الصين ودبلوماسية التحرك مع الجوار الآسيوي:بقلم-د. علي الدين هلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت الأيام الماضية تحركات صينية نشطة مع دول الجوار الاقليمي, ففي الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي قام الرئيس الصيني, جيانج زيمين, بزيارة لروسيا, عقدت خلالها القمة السادسة بين البلدين, وأعلن على أثر اللقاء أن الزعيمين اتفقا على وثيقتين أساسيتين هما : البيان السياسي, وبيان حول انهاء ترسيم الحدود في القطاع الغربي, وتضمن البيان السياسي وثيقة أشارت الى ان العالم: (يسير في اتجاه التعددية القطبية) وفي الخامس والعشرين من نوفمبر قام الرئيس الصيني بزيارة الى اليابان, هي الأولى لرئيس صيني أسمتها الصحافة العالمية برحلة (المطالبة الصعبة) بين العملاقين الآسيويين, بعد مضي أكثر من 50 سنة على الاجتياح الياباني للصين. وهذا التحرك الصيني النشط باتجاه دول الجوار الآسيوي على اعتبار ان الاتحاد الروسي دولة آسيوية تأتي في اطار مجهود صيني, تكثف منذ مطلع التسعينات نحو توثيق العلاقات مع الجارين الكبيرين, وتأتي ايضا في اطار نشط آسيوي (ياباني وروسي) نحو اعادة تعريف علاقات الأمن الآسيوي, ومن ثم فقد كان لزيارة زيمين لكل من روسيا واليابان دلالات عدة سواء في علاقة الصين بروسيا أو في علاقة الصين باليابان أو في شأن الأمن الآسيوي والالتزام الأمريكي في المنطقة. ففيما يتعلق بعلاقة الصين بروسيا, فإنها تتسم بالتوازن بين البعد الاقتصادي والبعد السياسي, وفيما يتعلق بالبعد الاقتصادي ففي عام 1996 بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا سبعة مليارات دولار, بزيادة 1500 مليون دولار عن سنة ,1995 وفي قمة نوفمبر ,1997 تعهد البلدان بزيادة حجم التجارة بينهما بمعدل ثلاثة أمثالها, لتصل الى 20 مليار دولار قبل عام ,2000 وفي قمة نوفمبر الاخيرة في 1998 تم الاتفاق على التعاون بشأن القضايا الاقتصادية والتجارية التي تعاني منها روسيا. أما فيما يتعلق بالبعد السياسي, فهناك مستويان: الأول خاص بإنهاء المشكلات الحدودية العالقة, والثاني خاص بالشراكة الاستراتيجية واستكمال التفاهم و(النداء التاريخي) بشأن قطبية العالم, وحول مشكلات الحدود, فإنه من الملاحظ أنه لم تخل قمة صينية روسية من تناول مسألة الحدود, فالبلدان كانا قد توصلا لاتفاق حول ترسيم الحدود الشرقية في 16 مايو ,1991 والتي تمتد لمساحة 4259 كم وبالرغم من ذلك فقد ظلت القضية على جدول أعمال كل القمم التالية, فتم بحث المسألة الحدودية في قمة ديسمبر 1992 وفي قمة سبتمبر 1994 وفي قمة ابريل ,1996 تم توقيع اتفاقية بين الصين وكل من روسيا وكازاخستان, وطاجيكستان وقيرغيرستان لتسوية الحدود بين الصين وهذه الدول, والتي تمتد بطول ثمانية آلاف كم, وتم استكمال ذلك باتفاق آخر بشأن الحدود في ابريل 1997 بين نفس الدول, وفي قمة نوفمبر ,1997 بين يلتسين وزيمين, تم التوقيع على معاهدة تنهي رسميا الخلاف الحدودي بين البلدين, وأخيرا في قمة نوفمبر ,1998 شغلت قضايا الحدود جانبا رئيسيا في القمة. اذن في كل قمة صينية / روسية, كانت الحدود احدى قضاياها وعلى جدول أعمالها, وفي كل مرة كان يتم التوصل الى اتفاق ما بشأن الحدود دونما الوصول الى حل نهائي