من الأهلي... الى الوطني: أزمة الأحزاب... وسياسة توازن الضعف:بقلم- جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرة اخرى يثبت النادي الأهلي انه (الحزب) الوحيد القادر على التأثير بين الاحزاب المصرية. لا نتحدث هنا عن الشعبية ولا عن الانجاز الرياضي , ولكننا نتحدث عن ادارته لمعاركه وحشده لصفوفه وتحديده لاهدافه, ثم الدخول في صراع تكون نتيجته ـ في الاغلب الاعم ــ لصالحه. ولذلك فانه (الحزب !!) الوحيد الذي تعمل له الحكومة حسابا وتتعامل معه بحذر.. وايضا باحترام. في الأيام الاخيرة خاض حزب (الاهلي) معركة ضد تلفزيون الدولة من اجل مضاعفة ما يقدمه التلفزيون له نظير اذاعة مبارياته على الهواء ــ ورفض التلفزيون وتلكأت اجهزة الدولة, فما كان منه الا ان منع اذاعة مبارياته, ورفض دخول أجهزة التلفزيون الى الملعب, وأجبر اجهزة الحكومة على الدخول معه في مفاوضات انتهت بالاستجابة لمطالبه, وبعدها فقط سمح لاجهزة التلفزيون بدخول الملعب واذيعت المباراة من منتصفها, ليعرف الناس جميعا انه كانت هناك ازمة وتم حلها. وبالطبع حدث هذا بعد اقتناع الدولة بعدالة مطالب الاهلي, ولكن ما نريد ان نقوله هو انه لو كان الاهلي ضعيفا, او منقسما, او غير قادر على ادارة معاركه لما التفت اليه أحد.. حتى ولو كان الحق معه مائة في المائة. وما يتوافر للنادي الاهلي هو بالضبط ما تفتقده الاحزاب السياسية في مصر, وهو الامر الذي حول الحياة السياسية الى فراغ قاتل وضار بالحاضر والمستقبل معا, نعم, هناك على ما اظن, اربعة عشر حزبا لها رخصة ولافتة ورئيس وصحف منتظمة او غير منتظمة... ثم لا شيء بعد ذلك! ونصف هذه الاحزاب أو أكثر لا يمثل شيئا ولا ينتظر منه احد دورا كبيرا او صغيرا. انها مجرد (سبوبة) لالتقاط الرزق احيانا, او قضاء اوقات الفراغ بعد المعاش احيانا اخرى, او حتى مجرد الظهور في الصحف والتلفزيون في احيان ثالثة. ومن بين رؤساء هذه الاحزاب من يكتفي بأن يقرأ الطالع ويشوف البخت (كالحاج الصباحي) ومنهم من يتاجر بتراخيص الصحف, ومنهم من طرد من موقعه بعد اتهامه بالنصب والاحتيال, ومنهم من يكتفون بحراسة مقر الحزب خوفا من ان تستولي عليه الجماهير! هذا هو حال النصف الكوميدي من الاحزاب, وهو امر موجود في كل ديمقراطيات الدنيا ولا يتعامل معه احد بجدية كما يتعاملون مع الاحزاب الحقيقية الفاعلة التي تتنافس وتتصارع لكي تحكم وتنفذ برامجها من اجل مصالح الناس ومن اجل النهوض بالدولة, ولدينا بلا شك احزاب كان المفروض ان تقوم بهذا الدور لكنها للاسف ضاع منها الدور والفاعلية والهدف, وتحولت في النهايةالى نواد سياسية محاصرة في مقراتها, بعيدة عن الشارع السياسي, وابعد عن ان تؤثر في قرار او تعدل في سياسة, او تحلم يوما بأن تحكم أو تكون شريكا في الحكم. بالطبع يقع جزء من المسؤولية عن هذه الحالة المأساوية على عاتق القوانين المنظمة للاحزاب, والتي استهدفت من البداية الحد من فاعليتها, وجعلت مصيرها معلقا على كلمة من الحكومة, ووضعت من القيود ما جعل الحزب الواحد يضم اشتاتا تتصارع فيما بينها للسيطرة على الحزب... فلم يعد الخلاف بين الفرقاء يحل بالحسنى. لأن من يخرج من الحزب يعرف أنه لن يستطيع انشاء تنظيم حزبي اخر يعبر عن رؤيته, فهناك الف قيد قانوني, وهناك لجنة للاحزاب لم يحدث وأخطأت يوما ووافقت على انشاء حزب... بل تركت الامر للقضاء, واحيانا للقضاء.. والقدر! ولم تكن القيود القانونية وحدها هي العقبة, بل كان هناك التدخل الاداري الدائم لمحاصرة الاحزاب ومنعها من ممارسة نشاطها بين الناس وخارج المقرات, ثم كان الحصار الاخطر في الانتخابات العامة المتتالية, حيث مورست من الادارة كل انواع الضغوط والتدخل والتزوير واستخدام اصوات الغائبين والموتى ليتم المراد وهو سقوط الجميع ونجاح مرشحي الحكومة.. وهو ما تدفع الحكومة نفسها بعض ثمنه الآن في نزاعها مع حزبها او ما يسمى بالحزب الحاكم! وقد أثمرت هذه السياسات ثمرتها المرة, فكانت النتيجة ان الاحزاب التي يفترض فيها ان تمثل تيارات سياسية حقيقية ومتواجدة في المجتمع, انكفأت