وقفات مع فيلم الحصار: بقلم- حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل التعرض لما أثاره فيلم الحصار من ردود أفعال في الاوساط العربية والاسلامية في الولايات المتحدة وخارجها, يجدر بنا أن نشير الى بعض مضامين هذا الفيلم. حيث تدور أحداثه وتبدأ بعمليات ارهابية في مدينة نيويورك ابطالها امريكيون من العرب والمسلمين . وتؤدي تلك الاحداث الى انعدام الامن والنظام في المدينة. وبسبب ذلك يدفع العسكريون الامريكيون دباباتهم ومصفحاتهم الى شوارع المدينة.. ويحظرون التجول, ويفرضون الاحكام العرفية فيها. ثم يعتقلون كل من يصادفهم من العرب والمسلمين الامريكيين بسبب تورطهم في تلك الاحداث والفيلم حافل بالعديد من المشاهد التي تربط بين التدمير والقتل بمشاهد اخرى لجموع المسلمين في المساجد يؤدون الشعائر الدينية كالوضوء والصلاة. الضجة التي أحدثها الفيلم في اوساط الجالية العربية في الولايات المتحدة تستحق ان نقف معها وقفات تحليلية هادئة, نتلمس فيها المشكلات التي نراها في هذا الفيلم, وبصورة بعيدة عن التهيج والتشنج. الحصار بين السلبيات والايجابيات يقول السيد عمر أحمد رئيس مجلس ادارة مجلس العلاقات الاسلامية الامريكية (كير) : ان الانطباع العام الذي يخرج به المشاهد بعد انتهاء العرض هو ان الفيلم إنما يسهم في تأكيد الصورة النمطية المشوهة لكل من العرب والمسلمين في الولايات المتحدة, خاصة انه يربط ربطا مباشرا بين الارهاب, كسلوك فردي مرفوض ــ وعدد من الشعائر الاسلامية التي يمارسها المسلمون جمعيا, مثل الوضوء, ورفع الاذان واداء الصلوات, وترتيل القرآن, والدعاء, بالاضافة الى ارتداء الزي الاسلامي, واطلاق اللحية, ولم يسلم من ذلك اللون الاخضر, الذي يرمز أحيانا للاسلام, فجاء مرتبطا بالارهاب حتى الجزء الذي أراد منه صانعو الفيلم الاعتراض على ممارسات السلطات العسكرية ضد العرب والمسلمين, جاء في صورة اعتراض على قسوة ردة الفعل. أي جاء اعتراضا على اسلوب, أو شكل التعامل مع المسلمين والعرب وليس اعتراضا على الصورة النمطية المشوهة التي انطلق منها العسكريون في تعاملهم مع ابناء الجاليتين المسلمة والعربية وهي الصورة التي لم يحاول الفيلم التصدي لها. يضاف الى ذلك الانطباع العام, سلبيات اكثر وضوحا لعل ابرزها, حسب وجهة نظر (كير) هي: ـ ان الفيلم يشكك صراحة في قطاعات عريضة من ابناء الجالية المسلمة والعربية من اساتذة الجامعة ورجال الاعمال والحرفيين, وحتى الطلاب, سواء منهم من يحملون الجنسية الامريكية أو من يقيمون اقامة مؤقتة. ـ أوغل الفيلم في تشويه صورة المسلم, فلم يربط بينه وبين الارهاب فقط, بل قدمه في صورة من يتعاطى المخدرات والمسكرات, وهو مايتناقض مع التزام هؤلاء الديني الذي يحرص الفيلم على إبرازه. ـ يظهر الفيلم المسلمين في صورة من لا يقيمون وزنا لحياة البشر, حتى انهم لايتورعون عن ـ بل يتعمدون ـ قتل الضعفاء من الناس مثل الاطفال وكبار السن. ـ يتبنى الفيلم الصورة النمطية المشوهة لموقف الاسلام