بين المؤتمرين!بقلم- شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

لاسباب تقنية تفرض احكامها الصارمة على مواعيد كتابة هذا المقال وتسليمه ثم طبعه ونشره, يصعب علينا هذه المرة ما كنا نتمنى نقله من الطباعات وتحليلات وتقييمات لمشهدين سياسيين هامين مرتقبين, حول مسألة واحدة تتعلق بقضية العصر المزمنة وقضية العرب الاولى ــ شاؤوا أم ابوا ــ هي قضية فلسطين, في منعطفها السياسي الراهن الساعي لايجاد حل تفاوضي لها عبر ما يسمى بعملية السلام التي نسميها عملية التسوية. ولولا ماشاءته لنا الاقدار من صلة خصوصية بهذه القضية, تفرض علينا التواجد المستمر مع كل ما يمت لها بصلة, لكنت اثرت التعليق على احداث اخرى لها اهميتها وتستحق التوقف والتحليل كالمؤتمر التاسع عشر لقمة دول الخليج الذي تناول عددا من المسائل ذات الاهمية البالغة والتي تتجاوز الخليج ودوله الى المنطقة العربية بأسرها من محيطها الى خليجها, فبعد ان شهدت الدائرة الخليجية حربين رهيبتين في العقد الفاصل بين اواخر الثمانينات واوائل التسعينات وما تركته هاتان الحربان من متغيرات وآثار وما اهدرته من طاقات وما بددته من اموال, لم يعد ممكنا حصر كل هذه النتائج بعيدا عن المحيط الاوسع لهذه الدائرة اقليميا او دوليا. وعلى اي حال, وفي نفس الوقت, وعلى نفس المستوى من التأثير والتأثر, فإن قضية فلسطين ومستقبل التسوية وكل ما يحدث في الوطن الفلسطيني المحتل لم يغب عن قمة الخليج لوعي المسؤولين هناك عن مدى وعمق العلاقة بين المصير الفلسطيني والمصير العربي بما في ذلك بالطبع مصير الخليج ودوله, وعلى الرغم من اللغة الديبلوماسية التي اعتدنا سماعها من مجلس التعاون حول هذه القضية, والمتصفة باستمرار بهدئنها ومناشادتها والتعبير عن اماني اصحابها بتحقيق العدل والسلام, فإن هذه اللغة لا تعبر بدقة عن مشاعر القلق الحقيقي الذي يحس به المسؤولون هناك وخشيتهم من اخفاق التسوية في تحقيق ما يكفي من مقومات العدل التي من دونها لن يتحقق اي سلام. ولا ريب في ان رئيس قمة ابوظبي ومضيفها صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان, عندما اعرب بعفويته المعروفة عنه, في كلمته الافتتاحية, عن ضرورة التضامن العربي والتقاء ملوك ورؤساء وامراء الدول العربية كان مسكونا بهواجسه حول الصراع العربي ــ الاسرائيلي اكثر من هواجسه على مصير الجزر الثلاث موضوع خلافه مع ايران, لانه يدرك الفرق بين الحالين ويميز بين ما هو تاريخي وما هو عابر, وبين ما هو صراع وجود وليس نزاعا على حدود. ولاشك في ان المؤتمرين هناك وهم يصوغون بيانهم, وبخاصة الفقرة المتعلقة بفلسطين والصراع العربي ــ الاسرائيلي, كانوا يتطلعون الى ما يمكن ان تتمخض عنه الايام القليلة التي تفصلهم عن موعد زيارة كلينتون لكل من اسرائيل ومناطق الحكم الذاتي, وما يمكن ان يتبعها من تطورات, وهي تطلعات تحمل دوما التمنيات مقرونة بالدعاء لله عز وجل ان يلهم الإدارة الامريكية, وبالتحديد رئيسها ان يتخذ من المواقف ما يمكن ان يمد في عمر هذه الصداقة الامريكية ــ الخليجية, ولا يتسبب في اي احراج لهم, وذلك بتخفيف التحيز لاسرائيل ووضع حد لغطرستها التي وصلت حدود الاشتراط ــ لتنفيذ اتفاقية واي بلانتيشن ــ ان يستنكف رئيس السلطة الفلسطينية حتى عن