لكل المشكلات المتعلقة بها. أما المستوى السياسي الثاني في علاقات البلدين, فهو المستوى الاستراتيجي العالمي, أو ما سمي بـ (النداء التاريخي) بشأن نظام الأقطاب الدولي, وقد بدأ الحديث عن ذلك منذ ,1994 وفي ابريل ,1996 اعلن الطرفان في وثيقة وقعها يلتسين وزيمين, عن شراكة استراتيجية, تسعى الى تعديل آليات النظام الدولي و( التعاون من أجل اقامة نظام عالمي جديد) واعتبرت الوثيقة ان العالم يمر بمرحلة من (التبدلات العميقة المعقدة, ويشهد ميلا نحو تعدد الأقطاب) وهو الأمر الذي تم تكريسه في اعلان سياسي, في قمة ابريل ,1997 اكد على رفض الدولتين لانفراد الولايات المتحدة بالعالم خلال القرن المقبل, وتضمن اعراب الدولتين عن معارضتهما لـ (مزاعم أية دولة بالقيام بدور القائد الوحيد المطلق للعالم) والعزم على اقامة روابط اقتصادية وعسكرية أكثر قوة لمواجهة النفوذ الغربي الأمريكي, مؤكدا على أن الشراكة بين البلدين تساهم في ايجاد عالم متعدد الأقطاب, أما بيان قمة نوفمبر,1997 فقد حرص على ذكر ان العلاقات بين البلدين ليست موجهة ضد اي بلد كان. وفي قمة ,1998 استكملت الزعامتان (النداء التاريخي) , بالدعوة الى انشاء (عالم متعدد الاقطاب) لمواجهة الهيمنة الامريكية المتزايدة. والواقع انه برغم حديث البلدين, واعلاناتهما المتكررة, حول قطبية العالم, الا ان ذلك لم يترجم الى سياسات فعلية, فروسيا لم تحسم الجدل السياسي الداخلي بشأن سياسة:(اوروبية اطلسية) ام (أوراسية) وهذا الجدل يتأثر بظروف وأوضاع روسيا الراهنة, التي تعاني من ازمات داخلية طاحنة ادت الى تغيير رئيس الوزراء مرتين خلال عام ,1998 والى توقف روسيا عن سداد ديونها, والى مناشدتها الغرب دعمها لمواجهة النقص الحاد في المواد الغذائية, اما الصين, فإنها معنية بالاساس بتحسين وضعها الاقتصادي والبحث عن اسواق جديدة, وهذا اتجاه للتواؤم ابتكره النظام الصيني من اجل الحفاظ على اشتراكية وفقاً للطراز الصيني. اما بشأن علاقة الصين باليابان, فالامر مختلف الى حد ما, فهناك عدم توازن في العلاقات بين البعدين الاقتصادي والسياسي, فمن الناحية الاقتصادية فبرغم وجود تنافس وحساسيات اقتصادية بين البلدين, فإنهما شريكان كبيران, فاجمالي التجارة بينهما, في الاشهر التسعة الاولى من عام ,1998 بلغ نحو 9.41 مليار دولار. والميزان التجاري يميل لصالح الصين وخلال هذه الشهور التسعة, عانت اليابان من عجز تجاري مع الصين بلغ 7.13 مليار دولار, وتمثل السوق الصينية الكبيرة حافزاً لليابان على توثيق علاقتها بالصين. اما على المستوى السياسي, فإنه ما زالت هناك مخاوف وشكوك متبادلة فتنامي الروح العسكرية اليابانية هو اهم ما تخشاه الصين, وقد عانت من ظروف عدوان اليابان عليها قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية, منذ اوائل الثلاثينات وحتى 1945 وهو العدوان الذي أسفر عن مقتل 20 مليون صيني, وهناك هواجس صينية من الوجود الامريكي في اليابان على مقربة من اراضيها, ومشكلات حدودية حول بعض الجزر في بحر الصين الجنوبي, وخلافات حول سياسات البيئة, وحقوق الانسان, والتسلح وتايوان. ولعل هذا الركام الكبير من المخاوف والهواجس هو الذي برز واضحاً أثناء زيارة زيمين الاخيرة لليابان, فلمدة سنوات عدة, تطالب الصين