من المرأة من خلال نظرة دونية من الرجال اليها, تصل الى حد حرمانها من حق التحدث عن القرآن!, كما جاء على لسان أحد شخصيات الفيلم. ـ حتى الشخصية التي حاول صانعو الفيلم ان يقدموا من خلالها صورة ايجابية للمسلم الامريكي ذي الاصل العربي جاءت متناقضة مع الهدف الذي اريد منها, فالاسم الذي اختاره صانعو الفيلم لهذه الشخصية ـ فرانك حداد ـ يعطي انطباعا بانه غير مسلم, كما انه قدم في صورة من يتعاطى الخمور, ويقبل امرأة اجنبية عنه, ويسب مستخدما الفاظا جارحة يخلو منها قاموس الفرد المسلم, بالاضافة الى انه لايتورع عن مخالفة القانون واستخدام الرشوة تحقيقا لأغراض شخصية. ـ وفي النهاية فإن الفيلم يأتي محملا بهدف سياسي, وإن بدا غير مباشر, فوجهة نظر صانعيه تلتقى مع مصالح اسرائىل, ورؤيتها للقضية الفلسطينية, حيث يعمل الفيلم على إضفاء صفات مثل عدم الشرعية, والارهاب على مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الاسرائىلي. ماسبق كان ملخص مانقلته مجلة المشاهد السياسي في عددها الاخير, رقم (142) عن مجلس العلاقات الاسلامية الامريكية. ولكن هل خلا فيلم (الحصار) من نواح إيجابية؟ يرى المجلس ان أهم الايجابيات هي: ـ يبرز بعض المشاهد والجمل الحوارية ما يتعرض له المسلمون والعرب في امريكا من تمييز. ـ تبرز بعض المشاهد والجمل الحوارية الاخرى ممارسات القوات الفيدرالية ضد العرب والمسلمين, وتصفها بانها غير دستورية, خاصة عندما تصل الى حد قتل احد المعتقلين المسلمين عمدا. ـ يصور أحد المشاهد بيانا لواحد من زعماء الجالية يعلن فيه تأييد الجالية لأعمال مناهضة للإرهاب. ويبدو ان تلك الايجابيات ـ على قلتها ـ كانت مستند مخرج الفيلم ادوارد زويك لاستغرابه ردود الافعال العربية هناك. وقال: ان فيلمه محاولة لتقديم الامريكيين كأصحاب افكار لاتتغير, وان البطل المحوري مسلم. ويعتبر زويك فيلمه هذا متعاطفا مع العرب والمسلمين, ويظهرهم كضحايا, خلافا لأفلام اخرى سابقة. الحصار .. استراتيجية أم صدفة؟! هل يأتي انتاج فيلم (الحصار) وغيره من الاعمال السينمائية التي تتناول الوجود الاسلامي أو رموزه, والتي تنتجه صناعة السينما الامريكية, في اطار مؤامرة تحاك ضد الاسلام واهله ام ان تلك الاعمال تشكل جانبا من استراتيجية مستقرة في الدوائر الغربية؟ ربما القول بان هذا الفيلم وأمثاله تعد مؤشرا على موقف عدائي صحيح الى حد كبير. وهي كلها انعكاسات لموجة العداء التي تستهدف في كل مرحلة طائفة أو فكرا معينا. فبعد ان تراجعت تلك الموجة التي كانت تعتبر الشيوعية خطرا كبيرا على النظام الغربي نجد طرحا جديدا يرى في النموذج الاسلامي خطرا على المنظومة الغربية. واسباب هذه الموجة متعددة. قد تكون تارة ـ كما يقول الاستاذ فهمي هويدي ـ لهوى في النفس, وتارة للتشويه, وتارة اخرى للكراهية والاصطياد. ونجد وسائل الاعلام تهيج المشاعر باستمرار ولا يتعرض لكل ماهو اسلامي, او متعلق بمجتمعات المسلمين الا بكل الزوايا السلبية والمنفرة, ويستعيد من