قواعد اللعبة البرلمانية:بقلم- صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المرويات التاريخية عن اول مجلس نيابي عرفه العرب، وهو مجلس شورى النواب، الذي اسسه الخديو اسماعيل عام ،1866 رواية تقول ان (شريف باشا) - وزير الداخلية - دخل الى قاعة المجلس ، قبل قليل من افتتاح الجلسة الاولى في دور الانعقاد الاول، فلاحظ ان معظم النواب يجلسون ناحية اليسار، فقال لهم مداعبا: ان اعضاء البرلمانات في البلاد الاوروباوية ينقسمون الى حزبين ... احدهما يؤيد الحكومة، ويجلس عادة الى اليمين، ويعارضها الآخر، ويجلس عادة الى اليسار. وما كاد ينتهي من كلامه حتى هرول كل النواب الجالسين على اليسار في ذعر بالغ، نحو اليمين، وهم يقولون: حاشا لله ان نعارض حكومة افندينا ... وظلت مقاعد اليسار خالية، طوال دور الانعقاد الاول ... ولسنوات طويلة بعد ذلك! ومع ان المجلس كان مجرد هيئة استشارية لا تملك اية سلطة حقيقية، مؤسسة شكلية، كان »اسماعيل« يهدف منها الى مفاخرة اصدقائه الاوروباويين بان لديه مثلهم برلمان، ومسرحية اراد ان يطمئنهم بها، الا ان ما اقترضه منهم، ليس ديونا شخصية، ولكنها ديون عامة، تضمن لهم الامة، عن طريق ممثليها سدادها، فان تلك المسرحية مالبثت ان انقلبت الى واقع، وبعد ثلاثة عشر عاما، كان »ممثلو« الشعب، قد اندمجوا في ادوارهم، وبدأوا يتصرفون بالفعل مع الحكومة - باعتبارهم نوابا عن الامة، وانتقل معظمهم الى مقاعد اليسار من دون ان يجدوا في ذلك ذنبا يستحق الاستعاذة منه بالله، او جريمة تستحق الاعتذار عنها، فاعترضوا على الحكومة لانها تصدر القوانين من دون عرضها عليهم، ومارسوا حقهم في الرقابة عليها، واصروا على عدم فض دورة انعقاد المجلس لعام 1879 قبل ان تعرض الحكومة عليهم الميزانية لاقرارها، وعندما اعلنت الحكومة عليهم بان »اللائحة« - اي الدستور - التي انتخبوا على اساسها لاتعطيهم هذا الحق ... قرروا تعديل اللائحة، ولما هددتهم بأن تفض الدورة بالقوة، تقمص زعيمهم »عبد السلام المويلحي باشا« - كبير تجار القاهرة - شخصية الثائر الفرنسي الشهير »ميرابو« وكرر عبارته المعروفة: اننا لن نغادر مقاعدنا الا على أسنة الرماح. لكن المشهد الافتتاحي للحياة النيابية العربية، لايزال ماثلا في ذاكرة الحكومات التي لاتزال تفضل ان يكون النواب من النوع الذي يستعيذ بالله من الجلوس في مقاعد اليسار، وفي ذاكرة النواب الذين يفضل معظمهم ان يجلس في مقاعد اليمين، لكي يفوز بخيرات الحكومة، فاذا بخلت عليه. بما يريد، هددها بانه سوف ينتقل الى مقاعد اليسار والعياذ بالله، فتسارع لارضائه وتستجيب لمطالبه. والازمة التي نشبت خلال الاسبوعين الماضيين بين الحكومة المصرية، ومجلس الشعب، هي احد تجليات هذا المشهد الافتتاحي للحياة النيابية العربية، وقد بدأت بخلافات بين بعض نواب المحافظات، وبين بعض المحافظين، الذين ضاقوا بالحاح النواب على طلب خدمات استثنائية لانصارهم، فرفضوا هذه الطلبات، لانها فضلا عن عدم قانونيتها تخل بمبدأ المساواة بين المواطنين، ولان المحافظين، جزء من السلطة التنفيذية ، فقد ساندهم رئيس الوزراء في رفضهم لطلبات النواب، فانتهز