ازدواجية مفهوم (الخيارات المفتوحة):بقلم-محمد خالد الازعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين يقوم دارسو العلاقات الدولية بجردة حصاد لمسار التفاعلات الدولية في القرن العشرين, سوف يتوقفون عند النموذج الامريكي بشيء كبير من الدهشة , سيلاحظ هؤلاء ان الاقدار القت بين يدي الامريكيين تراكماً هائلاً للثروة ومصادر القوة المادية والمعنوية, لكن السياسة الامريكية آثرت استخدام هذا التراكم بشكل لا اخلاقي فج. وسيلفت النظر ان غياب النظير الموازي للقوة الامريكية في نهاية القرن قاد الى مزيد من الشراسة والبحث عن فرائس بدلاً من الاخذ بيد المنظومة الدولية الى فضاء القانون والعدالة واساليب التعامل المتحضر. ستبدو الولايات المتحدة للمتأملين مثل شاب يافع ورث تركة كبيرة, راح يستقوي بها على كل من حوله بطيش وتهور. وقد ينتهي التحليل العام الى نتيجة مفادها ان واشنطن كانت اكثر العواصم لجوءاً الى آليات القوة بطيفها الواسع عند استشعار اية ازمة تخصها او تخص حلفائها والمتدثرين بعباءتها, وبالفعل, فإن واشنطن كانت في العشر الاواخر من القرن, العاصمة الاولى في تحسس صواريخها وعناصر ملكاتها العسكرية, في غمرة الازمات الدولية. ولتكرارية هذه الظاهرة, باتت لدى المتابعين قناعة معينة هي ان مفهوم (كل الخيارات مفتوحة) اذا صدر عن واشنطن لمخاطبة دولة عالمثالثية فهو يعني تلقائياً ان العالم بصدد ضربة عسكرية للطرف المنكوب (المقصود) بهذه الخيارات. وفي الواقع, وبحسب الخبرة, لا يمكن تصديق فكرة الخيارات المفتوحة هذه وتوضيعها في مكانها الصحيح على سلم التفاعلات الدولية في حال تبنتها واشنطن فالأصل في هذه الفكرة ــ المفهوم ــ هو ان هناك طيفاً من الادوات لتحقيق الاهداف, وان الفاعل الدولي يسعى حثيثاً لاستنفاذ هذه الادوات واحدة بعد الاخرى, حتى يصل الى سقفها وهي الاداة العسكرية.. غير ان المشاهد في السلوك الامريكي, هو القفز دفعة واحدة الى هذه الاداة الاخيرة, بلا وازع. لنأخذ مثلاً قريباً يخص الامة العربية.. فبينما كان المعنيون بالشأن العراقي يركضون في كل الاتجاهات, بحثاً عن مخرج من ازمة العلاقة بين بغداد ولجنة الامم المتحدة لنزع اسلحة الدمار الشامل العراقية, وعلى نحو يستبعد خيار القوة العسكرية.. كانت واشنطن وحدها تشحذ الصواريخ وتحرك القوات وتقيم التحالفات للانتقام من بغداد. وفي هذه الغضون, كان الساسة الامريكيون يلوكون مفهوم (كل الخيارات مفتوحة) اية خيارات هذه بصيغة الجمع, فيما واشنطن تحدد موعداً نهائياً (انذاراً) لانصياع العراق بلا شرط لمرادها؟ كان الاوفق مع المنطق ان تقول واشنطن كل الخيارات مغلقة الا خيار الاستسلام, هنا يكون الحديث عن فكرة الخيارات صحيحاً, اما استخدام هذه الفكرة بشكل مراوغ, فانه يضيف الى رصيد النموذج الامريكي لادارة العلاقات الدولية نقطة سوداء اخرى.. هي تضليل الخلق وتحريف المفاهيم عن مواضعها وأصولها. واذا كان الشيء بالشيء يذكر, فان واشنطن ذاتها تلوذ بمفهوم الخيارات المفتوحة بشكل مخادع, حيثما يتعلق الأمر (الأزمة) بأطراف أخرى. نقول ذلك وفي الذهن, أزمات المسار الفلسطيني الاسرائيلي للتسوية.. إذ لا يفوت عاقل النظر فيما تصنعه واشنطن بوساطتها أو شراكتها المشبوهة في سياق كل أزمة تستحدثها اسرائيل. انها ببساطة تلجأ الى مفهوم الخيارات المفتوحة او المتعددة, ولكن بمعنى ومضمون آخر. ومؤداه كل الخيارات مفتوحة الا خيارات الشرعية الروحية والمقاومة العربية او الفلسطينية والحقوق التاريخية. ونحن, في حقيقة الأمر, إزاء نوع من الازدواجية غريب. فالمفهوم هو في الحالتين العراقية والاسرائيلية. هناك قرارات دولية معينة مباشرة بالحالتين.. وتغلغل امريكي بارز فيهما.. ومع ذلك, فان المعنى (المقصود) بمفهوم الخيارات المفتوحة مع العراق يختلف تماما عن المعنى في حالة اسرائيل. هو مع العراق يشير الى استباق الزمن وجهود الاطراف الثالثة بما فيها الأمم المتحدة من أجل استخدام القوة.. لكنه مع اسرائيل, أي اذا قيل في معرض أزمة تخص اسرائيل, يفيدنا فورا عن استبعاد القوة ضدها من أي طرف كان. ومن الملاحظ, أن اسرائيل تتفرد بهذه الميزة مع الخطاب الأمريكي للعلاقات كشأنها في كل الميادين. وأن الأمة العربية (أو أحد أطرافها) تتفرد تقريبا بالتضرر منها. فان تحدثت واشنطن عن الخيارات المفتوحة في أزمة عربية اسرائيلية أدركنا ان العرب بصدد خسارة أو تنازل لصالح اسرائيل. وقد نذهب الى ان هذه الأخيرة اضحت تستأنس خيرا جديدا من الوسيط الامريكي حين يصلها نبأ خياراته المفتوحة معها. وهي تتأبط خيرا أيضا حين تعلم عن خيارات أمريكية مفتوحة ضد العراق, وتفرك كفا بكف في انتظار انطلاق صواريخ الخيارات الامريكية في اتجاه بغداد. سيتوقف منظرو العلاقات الدولية أمام هذا النموذج الامريكي لازدواجية المعايير وسوء استخدام المفاهيم. ولكنهم سيدهشون اكثر حين يلاحظون عدد المرات التي ابتلع فيها العرب هذا النموذج وسايروه بلا هدي من خيارات لديهم, خاصة بهم, تنبع من إرادتهم. وسيتساءلون حقا لماذا لم يكن لهذه الأمة خيارات متعددة مفتوحة او مغلقة غير الخيارات الامريكية العدائية دوما؟ كاتب وباحث فلسطيني ــ القاهرة*

Email