الذاكرة الغربية كثيرا من الكوامن والانطباعات المشوهة المترسبة في الثقافة الغربية وفي المراجع الغربية منذ الحروب الصليبية. وبالتأكيد, فإن العربي والمسلم يقدمان بشكل عام, ودعك من الاستثناءات, في السينما والتلفزيون الامريكي بصورة مشوهة ومنفرة ومثيرة للحساسية والبغض ودائما العربي خطر وشرير, وليس فيه فضائل. وغيره لديه كل الفضائل. بالاضافة الى موضوع الحريم والعنف والدم والبدائية, وكأننا مجتمع لايعرف الحضارة ولا الخير فمثلا الصربي عندما يرتكب جرائم ومذابح فهذا ليس الارثوذكسي المسيحي, بل الصربي, ولما يفعل الكروات الشيء نفسه, فلا يقال انهم الكاثوليك المسيحيون. بل يقال انهم الكروات. حتى اليهود, وفي كل ما يفعلونه بالعرب والمسلمين والفلسطينيين, لايقال ان اليهود هم المجرمون, بل يقال مجموعة من المتطرفين! والوحيدون الذين ينسب كل خطيئة عندهم الى الدين كله, والأمة كلها هم المسلمون. الوجود الاسلامي.. الحاضر الغائب! لعل الاستشهاد بالوجود العربي الاسلامي في الولايات المتحدة الامريكية يعد مثالا واضحا على هزالة تأثير ذلك الوجود ودوره في تلك الساحة. وتتجلى مظاهر التواضع في ذلك الدور عند الاحداث التي تتعرض لها هوية هذه الجالية. والاسباب في ذلك عديدة. اهمها حالة الاغتراب الدائمة والمستمرة التي يعيشها ابناء العرب والمسلمين, حتى ولو امتدت فترة اقامتهم في تلك البلاد الى اكثر من مائة عام. بل تصل تلك الحالة, الى حد اعتزال المجتمع المعاش فيه, ومن ثم الجهل بواقعه ومكامن التأثير فيه. ولايتوقع ـ بطبيعة الحال ـ تحقيق أي تفاعل, أو لعب أي دور ذي قيمة في ظل تلك الجهالة بذلك الواقع ومعطياته. مايدعو للأسف ان ظاهرة الانصراف عن دراسة المجتمع الغربي وتحليل الاتجاهات فيه امتدت حتى شملت العناصر الاكاديمية العربية المهاجرة الى هناك وللمنكر المعروف الدكتور ادوارد سعيد تعليق جيد في هذا الشأن حيث يقول: إن أغلب الاكاديميين العرب عندما يأتون للولايات المتحدة يختارون موضوعات تتعلق بالشرق الاوسط في دراساتهم العليا ويهملون التخصص المتعلق بامور الغرب, وبالذات آلية عمل المجتمع الامريكي. ويقول مستغربا: ان تقطع كل هذا الطريق الطويل الى الغرب لان تدرس امور وطنك في الغرب, فإنك بذلك تعزل نفسك عن المجتمع الجديد الذي تدرس وتتعلم فيه. ويقول ايضا: ان اغلب القادة العرب لايكلفون انفسهم مغبة البحث فيما وراء القرارات الامريكية خارج نطاق واشنطن العاصمة. ولايهتمون بمعرفة الطريقة التي يعمل ويفكر بها المجتمع الامريكي ولا الموضوعات التي ينقسم بشأنها, ولا نقاط الضعف التي يمكن الافادة منها.. وهكذا. ما يهمنا بعد الضجة التي اثارها (الحصار) ألاّ تنتهي الزوبعة المثارة حوله كما يحدث في المعتاد. حيث لا تستغرق العملية كلها إلا أياما معدودة وتخبو ردود الافعال الآنية حول كل قضية من هذا القبيل. هي تجربة تستحق اعادة النظر في كيفية تعامل الجاليات مع مشكلات واقعها. كما تستدعي استيضاح موقفنا نحن ومسؤولياتنا تجاهها.

Email