حديث الشهر: العربي في ربيعها الاربعيني، بقلم الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يصل هذا العدد من مجلة العربي الى قرائها في كل مكان من عالمنا العربي الواسع وكل بقعة تقرأ فيها العربية, فإنها كمجلة شهرية تخطو به الى بدايات العقد الخامس من عمرها, معنى ذلك ان عمرها قد جاوز أربعين عاما في خدمة الثقافة العربية, صحبت منها شخصيا سبعة عشر ربيعا دون انقطاع, عدا الانقطاع القسري في سنة الاحتلال العراقي للكويت أواخر عام90 وأوائل عام91 . خلال هذه الاعوام الاربعين والسبعة عشر ربيعا عاشت العربي منزهة عن الغرض وعن التمذهب, خالصة للعروبة الصافية وبها, وتوخت العلم الخالص والذوق الرفيع متجاوزة للصغائر, وباتت من اهم المجلات العربية ذات السوية العالية شكلاً ومضموناً فأصبحت مجلة مرحبا بها في البيت والمدرسة والمكتب والشارع على السواء. ووراء نجاح العربي قصة طويلة وجهد مستمر وعرق متصبب, وأنامل تكتب, وفكر يقدح من القائمين عليها والمساهمين فيها على السواء. وإن أردت أيها القارىء الكريم ان تعرف أجيالاً من الكتاب والمفكرين العرب فعليك بمطالعة العربي, فهي موسوعة عربية حديثة, وإن أردت ان تعود الى معلومة فالعربي تقدمها لك بارزة دقيقة, فهي قاموس للثقافة العربية الحديثة, وحيث عادت هي أكبر موسوعة عربية, وأكبر قاموس حديث, فدعني أحدثك عن البدايات وما بعد البدايات. البدايات صدرت العربي في ديسمبر سنة 1958, وكان التحضير لها قد تم في الشهور السابقة, والسنة التي صدرت فيها العربي سنة مشهودة, فهي السنة التي شهدت بدء خطوات الحلم العربي, فقد تحقق في ذلك العام أول وحدة عربية بين بلدين عربيين بالتراضي وبموافقة الشعبين السوري والمصري, فشهدت قيام الدولة العربية, ولم يمر بالكاد عشر سنوات على قيام إسرائيل التي اعتبرها العرب التحدي الحضاري الاول لهم جميعا ولما يمثلونه من حضارة وما يرمون إليه من تقدم, وشهد ذلك العام ايضا الثورة العراقية على الحكم الملكي, في سلسلة كأنها لا تنقطع من التغيرات السياسية العربية, والتي كانت وقتها وكأنها تكمل حلقة التحرر العربي, كما كانت الكويت تتطلع بشغف للتحرر من المعاهدة التي كانت تربطها ببريطانيا, وقد حققت ذلك بعد حوالي سنتين فقط, فكانت العربي الخطوة المتحررة الاولى للحرية السياسية والاستقلال الناجز. في تلك الاجواء المفعمة بالتفاؤل أخذ بعض رجال الكويت يبحثون في إصدار مجلة تمثل شغف الكويت بمحيطها العربي وانتمائها له قلبا وقالبا ورغبتها بالمساهمة في إثراء الثقافة العربية الحديثة, وكان على رأس الكوكبة الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الذي كان رئيسا لإدارة المطبوعات والنشر التي أنشئت حديثا, فقبل الفكرة وشجع عليها, وأنيطت قيادة التنفيذ برجلين فاضلين من أهل الكويت هما بدر خالد البدر واحمد السقاف يساعدهما آخرون, وقام الجميع بالسعي لتحويل الفكرة الى واقع, وتم بناء على ذلك اختيار المرحوم الدكتور احمد زكي وهو الرجل الاكاديمي والصحفي الضليع والعالم المصري المستنير لقيادة الركب, وتكونت فرقة العربي الصحفية من المنفذين, من خيرة الخبرات العربية الصحفية من جهة, وأفضل ما يمكن أن تحصل عليه من حسن النية وصفاء السريرة من القائمين على متابعة التنفيذ وتذليل العقبات من جهة أخرى, فكانت العربي هدية الكويت الثقافية لكل العرب, وما اصفاها من هدية تربط الاستمرار بالتجديد, وصدر عددها الاول في ديسمبر 1958. بدأت العربي تطبع بأعداد متواضعة بحسبة