هؤلاء فرصة اجتماع رئيس الدولة بهم، ليشنوا حملة ضد الحكومة، وتعرض رئيس الوزراء اثناء القائه لبيان امام مجلس الشعب في اليوم التالي، الى مقاطعات ومشاغبات وتهجمات من النواب، كان واضحا ان الهدف منها هو اظهار العين الحمراء للحكومة، وتذكيرها بان في السويداء رجالا وتحت القبة نوابا، يملكون طبقا للائحة - التي اصبح اسمها الآن الدستور - ان ينتقلوا من مقاعد اليمين، الى مقاعد اليسار والعياذ بالله، ومن التصفيق الحار المتصل، الى الصفير والمقاطعة ، وان يتعبوها بالاستجوابات وطلبات الاحاطة وربما بطرح الثقة. اللافت للنظر هو ان الخلاف يدور داخل حزب سياسي واحد، هو حزب الاغلبية، الحاكم، بين حكومته التي يفترض انها تحوز ثقة النواب، ونوابه الذين يفترض ان الحكومة هي حكومتهم، وهو خلاف كان يمكن ان يكون صحيا، بل ومطلوبا فمن اوجه النقد التي توجه للنظام البرلماني، انه يقوم على اساس تقليد يقضي بتشكيل الحزب الذي يفوز في الانتخابات العامة باغلبية مقاعد المجلس النيابي، بتشكيل الحكومة، بحكم انه يمثل اغلبية الشعب ... وهو امر يبدو منطقيا لكنه ينتهي عمليا وواقعيا، بدمج سلطة التشريع والرقابة - التي هي البرلمان - في السلطة التنفيذية التي هي الحكومة ... ولان الطرفين ينتميان الى نفس الحزب فان المجلس النيابي لايستطيع ان يمارس - بحرية - حقه في الاعتراض على ماتقدمه الحكومة من تشريعات، بل انه يتنازل طائعا عن حقه في ممارسة سلطة الرقابة على هذه الحكومة سواء بتقديم استجوابات ضدها، او بطرح الثقة بها، اذ لو فعل لخرج عن الالتزام الحزبي... ولطرد من فردوس اليمين الى جحيم اليسار. وكان يمكن ان يكون الخلاف بين حكومة حزب الاغلبية ونوابها، مؤشرا طيبا على ان النواب غلبوا انتماءهم للشعب الذي يفترض انه انتخبهم، على التزامهم الحزبي، وقرروا ان يصوبوا المعادلة الدستورية المختلة، بأن يحتفظوا لانفسهم بدرجة من الاستقلال عن السلطة التنفيذية، حتى يستطيعوا ان يمارسوا دورهم التشريعي والرقابي، لو كان الخلاف يدور على مصالح عامة، لكن الخلاف في الواقع يدور حول امور تفصيلية، يختلط فيها الصراع على السلطة والنفوذ بالصراع على المكاسب الصغيرة، وينتمي الى ذات المشهد الافتتاحي الذي دخلت به الامة عصر التمثيل النيابي، من باب مفاخرة الدول الاوروباوية، وطمأنة الدائنين، واستكمال أبهة الحكم: حكومات تفضل ان يجلس النواب في مقاعد اليمين، يؤيدون ويصفقون... ونواب يرون ان ما يحصلون عليه ثمنا لتصفيقهم، اقل مما يستحقون فيهددون بالانتقال الى اليسار والعياذ بالله! والحكومة على حق حين تساند موقف المحافظين في رفض ما يطلبه النواب من استثناءات خاصة لانصارهم في دوائرهم الانتخابية، ليس فقط لان ذلك يخل بمبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، بتمييز انصار هؤلاء النواب على غيرهم من انصار منافسيهم، او لان بعض هذه الطلبات غير قانوني وربما تحيط به شبهة التربح واستغلال النفوذ، او لان استجابتها الى تلك الطلبات ــ وهي كثيرة ـــ ربما تؤدي الى ارباك خطط الاصلاح، أو لان ما يفعله النواب، هو تدخل صريح من السلطة التي يفترض انها سلطة التشريع والرقابة في