الديون الخارجية وحرية الشعوب:بقلم- المستشار - يحيى المصري

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تقرير مشترك اصدرته هيئات الاغاثة والمساعدة الدولية منذ ايام تم تحذير الدول الدائنة الكبرى من عدم تنفيذها للوعود التي اكدتها في اكثر من مؤتمر دولي وبموجب مبادرات حديثة في مجال تخفيف عبء مديونية الدول الاكثر فقرا في العالم والبالغ عددها ما يقرب من 42 دولة , حيث ذكر التقرير الذي اذيع في لندن خلال الاسبوع الماضي ان هذه الدول ستسقط فريسة نمط جديد من العبودية خلال القرن المقبل بسبب اعباء الديون الخارجية الضخمة. لقد اوضح هذا التقرير المشترك لهيئات الاغاثة الدولية ان الغرب عجز فعلا عن الوفاء بتعهداته بشطب جانب من مديونية الدول الاكثر فقرا رغم تأكيده بذلك منذ اكثر من ثلاثة شهور اثناء اجتماع قمة الدول الصناعية الكبرى السبع التي عقدت في برمنجهام وتصدرت معالجة مشكلة الديون الخارجية جانبا كبيرا من اعمالها. ويرجع التقرير ذلك الى اهتمام هذه الدول الكبرى بمشاكلها الداخلية حيث تنشغل اليابان بأزمتها الاقتصادية واوروبا بقضية الوحدة النقدية الاوروبية (اليورو) والولايات المتحدة الامريكية بآثار فضيحة (مونيكا جيت) وبالتالي يؤكد التقرير ان الدول الاكثر فقرا ستعود الى العبودية ولكن بشكل مختلف عما كان يسود القرون الوسطى, وهو شكل قد يدمر العالم بأسره. ان المتتبع لتطورات مشكلة الديون الخارجية يلاحظ انها اخذت اهتماما واضحا وملحوظا في مؤتمر برمنجهام الذي انعقد منذ اكثر من ثلاثة شهور على اساس انه يمكن ان يكون لها اثرها الخطيرة في كافة دول العالم الغنية والفقيرة, النامية والمتقدمة , كما سيكون لها اثرها السيىء ايضا على شعوب الدول الاكثر فقرا والتي لن تستطيع الوفاء بأقساط وفوائد ديونها الخارجية الا اذا كانت هناك تنمية حقيقية مناسبة تساهم في ادارتها الدول الغنية بخبرائها وبأموالها حتى تتقي شر شعوب الدول الاكثر فقرا التي تسعى للبقاء وتحارب المجاعة وتحاول القضاء على الجريمة, كتلك التي تحدث حاليا في الصومال وافغانستان, وكذلك كوريا الشمالية التي توفى فيها مليونا ونصف جراء الجوع خلال الثلاث سنوات الاخيرة فقط. ومن هنا ومنذ اواخر الثمانينات ظهرت مبادرات دولية حديثة وجادة لمعالجة مشاكل الديون الخارجية التي اصبحت تهم كل دول العالم, يمكن تقسيمها الى قسمين: اولا: مبادرات تهدف الى الغاء الديون كلية او الغاء الفوائد وجزء من الديون او الغاء الفوائد فقط وذلك بالنسبة للدول الفقيرة التي قدر عددها باثنين واربعين دولة, وفي مقدمة الدول التي اقترحت ذلك فرنسا التي بادرت منذ بداية الازمة بطرح مبادرتين بهدف تخفيض حدة ازمة ديون الدول ذات المنخفض والمتوسط على النحو التالي: 1- تضمنت المبادرة الفرنسية الاولى التي عرضت خلال اجتماعات مؤتمر قمة دول السبع الصناعية الكبرى في تورنتو في يونيو 1988 ثلاثة بدائل لتخفيف عبء المديونية على الدول الاكثر فقرا تتمثل في الغاء جزء من الديون الحكومية او تخفيض معدل الفائدة على الديون المطلوب اعادة جدولتها او مد فترات السداد لتصل لنحو 25 عاما مع تطبيق اسعار الفائدة السارية. وقد وافق المؤتمر على هذه المبادرة خاصة بالنسبة لدول افريقيا جنوب الصحراء واسند الى نادي باريس اتخاذ الاجراءات التنفيذية لهذه المبادرة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي لتحديد الدول المدينة المستفيدة على اساس المعايير الثلاثة التالية: - دخل الفرد السنوي لايزيد على 480 دولارا. - عبء المديونية يمثل نحو 30% من الصادرات الوطنية. - اتباع تلك الدول لبرنامج اصلاح اقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. هذا وقد استفاد بالفعل من هذه المبادرة كل من مالي ومدغشقر والسنغال ولكن بشكل ضعيف . 