اليوم, فقد كانت الاعداد الاولى تطبع منها حوالي خمسة عشر ألف نسخة يمكن اعتبارها في حسبة اليوم متواضعة, ولكنها في حسبة الامس البعيد اعداد صخمة لم تصلها مطبوعة عربية وقتها ولم تحلم بها, وبتصاعد عدد المطبوع من الاعداد بمرور السنين وبتزايد رقعة القراء, وتجويد ما ينشر قفزت الى ثلاثين ثم خمسين ثم مائة الف نسخة, وعندما تسلمت مسؤولية الاشراف على التحرير فيها كانت اكثر من مائتي الف نسخة تخرج من كل عدد الى أنحاء العالم والى قارىء العربية في كل مكان. في هذه الاثناء انتقلت العربي من يد خبيرة الى أخرى خبيرة ايضاً, فقد طوت المنية الاستاذ الدكتور أحمد زكي, وتسلم القيادة الصحفية فارس من فرسان القلم العربي هو المرحوم الاستاذ أحمد بهاء الدين, وهو من هو في الصحافة والادب والسياسة, فخدم العربي مخلصا لسبع سنين. وصلت الاعداد المطبوعة من العربي اليوم ــ بعد اكثر من ستة عشر عاما من المعايشة, وأربعة عقود من النشر ــ إلى ثلاثمائة الف نسخة شهريا, يطبع نصفها في الكويت والنصف الآخر في القاهرة بعد ان تقدمت تقنية عمليات ما قبل الطباعة, فأخذنا نرسل العدد بعد اعداده الفني والتحريري في رسالة صغيرة الى هناك كي يطبع ويوزع في مصر وما حولها من بلدان عربية, ويزداد هذا العدد خمسين الف نسخة في الاعداد الخاصة, وبين العدد المتواضع من النسخ التي كانت, عندما بدأت العربي, وبين اليوم, بالعدد الهائل من المطبوع, ظروف وملابسات جعلت من هذا الامر عملية حتمية, إلا ان الاهم من ذلك هو ان الزمن قد تغير, فأصبحنا في عصر تنافس مع المطبوعات العربية المختلفة والبث المرئي (التلفزيون) والقنوات الفضائية العديدة من جهة, وتنافس آخر مع المطبوعات الاخرى الكثيرة والكثيفة والمتنوعة من جهة أخرى, إلا ان العربي حافظت على مركزها المتقدم بين كل هذا الزخم من المطبوعات والمنافسات لأسباب واضحة. ما هي اسباب نجاح العربي؟ من هذه الاسباب الصيغة التي تبنتها العربي من أول يوم خرجت فيه الى القارىء العربي, من حيث الشكل والمحتوى, فهي مجلة تقدم الجاد من القضايا في صيغة سهلة ومقروءة للمتوسط ثقافيا من الناس, وهي مجلة يكتب لها وينشر فيها المتخصص لغير المتخصص, وهي مجلة تحرص على الشكل كما تحرص على المحتوى, وهي أخيراً مجلة تبتعد ــ بما أوتيت من تصميم ــ عن التمذهب والانصياع لرأي عابر أو قضية سياسية خلافية, فقد استنت أن تأخذ بالعام والجوهري والمشترك فيما بين العرب, وتدافع في نفس الوقت عن قضاياهم وثقافتهم. ومن أسباب بقاء العربي كما هي قائدة للصحافة العربية الشهرية المتنوعة والجادة أنها لم تتوقف عن مسايرة الزمن في الشكل وفي الموضوع أيضا, وأي مطبوعة في يقيني تتوقف عن مسايرة الزمن تتراجع بفعل الزمن نفسه, لأن الزمن لا يتوقف, فلو اطلع منصف على اعداد العربي الاخيرة, وقارنها بالاعداد الاولى, فسيجد الفارق واضحا في المحتوي والتبويب وحتى اللغة كونها متغيرة ومتجددة, ولكنه تجديد على بناء سابق متماسك وصلب. ومن الاسباب التي أبقت العربي كما هي متجددة ومواكبة لذوق القارىء واحتياجاته شيء بسيط يختصر في كلمة قد لا تكون ذات أهمية لدى البعض, هذه الكلمة هي الحرية, وهي حرية مارسها المجتمع الكويتي عن قناعة ورعاها رجال مخلصون مروا, أو مازالوا, في قيادة المجتمع الكويتي على رأسهم الامير الشيخ جابر الأحمد الصباح وولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح, فعن قناعة لا ريب فيها عضد الاثنان الحرية الفكرية في الكويت مع صعوبة الفضاء السياسي