الديمقراطية الإسلامية في غرفة العناية الفائقة:بقلم- محمد صادق الحسيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

باستثناء الايمان بالله والتمسك بوحدة التراب والسيادة والدستور العام والقيم المطلقة في الدين والعقيدة يكاد يخرج المتتبع لحركة التحول الجارية في الخريطة السياسية الايرانية بان كل شيء ما عدا ذلك بات قابلاً للنقاش والتداول والاخذ والعطاء او كما يصف احد الراديكاليين السابقين المحسوبين على جماعة احتلال السفارة الامريكية, رئيس تحرير صحيفة (سلام) السابق عباس عبدي وهو يشرح حالة الصحافة في بلاده بالقول: ان الوضع الحالي لصحافتنا الوطنية أشبه بحالة عقرب الساعة الرقاص وهو وضع لاشك ناتج عن عدم الاستقرار الموجود في الوضع السياسي العام للبلاد. ويضيف عبدي الذي كان يتحدث في اطار طاولة مستديرة جمعته مع احد خصومه السياسيين من المحسوبين على اليمين التقليدي بالقول: (ان السياسة تاريخيا في ايران غير ثابتة, وفي اللحظات التاريخية التي كانت تستقر فيها كانت اشبه بالحالة الزجاجية وهي الحالة غير القابلة للانعطاف او المرونة, وهذا من شأنه ان يعرضها للكسر في حال تزايد الضغط عليها) . من جهته فقد وصف امير محبيان احد مدراء صحيفة (رسالت) الموسومة بكونها الناطق باسم اليمين التقليدي والمقابلة عمليا لصحيفة سلام اليسارية الراديكالية, الحالة السياسية في البلاد بالقول: (ان مجتمعنا قبل 23 مايو 1997 (انتخابات الرئاسة التي حملت الرئيس خاتمي الى رأس السلطة التنفيذية) كان اشبه برقعة الشطرنج حيث يقف كل شيء في محله المحدد له لكنه بعد ذلك التاريخ, نرى ان كل شيء اصبح متحركا, اي ان الاتجاهات السياسية في بلادنا باتت متداخلة ولم نعرف الحدود الفاصلة فيما بينها. ويضيف محبيان الذي يطالب بالخروج من هذه الحالة الهلامية بالقول : (المطلوب اعادة فتح رقعة الشطرنج وان تقرر الاجنحة السياسية الموجودة ادارة شؤون البلاد بالتعاون مع بعضها البعض, لا ان يضيق كل طرف بالطرف الآخر) . ويتفق المتخاصمان في السياسة ــ لكن المتعايشان في الصحافة ــ على (ضرورة قيام الاحزاب صاحبة البرامج السياسية المحددة بواجبها مع الرأي العام كما يجب من اجل الخروج من الحالة الهلامية التي نعيشها والوصول إلى حالة نسبية من الاستقرار تكفل الحقوق المدنية للجميع) . كل بتعبيره الخاص بالطبع. وتعتبر هذه المناظرة الصحافية التي جرت على احدى موائد السجال السياسي المحتد هذه الايام في كافة جامعات البلاد صورة مصغرة لما يجري في كافة اروقة الحركة السياسية في البلاد. فبعد نحو سنة وسبعة اشهر على ما بات يعرف بملحمة (مايو - ايار) التغييرية التي عبرت عن انتقال ايران من (عهد الدفاع عن اصل النظام وتنمية مؤسسات الدولة الى عهد ترسيخ مؤسسات المجتمع المدني وارساء دولة القانون) كما يقول الرئيس محمد خاتمي, نقرأ اليوم بوضوح اكثر خطابا متجددا لكافة التيارات السياسية, في البلاد ايا كانت انتماءاتها الفكرية. وهذا الخطاب الجديد هو الذي يستوقف المراقب كثيرا هذه الايام حتى ليظن ان كل شيء في حالة تحول وانتقال وان شيئا ما في حالة ظهور وكأن رقعة الشطرنج القديمة تعاد صياغتها بما يتناسب والحالة الخاتمية التي أفرزتها ملحمة 23 مايو من العام 1997. وفي هذا السياق لاحظ مراقب حيادي ما يحصل على رقعة الشطرنج التي يراد اعادة ترتيبها ما يلي: ــ اليمين التقليدي أقر أخيرا ــ وان بعد لأي وتلكؤ كثيرين ــ انه خسر المعركة السياسية ولابد له من مواءمة تحولات الاصلاح والتغيير فبدأ يتحدث عن ضرورات تقاسم السلطة بعدالة, والتفاهم على قواعد لعبة الربح والخسارة وتحمل الرأي والرأي الآخر. كما جاء على لسان اقطابه اسد الله بادامجيان ومحمد رضا باهنر وغيرهما من رجال السياسة أو الصحافة. ــ اليسار التقليدي أقر أخيرا ــ وان بعد تجربة عسيرة ومخاض من المعاناة الشديدة ــ انه ليس وحده صانع