المطالبة باطلاق سراح المعتقلين في السجون الاسرائيلية ممن مضى على سجنهم مايزيد على عشرين سنة واكثر, وبعد خمس سنوات من التوقيع على اتفاقية اوسلو والحديث عن المصالحة التاريخية بين اولاد العم من نسل ابراهيم عليه السلام. نكتب هذا المقال, والنشاط على اشده, في موقعين, لاستقبال نفس الحدث ونفس الزائر, في غزة حيث تحشد السلطة كل ما تملك من امكانيات لتتمكن من الاعلان امام الرئيس الامريكي عن تسليمها بكل ما املته اتفاقية واي بلاينتيشن, من اعمال القمع والترويع ضد رافضي اتفاقية اوسلو: ومن تنازل عن الميثاق الوطني, ومن تسليم باقدار المعتقلين, وكل ما من شأنه (حماية عملية السلام) التي اصبحت اولوية لدى هذه السلطة وتتقدم على الحقوق الوطنية الثابتة لشعب فلسطين, وكما نلاحظ حتى كتابة هذه السطور, فإن شعب فلسطين هناك لايشارك سلطته هذه اللهفة على استقبال كلينتون لانه شبع من الحركات المسرحية والانتصارات التلفزيونية في الوقت الذي لايلمس على الارض شيئا من هذه الانتصارات, بعد واي بلانتيشن استشرس شارون في سرقاته للارض كما استأسد نتانياهو في فرض مفاهيمه لامن اسرائيل التي وصلت حدود ضرب صهيوني في محيط رام الله فاعتبر ذلك خرقا للاتفاقية وسببا لتوقف اسرائيل عن تنفيذها. وفي دمشق في المقابل, احدى آخر عواصم العرب التي تسمح للفلسطيني المعارض ان يقول رأيه, وربما آخر هذه العواصم, يحاول نفر من ابناء هذا الشعب, بامكانيات قريبة من الصفر, ان يعقد مؤتمرا وطنيا, همه الاكبر, ان يسجل التاريخ بأن شعب فلسطين لم يجمع على (مؤتمر غزة) وما قد يتخذ فيه من قرارات انها وقفة يكفيها شرفا, ان يقال في المستقبل انه كان لشعب فلسطين كلمة اخرى غير كلمة قيادة السلطة, كلمة تصر على ان لا سلام بدون عدالة, وانه لم يكن هناك من عدل في التسوية الراهنة. وليس هناك بين المعارضين من يتوهم ان مؤتمر دمشق سيحظى بما يحظى به مؤتمر غزة من تفخيم وتضخيم اعلامي, فموازين القوى واضحة ومعروفة, ولكن ما يدعو للامل والاستمرار في نهج معارض لنهج السلطة الفلسطينية هو حقيقة وجوهر موقف الشعب الفلسطيني الذي بدأ يتبلور وينمو مع التجربة الراهنة وفرز الاوهام عن الحقائق. ففي داخل الوطن المحتل لم يعد هناك من فلسطيني واحد مقتنع بامكانية تحقيق الوعود التي تتحدث عنها السلطة في الوقت الذي يرون عجزها عن الافراج عن معتقل, او حماية منزل من التدمير, او منع مستوطن من ممارسة هوايته في قنص الاطفال, او... او.. او حتى التحكم في موعد اقلاع او هبوط طائرة في مطار غزة الدولى, لا بل في عجزها عن الرد على نتانياهو وشارون بوصف اشرف المناضلين والمجاهدين بالقتلة اصحاب الايادي الملطخة بالدم. صحيح ان المعارضين اشكال وألوان ولكنهم في النهاية لا يملكون القدرة على تجاوز ما ترفعه الجماهير الفلسطينية من اهداف مرحلية, كانت ــ قبل اتفاقية اوسلو ــ ولاتزال حتى اللحظة الراهنة نقطة توافق وتراضى, وهي تلك التي تتحدث عن الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف, اي العودة وتقرير المصير والسيادة الوطنية على التراب الفلسطيني الذي لايشكك مرجع اقليمي او دولي في هويته. وكي لا يختلط الامر, وقد بدأ الخلط ينمو, لابد من الاشارة الى ان ثمة فرقا جوهريا واساسيا بين مايسود اوساط السلطة من حديث عن