المحيط وتوالي الضغوط المختلفة وكبر المسؤولية, ولكنها صعوبة آمنت بأهدافها القيادة السياسية فتحملت مشاق الطريق إليها. ولأن الحرية لا تتجزأ, فلقد شربت العربي من إناء صاف من الحرية, وهي حرية تتوازن بالمسؤولية, لذا نالت ثقة القارىء ومتابعته واحترامه ايضاً. لقد كتب أحمد بهاء الدين رحمه الله وهو يودع قراءه في العربي أنه لولا حروف صغيرة تطبع على غلاف العربي بأنها طبعت في مطابع حكومة الكويت لما عرف قارىء عربي في اي بلاد هي تطبع, كناية عن الخدمة غير المرجو منها أي فائدة غير فائدة الثقافة والتنوير. ومن اسباب بقاء العربي صامدة في وجه المنافسة هو ما استقرت عليه من قيادة, فأحد أهم اسباب تدهور بعض المجلات الثقافية أن تدخلت السياسة في تعيين قيادتها فتقلبت بين جاد وطارىء وحازم ومجامل, ففقدت احترام القارىء, والمطبوعة عندما تفقد ذلك الاحترام والمتابعة فمن الصعب ان تربحهما من جديد. العربي ولقاء الاجيال في عدد قريب من جريدة الحياة اللندنية نشرت أخيرا دراسة (1) اعتبرها مهمة لأنها ذات دلالة على تواصل الاجيال, فالدراسة هي استقصاء لآراء حوالي ألفين وخمسمائة شابة وشاب لبناني عن المجلات الاجنبية والعربية التي يقرأها الشباب اللبناني (2) , وقد جاءت مجلة العربي في الموضع الثالث من الاهتمام, على الرغم من أن الدراسة لم تكن مقصورة على المجلات العربية بل شملت الاجنبية, وان تكون العربي هي الثالثة فهذا ما أسميه تواصل الاجيال, فالعربي يقرأها العديد من الجيل الجديد, بل هي غذت أجيالا متواصلة من العرب, لذا فإن البعض عندما يشب ويكبر ويبتعد عن قراءة العربي لأسباب كثيرة يعتقد خطأ أن العربي لم تعد بذلك الانتشار الذي عرفه في شبابه, وذلك خطأ معرفي, لأن العربي تواصل الاتصال بالعناصر الشابة, ومرة قال لي أحد الاساتذة العرب إنه لم يعد يقرأ العربي, ولكن ابنيه الاثنين يقبلان عليها, فقلت له مازحاً: لقد فككناك باثنين, وهذا يكفينا. في حياتي العملية التقي بعض الاجانب في السلك الدبلوماسي أو في غير ذلك من الاعمال وبعضهم يتحدث العربية, وبعد قليل من المناقشة, يصرح هذا أو تصرح تلك بأنها تعلمت اللغة العربية من خلال مجلة العربي, فمدارس التعليم تعتمد على مجلة العربي لتدريس العربية لانها تحوي العديد من العلوم المختلفة بالعربية كما تقدم اللغة العربية الحديثة المبسطة, عدا أنها تقدم كل ذلك في قالب شائق, فيقبل عليها من يريد تعلم اللغة العربية من الاجانب. وكثيرا ما تأتينا رسائل من مجلات اجنبية تستأذن في إعادة نشر هذا المقال أو ذلك لكاتب عربي, لأن المقال ذو تأثير وأهمية, أو يقدم فكرة جديدة, وعادة ما نسمح بذلك بشرط واحد هو أن يشار الى انه قد نشر في مجلة العربي, وكثيرا ما يفعلون. من الرؤية... الى الرؤيا وقد لا يصح الحديث عن مسيرة العربي دون الحديث عن مساهمتها الكبيرة والمستمرة في مضمار (أدب الرحلات) وهو مصطلح ساكن برغم حيوية الموضوع الذي يتحرك في إطاره. وقد عرف أدب الرحلات بأنه (ذلك الادب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من احداث وما صادفه من أمور في اثناء رحلة قام بها لإحدى البلاد. وتعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية, لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية والتصوير المباشر) هذا التعريف الصحيح في بعض جوانبه لا يمكن ان يكون دقيقاً لو انتقلنا به من زمن الى زمن, حتى هذه الفترة القصيرة من عمر الزمن التي يمثلها الفارق بين العدد الاول والاعداد الاخيرة