على نفسها, وغرقت صراعاتها الداخلية, وازدادت ضعفا على ضعف. وبدلا من محاولة الخروج عن الحصار وبناء الحزب بطريقة علمية وتطوير الفكر السياسي, انشغل الجميع بالمعارك الداخلية, وغاب الحوار العاقل, وانطفأت جذوة الحماس, وتواضعت آمال الجميع من الوصول للحكم بالطريق الدستوري وتقديم البديل الاصلح, الى مجرد التواجد على الساحة والمحافظة على المقر, واصدار الصحيفة, وكان الله يحب المحسنين! وكانت النتيجة الحتمية لكل ذلك ان تبتعد الجماهير عن المشاركة السياسية وان تفقد الثقة في القدرة على التغيير من خلال صناديق الانتخابات, وان يستولي عليها الملل من الخطاب السياسي المتكرر الذي لا يحمل جديدا والذي يعيش معارك الماضي دون تفكير في تحديات المستقبل. ولسنوات طويلة استراحت السلطة لهذا الواقع, وتصور البعض ان ذلك سيساعد على تمرير سياسات (اقتصادية اساسا) قد لا تمر بسهولة في واقع سياسي نشيط, ولكن الثمن كان فادحا, ففي ظل الفراغ السياسي وجدت الاتجاهات المتطرفة مكانا لها, وساعدها ان عبء السياسات الاقتصادية كان ثقيلا على الطبقات الفقيرة والكادحة, وان الركود الاقتصادي وما نتج عنه من نسبة بطالة عالية, مع ازدياد الفوارق في الثروات... كل ذلك كان وقودا للتطرف, ومناخا استغله الارهاب. ولقد خاضت مصر ــ حكومة وشعبا ــ معركة ضارية وناجحة ضد الارهاب, ولكنها كانت ــ ومازالت الى حد كبير ــ معركة أمنية تمت في ظل فراغ سياسي كبير وحياة حزبية فقيرة يتساوى في الضعف فيها احزاب المعارضة وحزب الحكومة الذي لم يكن يوما حزبا بالمعنى الصحيح, ولم تسع السلطة الى ان يكون كذلك فقد اغراها ضعف احزاب المعارضة بالا تسعى الى تكوين حزب حقيقي, وانما الى كيان ضعيف مترهل لا يمارس عملا حزبيا حقيقيا, وتضمن له السلطة النجاح في الانتخابات ليسعى الى تحقيق بعض المصالح الضيقة والمكاسب الشخصية. والمشكلة الآن ان المصالح تضخمت الى حد كبير في ظل نظام السوق وعمليات الخصخصة وصعود بعض رجال الاعمال وامتداد نفوذهم وجهودهم لوضع اصحاب النفوذ السياسي (في الحزب او البرلمان) لخدمة مصالحهم, وفي غيبة العمل السياسي الحقيقي والضوابط الحزبية, والفصل الدقيق بين العام والخاص, وبين السياسة والتجارة, انفلتت اوضاع كثيرة لم تعد الرسالة الآن من اجل شقة او وظيفة وانما لتمرير الصفقات, والحصول على قروض بملايين الدولارات, وتسهيلات لا أول لها ولا آخر, ولم تعد الصراعات عند البعض من اجل الخدمة العامة بل من اجل تأمين مستقبل الابناء بالحصول على التوكيلات او تسهيل مخالفة القانون او استغلال الثغرات فيه. والنتيجة ان الحزب الحاكم اصبح عبئا ثقيلا على الحكومة, كما ان الحياة الحزبية الضعيفة اصبحت عبئا على الوطن كله... اصبح الحزب الحاكم كالفيل الكسيح تحمله الحكومة على كتفيها فيعرقل خطواتها, ولا يقدم لمؤسسة الرئاسة عونا يذكر في المعارك التي تخوضها. ولعل المراقب يلحظ ان المعارك المرتبطة بالسياسة الخارجية والعربية لمصر كان العون الاساسي فيها من التيارات التي تنطوي تحت جناح المعارضة... هي التي ساندت بقوة الموقف من غطرسة اسرائيل ومؤامرات امريكا, وهي التي وقفت من البداية ضد التطبيع, وأيدت كل خطوة على طريق التقارب العربي, وتمسكت بقوة باستقلالية القرار المصري رغم كل الضغوط. الآن تدرك الحكومة ان حزبها قد اصبح عبئا عليها, ويعرف الجميع ان رئاسة الرئيس مبارك للحزب تأخذ من الرئيس ولا تضيف اليه, وتكشف الازمة الاخيرة بين الحكومة والبرلمان عن الحاجة الشديدة الى اصلاح جذري يبعث الحياة في الحياة الحزبية والسياسية, وتفرز برلمانا يليق بوجه مصر المضيء, واحزابا حقيقية لا تنشغل بصراعاتها الداخلية ولا بمعارك وهمية, ولا تعاني الحصار داخل مقراتها, ولا تنشغل بالماضي عن المستقبل, ولا بالمكاسب الشخصية عن المصالح العامة. ومصر ـ بكل تأكيد ـ مؤهلة لذلك وقادرة عليه, ورغم التحديات الهائلة التي تواجهها... بل ان هذه التحديات نفسها هي التي تفرض هذا التحول الاساسي الذي لابد منه... والذي يزيدها ثقة في النفس وقدرة على صنع المستقبل.

Email