الدولة الفلسطينية المزمع الاعلان عنها, وبين هذه الحقوق كما وردت في نصوص المحافل الدولية ونصوص مجلسنا الوطني الفلسطيني حتى سنة 1988, فالعودة تعني عودة لاجئي 1948 الى ديارهم وممتلكاتهم, اي الى يافا وحيفا واللد والرملة وعكا, والى ما كان ملكا حلالا لهم كافراد لايزالون يحملون حجج وصكوك امتلاكه, او التعويض على من لايرغب بخياره الحر في تقرير مصيره الذاتي, ومن هذه الحقوق الحق تجربة تقرير المصير, وهي ليست كما تفهمها الادارة الامريكية وكما حددها ذات يوم جيمي كارتر ــ ايام كامب دافيد ــ والتي لاتضمن الحقوق الاساسية مثل الحق في السيادة واقامة الدولة والعودة الى الاراضي التي اخرج منها, ومن هذه الحقوق بالطبع (الارض) اي الوطن, وهو ــ الآن ووفق الشرعية الدولية ــ ما تم احتلاله عام 1967 شرط ان يبقى خاليا من اية مستوطنات تم انشاؤها بعد الاحتلال وذلك وفق القوانين الدولية واتفاقية جنيف الرابعة. ومن هنا يجب ان نحذر من التضليل الدائر وابيام الشعب بان الاعلان عن اقامة دولة فلسطينية, حتى ولو قبلت اسرائيل بذلك, هو موضع قبول من الشعب ان لم تستوف هذه الدولة كل ما سبقت الاشارة اليه من مواصفات واضحة التحديد, ان دولة فلسطينية بهذه المستوطنات المنتشرة كبثور الجرب والفاصلة لاوصال قرى الضفة ومدنها هي دولة مرفوضة وكذلك لا مجال لقبول اية دولة فلسطينية لا تكون كاملة السيادة على القطاع الغربي من القدس وبالحدود التي كانت عليه قبل عدوان 1967. وقد يقول متسائل: او ليس في كل هذا الذي سبق قوله ما هو موضع وفاق بين السلطة والمعارضة؟ او لا تصدر تصريحات متماثلة حول هذه القضايا؟ والسؤال محق, والالتباس قائم, والسبب يتعلق بصدقية من بيدهم القرار, كما يتعلق بالنهج المتبع لتحقيق هذا الهدف المشترك. وبمعزل عن الخلافات الايديولوجية في الساحة الفلسطينية واشكالات التمييز بين المرحلي والاستراتيجي وهو شيء غير مستغرب, بل وتشكو من مثله الساحة الاسرائيلية كذلك مع فارق واحد حضاري هو دهاء اليهود في ادارة خلافاتهم لتصب في النهاية في مصلحتهم العامة, فإن سمات القيادة الراهنة وتفردها بصياغة القرار وعدم احترامها لقوى المعارضة وللشعب الذي لايستفتى بأمر, تتحمل المسؤولية الكبرى من التخبط السياسي في العمل الوطني الفلسطيني. ولنقارن للحظة كيف تعامل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة قوى المعارضة لديها, وكيف تعامل القيادة الفلسطينية الخالدة قوى المعارضة عندها, ففي هذه المقارنة ما قد يجيب على جزء اساسي وهام من السؤال. والى ان يرتقي شعب فلسطين, بل شعوب امتنا العربية كلها, الى مستوى يكون الشعب قادرا معه على ممارسة حياة ديمقراطية تحترم الفرد وتشركه في اتخاذ القرار السياسي, يستحيل علينا ان نرى اي مستقبل واعد لتحقيق اهدافنا وحل مشاكلنا. عندما ينقرض السؤال (العربي) التقليدي في كل بلادنا في كل مرة يتم فيها انتقاد سياسة ما او قيادة عن (ماهو بديل) هذه السياسة او هذه القيادة, نكون قد بدأنا خطوة على طريق الخلاص. واخيرا, وعن المؤتمرين, مؤتمر غزة ومؤتمر دمشق الفلسطينيين, أليس مما يحز في النفس اننا وصلنا إلى زمن نجد فيه (الفلسطيني) يناقش ويحاور ويفاوض الاسرائيلي, بينما هو لا يجد امكانية لمثل هذا التواصل مع (فلسطيني) آخر!!

Email