من العربي. فالعقود الاربعة حملت معها تغيراً ملحوظاً في مفهوم أدب الرحلات داخل مجلة العربي نفسها, إضافة للتغير العام الذي شهده, أو تحتم أن يشهده أدب الرحلات. وهو نوع من الأدب كان للعرب فيه دور بارز, وصار لمجلة العربي فيه دور يحافظ على استمرار هذا التراث من الادب الجميل, ويطمح الى التناغم مع روح العصر والاتساق مع التراكم المعرفي والفني في هذا النوع الخاص من الادب. العرب ذهبوا بعيداً في رحاب أدب الرحلات, وكانت البدايات خليطاً من أداء واجب مقرر بتكليف من الحاكم, ورغبة في السرد الحافظ للدهشة بآفاق العالم, مع بعض توابل الخيال والعقل الجغرافي الخرافي. ولعل من أقدم النماذج التي قدمها أدب الرحلات العربي في بواكيره الاولى, رحلة التاجر سليمان السيرافي بحراً الى المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري, ورحلة سلام الترجمان الى حصون جبال القوقاز عام 227 هجرية بتكليف من الخليفة العباسي الواثق, وكان التكليف منصباً على البحث عن (سد يأجوج ومأجوج) . بعد ذلك تدفق أدب الرحلات العربي صاعداً ومبتعداً ــ في حدود المناخ الثقافي لذلك الزمن ــ عن الخرافة وإحلال الخيال مكان الحقائق, فكانت رحلات المقدسي صاحب (أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم) , والادريسي الاندلسي في (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) , ورحلة البيروني (سنة 440 هجرية) (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) . جغرافياً توغل أدب الرحلات العربي في آفاق بعيدة, وليس أدل على ذلك من رحلات ابن بطوطة الذي بدأ تلك الرحلات عام 725 هجرية من طنجة الى مكة المكرمة, وظل نحو تسع وعشرين سنة يرحل من بلد الى بلد حتى بلغ أقاصي الارض بمنطق زمانه, وربما زماننا أيضاً, والطريف ان هناك خطأ شائعاً حول الكتاب المنسوب الى ابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار) فهذا الكتاب لم يكتبه ابن بطوطة بنفسه بل أملاه على أديب كاتب هو (محمد بن جزي الكلبي) بتكليف من سلطان المغرب. ومع ذلك فإن فضل ابن بطوطة في ذلك كبير ورحلاته رائدة بلا شك. وبعد ذلك انتقل أدب الرحلات العربي الى نوع من إعادة تعرف الذات عبر رؤية الآخر البعيد, كما في أدب الرحلات العربي الحديث, ومن نماذجه في القرن التاسع عشر رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه الشهير (تخليص الابريز في تلخيص باريز) وأحمد فارس الشدياق في كتابه (الواسطة في أحوال مالطة) وأخيراً اختلط أدب الرحلات بالذاتية من المنظور الادبي ليقدم توفيق الحكيم (زهرة العمر) راسما بتصوير أدبي رفيع حياة باريس التي عايشها, والحسين فوزي (السندباد العصري) ولعل من اكثر ألوان ادب الرحلات تميزا هي رحلات العلامة حمد الجاسر الذي سجل رحلته في البحث عن المخطوطات المتعلقة بالجزيرة العربية في مكتبات أوروبا. استعرضت في ذلك الموجز لمحات من مسيرة طويلة وزاخرة لأدب الرحلات العربي لأثبت حقيقة واضحة مفادها أن هذا النوع من الأدب شديد الثراء عربياً, له تراثه الضخم ومسيرته المتواصلة حتى بدايات قرننا العشرين. لكن شيئا من الانقطاع يمكن ملاحظته في أعقاب عودة الطلائع الاولى من التنويريين العرب الذين ذهبوا للدراسة في أوروبا. واندغم أدب الرحلات في أنماط من الكتابة غير مكرسة لهذا الادب أصلاً, وصارت النماذج الشاردة منه نوعاً من السرد الصحفي السريع في معظم الاحوال مع نماذج أدبية رفيعة قليلة ونادرة ندرة المبدعين العرب الذين كان من