة الأقلية من بين رموز المجتمع السياسي القديم الموسومة بالتيار التقليدي أو المحافظ والتي وصفت ما جرى من حوار مفتوح بين الطلبة والرئيس في ذلك اليوم التاريخي بأنه (مثار قلق علماء الدين والمؤمنين) المتتبعون لتفاصيل السجال المتصاعد بين الاصلاحيين الملتفين حول الرئيس محمد خاتمي والمحافظين الذين يحاولون مصادرة القيادة الدينية العليا في البلاد يقولون بأن ما جرى في حوار الطلبة مع الرئيس خاتمي أعاد بالفعل المشهد الحالي إلى أوائل القرن الميلادي حيث السجال المعروف بين ما عرف وقتها بالمشروطة مقابل المشروعة. المحللون السياسيون من جماعة المجتمع المدني الإسلامي يقولون بأن لب كلام الرئيس محمد خاتمي يتلخص بأن الثورة الإسلامية في إيران بامكانها أن تقدم قراءة متصالحة بين الدين والحريات وان الدستور الإيراني الذي أفرزته الثورة كفيل بتحقيق مجتمع مدني حديث يلبي كل حاجات العصر على قاعدة الفهم العصري للإسلام وانه لا خوف على هذه الثورة ومستقبلها من الاحتواء أو الاستيعاب أو المصادرة من جانب اتباع المذهب الليبرالي الداخليين أو الأجانب إذا ما اعتمدنا قراءة تقدمية وواقعية وسليمة بعيدة عن أمزجتنا واسقاطاتنا الذهنية على الإسلام. بالمقابل فإن لب كلام أقطاب المحافظين والتقليديين يتمثل في ان الضمانة الوحيدة أمام بقاء الثورة ونظام الحكم الإسلامي بيد أهله الصلحاء وعدم مصادرته أو اختطافه من قبل المتآمرين عليه من أهل الداخل أو الخارج تكمن في عدم السماح لغير العلماء والفقهاء من أصحاب الفكر الموسوم بالمتنور من المثقفين أو أشباه المثقفين الذين يتقمصون إسلاما تقدميا وبأثواب متلونة ومتعددة, ليتحكموا في مصائر البلاد والعباد. وتأسيسا على ذلك فإن الاصلاحيين يعتقدون بأن الثورة (وان كانت تأخذ تعليماتها من السماء فإنها قائمة على الأرض) وبالتالي فإنها قابلة للخطأ والصواب وهكذا لابد من المراجعة واعادة القراءة المستمرة لتصحيح المسيرة حسب الحاجات والمتطلبات مع حفظ الثوابت المدونة في الدستور من خلال المشاركة الجماهيرية العامة. بينما يعتقد المحافظون بأن الثورة (قائمة في السماء) في كل الأحوال وبالتالي فهي قدسية لا تقبل المراجعة والقراءة المستمرة إلا في استثنائية لا دخل للعامة (الرأي العام) في تفاصيل تلك المراجعة والكلمة الفصل فيها للعلماء وكبار المتخصصين في شؤون الدين من الراسخين في العلم. ثمة من يعتقد من المحللين السياسيين المستقلين هنا بأن حقيقة التخوف الكامن في أعماق تكتل المحافظين يتمثل في خطر ما يسمونه باختطاف الثورة وشعاراتها من جانب من يسمونهم بالمثقفين أو أشباه المثقفين الذين يحاولون الالتفاف خلف شعارات وبرامج الرئيس محمد خاتمي للانقضاض على أصل الثورة كما حصل برأيهم أيام المشروطة الأولى في بداية القرن, وتكرر أيضا في الحركة الاصلاحية التي أفرزت الدكتور محمد مصدق في بداية الخمسينات. لذا تراهم يرفعون شعار الحكومة الإسلامية أو حكومة العدل الإسلامي منعا من مصادرة أشباه المثقفين أو المثقفين لشعار إسلامية الحكومة لصالح نظام جمهورية ليبرالية غير ديني. بالمقابل فإن الخاتميين من تكتل الاصلاح والتغيير يرون بأن المشكلة الحقيقية تكمن في تكلس أفكار جماعات المجتمع السياسي القديم من أبناء الحركة الإسلامية الايرانية وعدم استيعابهم للتحولات والتغييرات المحلية والعالمية التي تتطلب مراجعات مستمرة على يد أصحاب الخبرة من الشباب الديني اصحاب الثقافة الذين وحدهم برأي الخاتميين قادرون على مساعدة علماء الدين في ايجاد نقلة حقيقية في نظام الإدارة بما يؤمن ضمان استمرارية الثورة والنظام السياسي الإسلامي وعدم تكرار تجارب بداية القرن أو تداعيات الحركة المصدقية. من هنا فإن شعارات الهتاف لصالح مصدق المترافقة كانت بالهتاف لصالح الرئيس محمد خاتمي لم تثر تحفظات لديهم بل كانت طبيعية لدى العديد منهم كما قال أحد علماء الدين الاصلاحيين وهو