من الحرب الباردة الى الحروب بالوكالة: بقلم- د. زكي الجابر

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما بين سيطرة البوشفيك على مقاليد الحكم في الامبراطورية الروسية وبدايات مرحلة البيروسترويكا بمتضمناتها من اعادة للبناء وشفافية كانت ثمة حرب باردة, حرب لها كل صفات الحرب ولكنها لا تطلق الصواريخ والبوارج والطائرات, بل تجعلها على أهبة الاستعداد لتدمر ما شاءت لها القوتان المتنازعتان ان تدمر . الحرب الباردة هي أولا حرب في معتركات الهيمنة الاقتصادية والسياسية, ولكن بعض الازمات كادت ان تقرب العالم من معتركات حرب ساخنة, ومن هذه الأزمات تلك التي نشأت عن قواعد الصواريخ في كوبا, ومثل تلك التي نجمت عن انكشاف استطلاعات طائرة يوتو التجسسية, وثمة مثل ثالث تجسد في الأزمة التي تصاعدت مع اسقاط طائرة الخطوط الجوية الكورية. والحرب الباردة ثانيا كانت ذريعة في يد من يريد ان يوظفها في قمع أصوات المنادين بسقوط (الجدانوفية) وايديولوجية الحزب الوحيد. وهي ذريعة ايضا في يد من يريد ان يجلب للمحاكمة كل من يلتفت برقبته الى اليسار, أو يحرر سطرا في رفع الظلم الاجتماعي عن الفقراء والمضطهدين. والحرب الباردة ثالثا حرب اعلام استخدمت فيها الاذاعات التي استعارت حناجرها نبرات الحرية على ألحان موسيقى البوب, وتلك الاذاعات التي تردد من غير كلل مقولات (علاقات الانتاج) و(الصراع الطبقي) و(وحشية الرأسمالية) و(الانتصارات الحتمية للأممية) . وكان أبرز ما يلفت النظر في حرب الاعلام هذه هو استخدام (الرموز) و(الشعارات) مثل (شيطان أحمر) و(مصاص لدم الشعوب) و(تجار حروب) . والحرب الباردة رابعا حرب فكر, فكر يجب ان يسحق, وفكر يجب ان ينتصر. وقد اضطر المتجمعون في خندق الليبرالية والرأسمالية الى خوض حرب لمساندة (القوات البيضاء) في محاولتها لدفن المتجمعين في خندق فكر (الاشتراكية) و(الأممية) . والحرب الباردة خامسا حرب (تجسس) تقف وراءها عقول تتفنن في صناعة الترغيب والترهيب, وتجتهد أيّما اجتهاد في تقنيات الانصات ونشر السموم والمسدسات الكاتمة للصوت. والحرب الباردة سادسا لا أخلاقية اذا صح الاجتهاد بأن هناك حربا أخلاقية, ولا أخلاقية تتجسد في تحويل العدو الى صديق عند اقتضاء المصالح, لقد كان دخول السوفييت الحرب الى جانب المتحالفين الغربيين ضد القوى الهتلرية حدا فاصلا انقلب اثره الاعلامي الغربي من تصوير (ستالين) شريرا مرعبا سفاكا الى (عم جو) الطيب الذي لا ينفك عن الدعوة الى مساعدة الجياع المحاصرين في ليننجراد. والحرب الباردة أخيرا لم تكن على ساحة المعسكرين, بل شملت العالم بأسره, ففي أكثر من مكان على الأرض تسارعت التيارات الشرقية والغربية... الاحزاب والكتل والتجمعات وزمر الفنانين والكتاب والشعراء, كل يعزز مذهبه, وكل طرف يصف الآخر بما لا يليق. ولعلك تذكر ان شاعرا عربيا كان يقول بأن مطامع الانجليز في البلاد لا تنتهي الا بأن (نتبلشف) . وربما تذكر شاعرا عربيا آخر شائع الصيت كان يقول بأن الاحرف التي يتكون منها (ستالين) تأبى لعظمتها ان يتهجاها أحد, والشاعر هذا نفسه هو الذي أثنى الثناء العجيب على بطولة القائد الانجليزي (مونتجمري) حين كان الغرب في تحالف مع الاتحاد السوفييتي ضد (النازية) . وربما تذكر كذلك صوت المذيع العربي الهادر من اذاعة (برلين) يحيي منها العرب ويمجد بطولات الفاتحين الألمان الذين سينقذون الأمة العربية من براثن الاستعمار الغربي! لم تكن تلك الحرب باردة كليا, فقد كانت هناك حروب تتفجر بالوكالة هنا وهناك من أنحاء العالم, يمونها هذا الطرف أو ذاك بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية والتدريب. وقد تصل المساندة الى المشاركة العربية الفعلية عن طريق الجنود والذخيرة, ومن ينسى تلك الأيام الرهيبة والصراع الدموي في كوريا وافغانستان على سبيل المثال؟! واذا ما كانت الحرب الباردة بدأت بالانحسار مع لقاءات نيكسون وخروتشوف والحوار حول جودة المطبخ الامريكي, واذا ما كانت تلك الحرب قد انحسرت فعلا مع عهد جورباتشوف وتضاؤل الاندفاع وراء برنامج ريجان لمبادرة الدفاع الاستراتيجي, واذا ما كانت الكوكاكولا قد نصبت أكشاكها في شوارع موسكو, فإن التساؤل الذي يطوف في ذ هني, وربما في ذهنك, هل انتهت فعلا الحروب بالوكالة؟.. وعندي جواب صريح ليس فيه تردد: انها مازالت قائمة وستظل قائمة مادامت هناك مصالح اقتصادية وسياسية ومصانع تنتج السلاح وطائرات وبوارج وغواصات ودبابات ومدافع وقنابل نووية وجراثيم! لا تحتاج الى عناء كبير في الانصات الى الاذاعات, والنظر الى شاشات التلفزة, وقراءة عناوين الصحف ليتأكد لديك ان العالم ليس بخير عميم, فهو لا ينعم بهدوء الاعصاب, والحروب المحدودة جغرافيا والقائمة بالوكالة قد تعصف بحياة الملايين من البشر. وما الصراعات الدموية في (كوسوفو) و(كشمير) الا من الامثلة. انها صراعات لا تختلف في كونها حروبا بالوكالة كتلك التي نشبت والتي ستنشب في جنوب شرق آسيا وافريقيا وأمريكا الوسطى. واذا كان لدي من استثناء فإن الحروب التي يشهدها العالم الآن قد لا يكون وراءها دول تمتلك ثقلا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وايديولوجيا, ولكن تقف وراءها دول تمتلك ترسانة أسلحة تقليدية واخرى ذرية وطموحا سياسيا وعسكريا واقتصاديا. وبعد ذلك فالحرب هي الوحيدة حصيد رحاها: أرض محترقة, وبنايات مدمرة, وضرع هالك, وصرعى ويتامى وأرامل ومعاقون ومشردون. خبير اعلامي عربي*

Email