حظهم معرفة بعض الترحال لا بغرض الرحلة في حد ذاتها, وإنما لأغراض ثقافية كانت الرحلة مجرد وسيلة فيها. الذي حدث بعد ذلك ومنذ عقود قليلة تعاصر بعضاً من عمر مجلة العربي, أن انقطاعاً حقيقياً حدث في تدفق نهر أدب الرحلات العربي لأسباب مفهومة يمكن تلخيصها في دخول التلفزيون والفيديو أداة إعلام مرئية ومسموعة تأتي بالعالم الى الناس داخل بيوتهم, والانفاق الضخم لوسائل الاعلام العالمية بدءاً من التلفزيون حتى المجلة والجريدة وأخيراً الوسائط المتعددة في الكمبيوتر, كل هذه تدفقت على المتلقي العربي بسيل من النماذج الحديثة الباهرة فيما يشابه أدب الرحلات الحي فأحجم الاعلام العربي عن مواصلة تراثه في أدب الرحلات واستراح الى ترجمة ما يجده جاهزاً للبيع أو الاستئجار من وسائل الاعلام العالمية, فهذا ارخص وأيسر. إن إنصاف الذات في زماننا يتطلب شجاعة لا تقل عن شجاعة نقد الذات. ومن هنا أرى ان العربي قدمت وتقدم في مضمار أدب الرحلات العربي الكثير الذي يجب ان يحسب لها. فعلى مستوى التغطية تكاد العربي تكون بحق احدى الادوات المعرفية القليلة في الكثير من بقاع عالمنا العربي الدانية منها والقاصية, إضافة للمغامرة كبيرة الطموح في الوفاء بتغطية شاملة للعالم التي قطعنا فيها شوطا كبيرا ونعد بالاستمرار. وهنا لابد من الاشادة بفضل وزارة الاعلام الكويتية والقائمين على أمرها في عهود متوالية, إذ لم تبخل هذه الوزارة بتمويل هذه الرحلات بشكل ييسر أداءها. كما ان الدبلوماسية الكويتية كانت عونا مستمراً لأعضاء بعثات العربي الى اماكن مختلفة من العالم وهو دور كريم لم نلتمسه وخذلنا أبداً. على مستوى المبادرات والسبق الصحفي فإن مجلة العربي ذات تاريخ وحاضر (يرفع الرأس) دون ادعاء, ويكفي ان اتذكر من سجل المبادرات الحافلة لاستطلاعات العربي تغطية مناطق مثل الجمهوريات الاسلامية في آسيا الوسطى والمجتمعات الاسلامية في كل قارات الارض تقريبا. كما أن هناك مبادرات في التعريف الحي بأماكن من العالم لم تسبقنا فيها مطبوعة أو وسيلة أعلام عربية كتغطية معظم بلدان الجنوب الافريقي وكل بلدان آسيا التي كان يطلق عليها الهند الصينية. وأقول بغبطة بالغة إن العربي سبقت وسائل إعلام عالمية شهيرة في الوصول الى مناطق نادرة من العالم في بعض استطلاعاتها. هذا على الجانب الكمي, أما الجانب الكيفي فهو يحتاج الى انصاف التقدير والدراسة من خارج العربي. أما إنصاف الذات, فهو واجب وصعب ــ كما أسلفت ــ لكن لابد من مقاربته. فهناك تطوير كيفي مدهش في بعض استطلاعات العربي الحديثة والتي استجابت بحس مرهف للتحديات والمستجدات التي تحتم التغيير. فأدب الرحلات في شكله المعتاد لم يعد مطلباً عالياً من مطالب الطموح, لأن التغطية بنقل الصور والمعلومات نقلاً فوتوغرافياً وحرفياً لم تعد مطلوبة, ببساطة لانه يمكن الاستغناء عنها بالمتاح على قارعة الطرق الاعلامية في كتيبات وكتب السياحة وشرائط الفيديو والاقراص المدمجة. فما الجديد والمطلوب تأديته؟ انني اعتقد ان المطلوب في ادب الرحلات الجديد وكاستجابة للتحديات الحديثة ــ ان يقدم الرؤيا ولا يكتفي بالرؤية, فالرؤية وان تكن مطلوبة وواجبة من زاوية الاداء المهني الصحفي, الا ان الرؤيا هي التاج الذي يرفع الاداء المهني الصحفي الى اعلى واسمى ليتحول نص الرحلة الى وثيقة جمالية وفكرية. لا ازعم ان كل نماذج العربي تحقق ذلك لكن هناك تحققات ملموسة اترك تقديرها لحكم القارىء والدارس. الرؤيا في ادب الرحلات الجديد يمكن تعريفها بانها استقطار روح المكان للخروج بفلسفة انسانية تكمن وراء المشاهدات. وفي هذه الحالة من الاداء المهني لابد من توفر ادوات خاصة تبدأ بالاسلوب وتنهل من التشكيل الفني وسعة الافق الثقافي وامتلاك الرأي لدى كتاب موهوبين يسعدني ان تكون اسرة العربي قد ضمت وتضم بعضا منهم. ان الاستطلاعات المصورة ــ كنماذج من ادب الرحلات العربي الحديث ــ تشكل محورا فنيا في تكوين هذه المجلة الثقافية المنوعة يشغل مساحة تقارب (خمس) عدد صفحات كل عدد ــ استطلاع اجنبي وآخر عربي وثالث محلي (كويتي) ــ واظن انه محور ناجح او لا يكف عن التطلع الى النجاح الذي نأمل في مواصلته. العربي و22 رقيبا لقد وصفت العربي ذات مرة بانها المجلة التي يتردد الرقيب تماما قبل ان يرفضها فالرقيب يدرك انه سوف يصادر مجلة من الصعب اتهامها بأي نوع رمن المهاترات. فقد اكتسبت العربي جزءا من شهرتها من بعدها عن مهاجمة الانظمة او محاباتها او الانضمام لنظام ضد آخر ليس لانها تدرك ان هناك 22 رقيبا يقفون لها بالمرصاد بل لانها تتوجه دائما الى الجوهر في اي قضية تعرض لها فهي تدرك ان الجوهر باق والهيكل زائل. وبطبيعة الحال فالعربي لا تخاف من المصادر مادامت تسعى خلف الحقيقة. ولكن يحزنها ان تغيب عن قارىء تعود ان ينتظرها وان يختصر فيها كل المجلات التي يطمح الى قراءتها. فجزء كبير من قراء العربي يقيمون خارج العواصم العربية الكبرى في المدن الصغيرة والقرى والنجوع وحتى في واحات الصحراء هؤلاء هم الذين يمثلون الغالبية العظمى المحرومين من مصادر الثقافة المختلفة وتمثل مجلة العربي بالنسبة لهم زادا ثقافيا لا غنى عنه في مطلع كل شهر. هؤلاء هم الذين تحرص العربي على الوصول اليهم وعليها من اجل ذلك ان تنفذ من مصفاة الرقابة التي كثيرا ما تكون دقيقة لدرجة الاختناق. ورغم ذلك لم تنح العرب من المصادرة. حدث هذا في مرات قليلة بالنسبة للعدد الاجمالي للمجلة. ولكنها مرات جعلتنا نتوقف لنرى تلك العثرات التي يقف عندها العقل العربي جامدا غير قادر على الانفتاح. وغير قابل للرأي الآخر. ان الاعداد التي صودرت كانت في اغلبها نوعا من التصعيد غير المقصود وكان هذا يثير في داخلنا نوعا من الضحك المختلط بالغيظ. فازاء هذا الجهد الذي يبذل وتلك الكمية من الاقلام والافكار التي تساهم في كل عدد يصبح من المحبط حقا ان يقوم موظف بيروقراطي بمنع هذا كله بجرة قلم. وفي احيان كثيرة تدور بيننا وبين واحد من الرقباء مكالمات هاتفية حادة. نحاول ان نوضح وجهة نظرنا ونعبر عن موقفنا. واحيانا يتفهم هذا الرقيب وأحيانا تكون (قد سمعت لو ناديت حيا) . فالرقيب لا يريد ان يتزحزح ونحن نرفض ان نمزق صفحة او مقالة. فالحرية عندنا لا تختلف عن المسؤولية فكل منهما تكمل الاخرى. ومن واقع هذا الامر فنحن ندافع عن اي فكر مادام لا يعتدي على فكر آخر, ونناصر كل قوى التقدم في العالم العربي مهما كان نوع الحدود التي تأتي من خلفها. المشكلة مع الرقابة ان القارىء هو الذي يدفع الثمن. فهو يسعى بكل جهده للحصول على هذا العدد المصادر من الدول المجاورة له ولو دفع في ذلك اثمانا مضاعفة. وأحيانا تنهال علينا الرسائل والفاكسات من قراء تعودوا ان يكون لديهم مجموعة كاملة من اعداد العربي, وهم يطلبون منا في الحال ان نمدهم بالعدد المصادر حتى لا تنقص المجموعة التي يعتزون بها, وتبقى المشكلة كيف نرسل لهم هذه الاعداد بعيدا عن انف الرقيب. وحتى لا يغضب مني الرقباء العرب فإن علي ان اعترف ان العدد الكبير منهم قد اصبحوا اكثر وعيا وتفهما, وهم