العلامة عبائي خراساني. بينما أثارت حفيظة المحافظين واستفزتهم كثيرا بما شكل قلقا على أوساطهم كما قال حبيب الله عسكر أولادي زعيم حزب جمعية المؤتلفة الإسلامية. وفي الوقت الذي وصف العالم الكبير والمرجع الديني الاصلاحي يوسف صانعي أسئلة الطلبة وهواجسهم بانها (مطالبة منطقية لتطبيق صحيح للإسلام) . فإن زعيم تكتل المحافظين حبيب الله عسكر أولادي وصفها بأنها (اهانة للنظام والدولة واحياء للفئات المهزومة في أول الثورة) . ويقصد بهم الليبراليين الغربيين من جماعة الجبهة الوطنية وحزب الحرية الايراني المحذور بزعامة المرحوم مهدي بازرجان. المصادر المقربة من الحكومة تقول بأن الوضع الشعبي لا سيما الطلابي منه حرج للغاية ولا بد لنا من احياء المصالحة التي أنجزها الإمام الخوميني أول الثورة بين الجامعة والحوزة الدينية. بينما تقول مصادر المحافظين والمقربين الذين يقرون أيضا بالحرج العام الذي يعيشه المواطن الايراني إلا انهم يجدون صيغة الحل في لجم الصحافة غير الملتزمة والحركة الطلابية التحريضية حسب رأيهم, والتي يعتقدون ان الجماعات الخاتمية المتعددة المتنفذة في إدارة الرئيس محمد خاتمي هي التي تغذي هذه الاتجاهات لاغراض فئوية وحزبية متجاهلة او جاهلة حجم الاخطار الناجمة عما يسمونه (بالفلتان الاعلامي والسياسي والثقافي والذي قد يفرز جورباتشوفية على الطريقة الايرانية) . وهذه الأجواء المتداخلة والمتشابكة مضافا إليها الوضع الاقتصادي الشائك والصعب ودخول أكثر من عنصر من عناصر السياسة الخارجية وفي طليعته نمط التعامل مع مقولة حوار الحضارات ونزع التوتر في العلاقات الخارجية وشروط الحوار أو عدمه مع الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص يلاحظ المراقب قراءتين مختلفتين لمستقبل الحركة الاصلاحية الخاتمية الأولى تقول بأنه مقبل على الصدام لا محالة مع المحافظين بعد حتمية فشل اسلوبه الراهن للحوار وعجزه عن تطويعهم, وهو ما من شأنه اسقاط مشروعه الفوقي والقانوني للاصلاح والتغيير. بينما تقول القراءة الثانية بأن مسار التحولات والتطورات التي يعج بها قاع المجتمع الايراني من جهة وسطحه الذي يتبلور في نهضة سياسية حزبية وتعددية عقلانية وسطية معتدلة من شأنه أن يساعد الرئيس محمد خاتمي على النجاح رغم طول الطريق وصعوبة المعاناة ولكن على مراحل وبطريقة الخطوة خطوة. ثمة من يتخوف من الثمن الكبير الذي تدفعه البلاد أمنيا واقتصاديا وسياسيا على هذا الطريق وبالتالي يطالب بضرورة الحسم من جانب القيادة العليا لصالح الرئيس كما جاء على لسان وزير الداخلية السابق عبدالله نوري الذي يقدم بدوره قراءة مختلفة من خلال استذكار مجموعة الحوادث والوقائع الأمنية والسياسية الأخيرة, معتبرا ان الزمن لا يلعب لصالح الرئيس محمد خاتمي لا سيما إذا ما فقد ثقة المجتمع الدولي وتحولت الثقة مع مرور الزمن إلى يأس حسب تعبير عبدالله نوري. بالمقابل فإن حبيب الله عسكر أولادي زعيم جمعية المؤتلفة الإسلامية وهي الساعد الأقوى لتكتل اليمين المحافظ يشكك بامكانية الاصلاح الفوقي عندما يأخذ على حزب جبهة المشاركة الخاتمي بأنه تم تأسيسه من جماعة الوزراء والمساعدين والمستشارين للرئيس الأمر الذي يناقض مسار الحركة الاصلاحية الايرانية التاريخية برأيه: فالاصلاح من فوق برأيه (يفتقر إلى تفعيل المشاركة الجماهيرية التي تنادي بها الخاتمية) . بين طموح التغيير الجامح للجمهور الواسع من جيل الثورة الجديد المطالب بمصالحة تاريخية بين التدين والحريات في التطبيق وبين هواجس الحفاظ على القيم والثوابت الدينية والثورية التي يبرزها أقطاب جيل المجتمع السياسي القديم خوفا على الثورة ونظامها من طوفان رياح التغيير الخارجية يحاول الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي أن يقدم قراءته الواقعية في الاصلاح في مشروطة نهاية القرن الخاتمية الجديدة. * كاتب ومحلل سياسي إيراني

Email