اليابان بتقديم اعتذار عن عدوانها على الصين, ولكن اثناء زيارة زيمين عبرت اليابان عن (ندمها العميق) لما قامت به, لكن هذا التعبير عن الندم لم يكن كافياً للصينيين, الذين طالبوا باعتذار ياباني صريح مثل الاعتذار الذي قدمته اليابان الى كوريا, اثناء زيارة رئيس كوريا الجنوبية لليابان في اكتوبر الماضي, وهو الاعتذار الذي ورد في وثيقة مكتوبة, عبرت فيها اليابان عن الشعور بالاسف (من صميم القلب) لما ارتكبته في حق كوريا. ونظراً لعدم تقديم اليابان مثل هذا الاعتذار الى الصين, فإنه لم يتم التوقيع بين الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الياباني على اعلان مشترك بشأن (الاعتذار) لان الدبلوماسيين لم يتفقوا, حيث احتج اليابانيون بأن المسألة مع كوريا تختلف عنها مع الصين:(انهما مسألتان مختلفتان, لقد استعمرنا كوريا ولم نستعمر الصين) . اما بشأن الامن الآسيوي, والالتزام الامريكي نحو اليابان ودول المنطقة, فهو اهم ما يقلق السياسة الصينية, لانه بناء عليه سوف يتحدد شكل العلاقات الاقتصادية والسياسية المستقبلية للصين مع دول الجوار الآسيوي, فالصين تخشى من تكثيف الوجود الامريكي باليابان, واعربت عن قلقها بشأن المعاهدة الامنية الجديدة التي ابرمتها اليابان وامريكا في ابريل ,1996 وفي سبتمبر ,1997 من اجل توسيع التعاون العسكري بين البلدين ومنح اليابان دورا عسكرياً اكبر, كما اعترضت الصين على زيادة مخصصات ميزانية الدفاع اليابانية في عامي 1995 و1996. اما اليابان, فإنها لم تستطع تجاهل ازدياد معدلات التسلح الصيني, واثناء اجتماع منتدى الامن الاقليمي لدول آسيا والمحيط الهادي, والذي انعقد في بانكوك في يوليو ,1995 دعت اليابان الى ان تصدر الدول بيانات سنوية عن برامجها العسكرية, تتضمن: عدد قواتها, وهياكلها الدفاعية, وانفاقها العسكري. كما عبرت اليابان عن احتجاجها على التجارب النووية الصينية التي اجريت في عام 1995. والواقع, ان الربط بين الاحداث يبين ان هناك حركة جديدة في آسيا, وان هناك تنافساً بين امريكا والصين في القارة. واذا كانت الولايات المتحدة تهدف من وراء علاقاتها الآسيوية الى تأمين وضعها العالمي في: الاقتصاد, والامن, والسياسة, فإن الهدف الصيني ينصب هو الآخر على: الاقتصاد, والامن, والسياسة, ولكن بالاساس في الاقليم الآسيوي. الصين من جانبها تهدف الى دعم علاقات الامن مع الجوار, وايجاد وضع اقليمي يمكنها من تنشيط اقتصادها, اما الولايات المتحدة فإنها في موقف صعب, فهي لا تستطيع تجاهل الصين, لا سياسيا ولا اقتصادياً, كما انها لا تستطيع ان تتعامل معها كحليف, ولقد منيت سياستها بشأن الصين بالفشل في مسائل عديدة, من اهمها حقوق الانسان, ولكن تظل السوق الصينية الشاسعة هدفاً ومطلباً للولايات المتحدة. وهنا, نصل الى مربط الفرس: كيف تحافظ امريكا على يابان قوية ترتبط معها بعلاقات كثيفة, وصين ترتضي تلك العلاقات الخاصة بين امريكا واليابان, وتنفتح اقتصادياً عليها؟ كيف تحافظ على علاقات يابانية صينية مستقرة من دون تحالف؟ كيف تبقي على الشكوك المتبادلة بين الجارين الآسيويين دون ان تصل الى الانفجار في صراعات مسلحة قد تضطر ازاءها لخسارة احدهما؟ عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة*

Email