لا يمارسون هذه المهنة من فرط التزمت بقدر ما يوقعهم كثرة الحرص والخوف من الغام الرموز التي يمكن ان تحتشد بها بعض المقالات. ونحن مثلهم نحاول ان نزيل مثل هذه الالغام لاننا نريد للافكار ان تنور عقول القراء لا ان تنثر شظاياها. الابناء ينضجون منذ الصدور الاول للعربي وقد حرصت على الا تكون مقصورة على الكبار من القراء العرب. ولكنها كانت ترى ان مستقبلها مرتبط بمستقبل الطفل العربي, لذلك سعت اليه منذ البداية من خلال ملحق صغير وملون كان يحتوي على بعض القصص الشعبية والاحداث التاريخية. ولقد احدث هذا الملحق اثرا كبيرا في نفوس اطفال ذاك الزمن الذين اصبحوا كبارا الآن لقد كنت في مقتبل عمري حين امسكت بهذا الملحق لاول مرة, كنت قد تخطيت تلك المرحلة التي يخاطبها ومع ذلك بدا لي شديد الجاذبية والغنى في الوقت نفسه. وتمنيت ان يكون هذا الملحق عبارة عن مجلة متكاملة كثيرة الصفحات غنية بالالوان والرسوم والمعلومات بحيث تسعد القارىء الصغير كما تسعد العربي القارىء الكبير ولم يكتب لي ان اشرع في تنفيذ هذا الحلم الا بعد 27 عاما كاملة. فمنذ اليوم الاول الذي توليت فيه الاشراف على العربي سعيت لتحويل هذا الملحق الى تلك المجلة المتكاملة التي حلمت بها وانا فتى. ولم يكن هذا بالامر السهل. فقد كانت هذه المجلة تحتاج الى رؤية تربوية تجعلها تمثل بذرة صالحة للنمو والازدهار كما انها في حاجة الى جيش من الكتاب والرسامين يجعل صدورها امرا منتظما ويضفي على صفحاتها نوعا من الحيوية والابتكار كما انها وهو الاهم لابد ان تقيم جسرا مع قارىء صغير لا يستطيع ان يعبر عن احتياجاته الواقعية بوضوح. وهكذا قررنا ان نصدر العدد صفر الاول ثم اصدرنا العدد صفر الثاني ولم نطرحهما في الاسواق ولكننا ارسلناهما للعديد من اخصائيي التربية في كل بلد من الوطن العربي. ووصلتنا عشرات التقارير والاقتراحات وكان يغلب عليها الطابع الايجابي المرحب بمثل هذه المجلة التي يحتاج اليها عالمنا العربي الفقير نسبيا لهذا النوع من المطبوعات. وهكذا صدر العدد الاول من العربي الصغير في اول فبراير عام 1986 متوافقا مع ذكرى مرور ربع قرن على استقلال دولة الكويت الحديثة. وليست العربي الصغير هي الابن الأوحد للعربي. ولكن هناك ابنا آخر اكثر نضجا هو كتاب العربي. لقد كانت فكرة هذا الكتاب وليدة الحاح العديد من القراء الذين كانوا يريدون ان يقرأوا الموضوعات التي تابعوها على مدى اشهر طويلة في سياق واحد. ففي حالة تجمع الافكار يسهل بلورة خلاصتها والوصول الى موقف محدد. وكانت ولادة كتاب العربي في يناير عام 1984 عندما صدر العدد الاول حاملا عنوان (الحرية) من تأليف الدكتور احمد زكي في لمسة وفاء من القائمين على العربي في هذا الوقت لاول رئيس تحرير لها وتمجيدا لواحدة من اسمى القيم التي حرصت عليها وهي قيمة الحرية. ان تأثير كتاب العربي لم يقف عند حد القراء وحدهم بطبيعة الحال. ولكنه امتد الى الكتاب ايضا ومنهم الكاتب الاسلامي الكبير احمد كمال ابوالمجد الذي اكتشف انه قدم على صفحات العربي كتابا متكامل الاركان دون ان يعلم بذلك وقد اخذ هذا الكتاب بعد ذلك واعاد نشره في احدى دور النشر المعروفة. وهذا واحد من أمثلة عديدة اضاف فيها العربي ارصدة جديدة الى كتابها. رغم الحلم الخافت جاءت العربي تعبيرا عن حلم قومي. شمل عالمنا العربي بشكل عام وشمل الكويت بشكل خاص حين أرادت ومن خلال هذه المجلة ان تنتقل من مركز دولة في الاطراف الى دولة في القلب. ولكن رحلة مجلة العربي مع هذا الحلم