2- اعلن الرئيس الفرنسي في بيانه خلال اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك في سبتمبر ,1988 عن مبادرته الثانية لتخفيف عبء المديونية على الدول المتوسطة الدخل من خلال: - تحويل الديون التجارية الى سندات تستحق بعد فترات طويلة. - انشاء صندوق خاص لدى صندوق النقد الدولي مهمته ضمان دفع الفوائد المستحقة على الديون التجارية التي تم تحويلها لسندات على ان يتم تمويل هذا الصندوق عن طريق اصدارات جديدة من حقوق السحب الخاصة من الدول الصناعية الكبرى. هذا وقد عارض هذه المبادرة بشدة كل من المانيا الاتحادية والولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة بينما كانت اليابان من الدول المؤيدة لها. ثانيا: مقترحات تهدف الى اطالة مدد السداد مع تخفيض سعر الفائدة والمعاونة في التنمية الاقتصادية ومن بينها المقترحات الامريكية التالية: 1- مبادرة بيكر: تقضي هذه المبادرة بان تقوم البنوك التجارية الكبرى بتقديم تمويل لاكثر الدول النامية مديونية وعددها 15 دولة ــ تبلغ مليار دولار خلال ثلاث سنوات, وان يقوم البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الاخرى بتقديم تمويل قدرة تسعة مليارات دولار خلال نفس الفترة, على ان يتم ذلك بشروط ميسرة, وفي المقابل تتعهد الدول بتنفيذ سياسات اصلاح شاملة لتنمية اقتصادياتها واجراء التعديل الهيكلي الاقتصادي بها, بما يؤدي الى تشجيع الاستثمار المحلي والاجنبي وزيادة المدخرات وتحرير التجارة ودفع الصادرات وتحسين كفاءة استخدام الموارد وخفض العجز في الموازنات النقدية. 2ــ مبادرة برادى: اعلن وزير الخزانة الامريكية السابق في مارس 1989 عن خطة جديدة لمعالجة مشكلة المديونية تعتمد على الملامح الاساسية لمبادرة بيكر, من حيث اتباع الدول المدينة لسياسات اصلاح واستمرار تقديم الدعم المالي من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمساندة هذه السياسات مع زيادة الاقتراض من المصادر الخاصة, وتهدف الخطة اساسا الى تخفيض الدين ومدفوعات الدين ومدفوعات خدمته, وتقترح اعطاء دور اكبر لليابان ودول الفائض لتوفير التمويل والدعم للدول المدينة بالتعاون والتنسيق مع المؤسسات متعددة الاطراف وكان من المقدر ان يؤدي تنفيذ الخطة الى تخفيض الديون الخارجية لنحو 39 دولة مدينة لحوالي 70 مليار دولار تمثل 20% من جملة ديونها الخارجية وذلك على مدى السنوات الثلاث التالية لاعلان الخطة فضلا عن تخفيض مدفوعات الفائدة بنحو 20 مليار دولار. وقد تضمنت الخطة ما يعد تحولا في موقف الدول الدائنة والمؤسسات الدولية ازاء المساعدة في حل مشكلة الديون التجارية حيث تضمنت البدائل التالية: ــ استبدال قروض البنوك التجارية الدائنة بسندات مضمونة وبما ينطوي على تخفيض الدين. ــ مقايضة الديون القائمة بأدوات استثمارية اخرى ذات اسعار فائدة اقل. ــ استبدال الديون الخارجية بحقوق ملكية في شركات ومؤسسات محلية. 3ــ مبادرة بوش: طرح الرئيس الامريكي في نهاية 1990 مبادرة لتخفيف عبء الديون عن دول امريكا اللاتينية في اطار استراتيجية متكاملة تعنى بثلاثة محاور هي التجارة والاستثمار والديون, وقد استهدفت المبادرة توسيع التجارة عن طريق اقامة منطقة تجارة حرة تضم المنطقة الامريكية بأسرها, وتشجيع الاستثمار بزيادة التدفقات الى دول المنطقة, مع تخفيف عبء الديون في هذا الاطار وحيث تبلغ جملة الديون الرسمية ــ وحدها ــ المستحقة للولايات المتحدة على دول امريكا اللاتينية والكاريبي نحو 12 مليار دولار. وتتناول المبادرة تخفيف عبء الديون عن الدول التي تتبنى برامج اصلاح اقتصادي بمساندة المؤسسات الدولية وبما قد يصل نسبته الى اكثر من 50% في بعض الحالات, وكذلك مبادلة الديون التجارية بأسهم على ان يتم ذلك في ضوء ظروف كل حالة على حدة كما يقوم جانب من المبادرة على تدعيم سياسة حماية البيئة وذلك بانشاء صندوق تودع فيه فوائد الديون وذلك بالعملة المحلية للبلد المدين مع تخصيص الحصيلة لمشروعات البيئة. وهكذا يوجد مبادرات دولية صدرت من شخصيات لها وزنها السياسي والاقتصادي في كل من فرنسا والولايات المتحدة الامريكية كما توجد توصيات من اكبر مؤتمر اقتصادي دوري يضم السبع دول الكبرى والتي آخرها مؤتمر القمة المنعقد منذ شهور في برمنجام, ولكن شيئا ملحوظا لصالح الدول الفقيرة لم يتم حتى الآن بالرغم من اهمية تسوية مشكلة الديون الخارجية لكل من الدول الغنية والدول الفقيرة على السواء. فهل سيتم شيئ عاجل خلال الشهور القليلة المقبلة؟ ام يتم تنفيذ التحذير الذي اصدرته هيئة الاغاثة والمساعدة الدولية من تحويل سكان العالم الى سادة وعبيد, وهو ما كان سائدا في العصور الوسطى ولكن بشكل آخر قد يكون اكثر خطورة؟

Email