ملحمة التغيير ناهيك عن امتلاكه لساحة الجمهور العريض المتعدد الاتجاهات والانتماءات وبالتالي بدأ يرضخ لضرورات تحمل أعباء مسؤولية المرحلة الجديدة بالتقاسم مع الآخرين, كما تبين تصريحات أمين عام التجمع الأكبر لهذا التيار آية الله كروبي ووزير الداخلية المحسوب على التجمع موسوي لاري وغيرهما من أقطاب اليسار التقليدي. ــ توجه العديد من رجالات التغيير الخاتميين الى ساحة الصحافة أو العمل السياسي الحزبي الجديد في محاولة لتأطير الرأي العام غير المنظم في ارادة التغيير, حيث نزلت أو تستعد للنزول إلى الأسواق صحيفتا (خرداد) لعبد الله نوري نائب الرئيس لشؤون التنمية, و(صبح امروز) لسعيد حجاويان مستشار الرئيس السياسي, واسبوعية (مشاركت) لعلي خاتمي شقيق الرئيس واحد زعماء حزب جبهة المشاركة الذي يستعد للنزول الى الساحة بدوره وهو يضم عددا من الوزراء وأعدادا كبيرة من الناشطين الجدد في العمل الحزبي. ــ النقطة الرابعة وهي الأهم وهو ما بدأ يظهر من خطاب معقلن على لسان أكثر من مسؤول سابق أو حالي من جماعة المجتمع السياسي القديم حول ضرورة النظر الى التحولات السياسية الداخلية والخارجية وامكانية التأثير فيها (بصورة عقلانية بعيدا عن العواطف والاحاسيس والشعارات المجردة) كما ورد على لسان قائد الحرس الثوري السابق محسن رضائي وغيره من رموز ما قبل العهد الاصلاحي الجديد. يقول المحللون السياسيون من جماعة المجتمع المدني الجديد بان الرئيس محمد خاتمي نجح حتى الآن رغم الصعوبات الهائلة الداخلية والخارجية التي تعترض سبيله في ان يحدث توازنا معقولا ومقبولا نسبيا بين ميل توازن القوى القديم في الحفاظ على معادلة السلطة التقليدية قوية ومقتدرة وبين ميل توازن القوى الجديد في ايجاد التغيير في معادلة السلطة بما يتناسب ومتطلبات المرحلة الجديدة, بمعنى آخر فان خاتمي حاول ناجحا حتى الآن ان يجري مصالحة بين رجال الحكم والسلطة وبين رجالات المجتمع المدني بمؤسساته القديمة والناشئة. ويعتقد هؤلاء (المدنيون الجدد) بان ذلك أمرا ضروريا في المرحلة الراهنة لان اي تطرف من جانب معادلة السلطة في التعامل مع المجتمع المدني الجديد يعني تقوية مظاهر الاستبداد في حين ان اي تطرف من جانب معادلة المجتمع المدني الناشئ يعني تفجير الاوضاع غير المستقرة بشكل نهائي أصلاً. وهنا ثمة من يتخوف من المحللين السياسيين من جماعة المجتمع السياسي القديم على دخول العامل الخارجي في لحظة غفلة من الزمن بهدف ما يسمونه (تفجير الظاهرة الخاتمية من الداخل) , ويشارك هؤلاء في الرأي سياسيون معتدلون من جماعة الاصلاح والتغيير من المتحالفين مع الرئيس محمد خاتمي في الادارة الجديدة مطالبين بعدم حرق المراحل اثناء عملية التغيير الضرورية ومشددين على ضرورة اختيار الاعتدال والوسطية والتأني في طرح الشعارات وكذلك في انتخابات السياسات المتناسبة مع تركيبة المجتمع الايراني المحافظ والتقليدي أصلاً بغض النظر عن تقسيمات القوى السياسية والنخبوبة الموالية أو المعارضة لسياسة الاصلاح والتغيير. يقول مصدر سياسي مخضرم ان ضرورة التغيير باتت سياسة عامة متفقا عليها على أعلى المستويات وما ترونه كمراقبين من توترات اجتماعية أو سياسية أو أمنية ما هي إلا الأثمان التي تدفع على هذا الطريق, وان هذه التوترات رغم كونها مؤلمة احيانا ومؤثرة في عملية التحول الجارية في البلاد, الا انها طبيعية وقابلة للتحمل اذا ما قيست مع بلدان أخرى اجتاحتها التغييرات مثل ايران فاطاحت بكثير من ثوابتها, في حين ان ايران ظلت محافظة على ثوابتها الدينية والوطنية رغم قوة رياح التغيير المضطربة من حولها وفي باطنها, انها على اية حال ــ يضيف السياسي المخضرم ــ تجربة اضافية مليئة بالحيوية لبلورة الديمقراطية على الطريقة الاسلامية الايرانية, ندفع ثمن ممارستها منذ العام 1979 بأشكال مختلفة. كاتب ومحلل سياسي ايراني*

Email