لم تكن سهلة. فقد كانت شاهدا على الانتكاسات التي واجهها هذا الحلم وعلى الجراح التي اصابته في مقتل. واستطيع القول ان العربي ظلت وفية لهذا الحلم حتى في اقصى درجات شحوبه. وكان يكفيها انها تسعى في تحقيق احد جوانب هذا الحلم وهو الوحدة الثقافية. لقد كانت تدرك انها ثمرة حضارية وفكرية للعقل العربي وانها ربما كانت القشة الاخيرة التي يتمسك بها المفكرون العرب كي يتحاوروا على ساحتها بتفاعل وحرية قبل ان تفرق بينهم حدود الانظمة السياسية. ركزت العربي على القضايا الاساسية, وبطبيعة الحال كانت قضية الصراع العربي ــ الاسرائيلي, ولا تزال, هي جوهر اهتمامها فقد اعتبرتها هي قضية العرب الرئيسية مهما تصاعدت من قضايا جانبية. وقد حماها هذا الى حد كبير من الانزلاق في هوة الخلاف العربي ــ العربي الذي عصف بأمتنا خلال هذه العقود الماضية. ولا داعي لذكر اننا خضنا ضد اسرائيل ثلاث حروب. ولكننا خضنا ضد بعضنا البعض عشرات الحروب, بعضها بالسلاح وبعضها بالكلام. وفي تلك الحروب كلها كانت العربي تدرك ان الانزلاق الى هذه الهوة لن ينجيها ابدا فقد اعتبرت هذا الامر اسوأ علامات التخلف العربي ولم يعنها ان تكون جزءا من هذا التخلف. وكم من مرة ردت المجلة كاتبا حاول ان يجرها الى هذا المجال. وكم من مرة رفضت مقالا يكتبه كاتب متحيزا لنظام ضد نظام. وكم من مرة رفضت قصيدة تمتدح حاكما او مسؤولا. وكم من مرة رفضت موقفا متعصبا وشوفينيا يعلي من قيمة شعب فوق غيره من الشعوب. لقد اصبح الحلم هنا مهما بلغت درجة خفوته معيارا للعمل وللنظر الى الافكار التي تقدمها المجلة ولان العربي لم تكن من مجلات الصفوة, اي انها كانت تتوجه في معظم افكارها الى الغالبية العظمى من العرب فقد صاغت افكارها القومية على هذا الاساس. كانت تدرك ان هذا الحلم الضائع خلف صراعات الصفوة من القيادات يرقد كجذوة من جمر في اعماق كل بسطاء العربية وهم يدركون انه رغم اختلاف البيئات العربية وتنوعها الا ان هناك رباطا دينيا وثقافيا يشدهم جميعا معا. هذا الشعور الدفين ليس عاطفيا بقدر ما يستند الى تراث عميق من المشاركة في الالم والرغبة في الخلاص. والآن ماذا يحمل لنا المستقبل؟ ان حضارة الورق وكل ما تمخضت عنها من مطبوعات ومن بينها العربي قد اصبحت مهددة بالتقنيات الرقمية وما تحمله من ذاكرة مضاعفة تجعلها تختزن الملفات الضخمة في شرائح دقيقة. اي ان مجلدات العربي على مدى كل هذه السنوات يمكن ان تختزل الى قرص ضوئي صغير. فهل يأتي علينا وقت نصدر فيه العربي في احدى هذه الشرائح؟ لقد قامت احدى المؤسسات بتجربة الغت فيها كل الاوراق واستبدلت بها شرائح واسطوانات وحذفت كل الملفات القديمة وخزنتها داخل اجهزة الكمبيوتر وانتظرت ان يأتي هذا التطور بعائد كبير على مستوى الوقت وانجاز العمل ولكن النتيجة كانت عكسية تماما فقد اصيب الموظفون بالاكتئاب وقل انتاجهم. فهل يمكن ان تصاب البشرية باكتئاب من دون مطبوعاتها وهل يمكن ان نصاب نحن باكتئاب من دون العربي. اتمنى طبعا الا يحدث هذا اليوم. ولكننا لا نكتفي بالتمني اننا لا نكف عن التطور شكلا وموضوعا. ويكفي مقارنة بين العدد الاول والعدد الاخير حتى ندرك حجم القفزة التي قطعناها. اننا نعتمد على كل التقنيات الحديثة, وعلى قوة الصورة, وعلى صدق المعلومة, ونتابع كل تطور في الطباعة, وندرك ان التقنية وسيلة للارتقاء وليست غابة نضيع فيها. ان العربي بهذا العدد تدخل عاما جديدا. ومستعدة بعد ذلك لدخول قرن جديد وهي لم تضيع حلمها ولم تفقد صدقها.

Email