أبجديات:بقلم-عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في لحظات أقرب للمواقف الحاسمة في حياتنا, نكتشف مدى حاجتنا للنسيان, حيث يتحول ساعتها إلى ضرورة تفوق حاجتنا الضرورية للشراب والطعام والنوم, في هذه اللحظات يكون الانسان أقرب لكومة قش لا تحتاج لأكثر من هبة هواء كي تتهاوى ثم تنتهي . ولولا رحمة سبقت من رب العالمين, الذي خلقنا وهو أعلم بنا لما كانت هذه النعمة الكبرى, نعمة النسيان حيث لا ندري على وجه الدقة من أي يقين تخرج, وفي أي قرار مكين تختبئ في دواخلنا دون أن نشعر. وفي كل مرة أقلب فيها موجات الفضائيات العربية في مساءات العمر الذي يبحث عن ألق في الإعلام العربي لايريد أن يفرج عن نفسه, وفي كل صباح تمتد فيه يداي إلى صحف العالم العربي, فإنني في الحالتين, وفي الصباح وفي المساء أشعر بمدى حاجتي لنسيان هذا الشجن الذي ينسال في أعماق الروح بعد كل هذا الذي نطالعه ونقرأه ونسمعه ونراه, وندمن الالتصاق به دون رغبة. وفي كل الصحف تتسمر عيناي على اعلانات النعي والتعازي أشعر بمدى حاجة البشرية لهذا الاكتشاف الشعوري المهول: النسيان, فمن ذا يتصور فقد الأخ والأم والصديق والابن, إنه الفقد الذي يشبه الجرح الذي يظل طازجاً مهما دثرته الأيام والسنون, ولا شيء غير النسيان يستل عربدة الجرح من أرواحنا. ان الاشخاص الذين يمارسون عادة التعزية, ووضع اعلانات النعي في الصحف أناس لديهم القدرة على التعاطي مع الألم بحيادية غريبة, كما لهم القدرة ذاتها على المجاملة والقيام بالواجب, لكنهم في كل الأحوال ينسون الأمر كله بمجرد نشر الاعلان وبمجرد ان يضطروا لدفع قيمته للصحيفة! وهؤلاء تكمن مشكلتهم في نسيان قيمة المبلغ الذي دفع وهو نسيان يأتي بالاعتياد. أما أصحاب المآسي, فهم أشد الناس حاجة لهذا اليقين البارد, يقين النسيان, حيث تراوح المرارة في قلوبهم طويلا ويقتات الألم من فرح الايام والليالي دهرا, يذبل خلاله ألف موسم للفل, ويزهر ألف آخر, حتى تلوح سماء النسيان الرحيم, في نهاية المواسم. يقول جبران خليل جبران في كتابه (رمل وزبد) (النسيان شكل من أشكال الحرية) وقد صدق جبران, ذلك ان الوقوع في فخ الذكرى سجن من ألم وظلام, سجن للروح قبل الجسد, نستعذبه أحيانا بكل مراراته, لكننا حين نقترب من نوافذ النسيان المضيئة نكتشف مدى قدرتنا على استعذاب الحرية, ومدى ماتستحقه هذه الحرية من عشق وتوق. نفشل, ونحب فنصدم, ونفقد أعزة ما لنا على فراقهم قوة, ونفارق الوطن والأهل, وتضيع منا وجوه أقرب للقلب من دمائه, وفي كل ذلك نحتاج إلى النسيان, انه السعادة الأخرى التي علينا أن نسعى إليها, لا أن ننتظر قرعها على الأبواب, فهي لا تأتي من تلقاء نفسها أبداً.

Email