اختصاصات السلطة التنفيذية، وخروج صريح عن المهمة التي اناطها الدستور بأعضاء المجالس النيابية، باعتبارهم يمثلون الامة كلها... ويدافعون عن مصالح عامة، وليسوا »مشهلاتية« يعملون لحساب انصارهم الذين انتخبوهم، ويمضون اوقاتهم في اللف على مكاتب الوزراء والمحافظين، لنقل طالب من مدرسة او للحصول لموظف على علاوة متأخرة، او لانهاء اجراءات الحصول على رخصة بفتح كافيتيريا... او بوقف هدم عقار... بدلا من مناقشة مشروعات القوانين التي تتقدم بها الحكومة، حتى لا تسلق ثم يحكم ـــ بعد ذلك ـــ بعدم دستوريتها،او ممارسة اشكال الرقابة على الحكومة، من طلب الاحاطة الى طلب سحب الثقة! والنواب على حق، حين يغضبون لهذه الطريقة الفظة التي تعاملهم بها الحكومة الحالية، لان الحكومات السابقة لم تكن ترد لهم طلبا او تتأخر عنهم في تأشيرة، ولأنهم لا يخوضون الانتخابات دائما على اساس انهم مشهلاتية يقضون حاجات الناس، ويتوسطون بينهم وبين الحكومة لانجاز مصالحهم، بينما يخوضها المنافسون من اعضاء الاحزاب المعارضة، باعتبارهم »نوابا« يطرحون برامج سياسية وشعارات من نوع الاصلاح الدستوري والسياسي، واطلاق حرية تشكيل الاحزاب واصدار الصحف، وتصفية الفساد الاداري، والغاء حالة الطوارئ، وتدعيم استقلالية القرار السياسي واصلاح نظم الضرائب لكي تحقق درجة اوفر من العدل الاجتماعي، وهي برامج ثبت للناس بالتجربة انها مجرد كلام ابن عم حديث، لا يتحقق ابدا، لان عدد الذين يفوزون في الانتخابات ممن يقولونه، يظل دائما اقلية لا تستطيع ان تقرر سياسة، او ان تفرض قرارا. اما وقد استقرت قواعد اللعبة البرلمانية، على ان النائب المثالي هو الذي يحرص على توثيق علاقته بالوزراء، ويمتنع عن نقد اعمال وزارتهم تحت القبة، ولا يكف عن توجيه المدح اليهم في حضورهم وغيابهم، ولا يتردد في الغياب عن جلسات المجلس لكي يضرب في مناكبها من وزارة الداخلية الى وزارة الزراعة، ومن وزارة التموين الى رئاسة الوزارة، وتحت ابطه ملف ضخم يتضمن الاف الطلبات، ولا يترك وزيرا يحضر الى مجلس الشعب من دون ان يفوز بتوقيعه على مائة طلب على الاقل، فمن الظلم الآن، ان تتخلى عنه الحكومة، وان تطالبه بأن يتحول الى نائب، يناقش القوانين، والاتفاقيات الدولية، ليس فقط لأن الله لا يكلف مشهلاتيا بأن يكون نائبا، ولكن كذلك لان الحكومة هي التي وضعت قواعد اللعبة، ولا يجوز لها ان تغيرها من طرف واحد، بعد ان تعود عليها الجمهور، الذي استقر في وجدانه، ان النائب اللهلوبة، هو الذي يجلس على اليمين، ليسهل على الوزير مهمة توقيع ما يحمله من طلبات، اما الجلوس على اليسار ـــ والعياذ بالله ـــ فلا جدوى من ورائه غير السقوط في الانتخابات. ومع ان تغيير قواعد اللعبة البرلمانية لكي تتطابق مع القواعد المعمول بها في البلاد الاوروباوية، امر مطلوب، بل وتأخر اكثر مما يجب، الا ان محاولة الزام النواب بعدم تجاوز سلطتهم الدستورية لا تكفي، فلابد وان تلتزم الحكومة هي الاخرى بذلك، بأن تجري انتخابات محايدة، ونزيهة، يمكن ان تفتح الباب امام تداول للسلطة، او على الاقل تنتهي بمجلس متوازن يمثل كل التيارات بنسب معقولة، تمنع تحول الاغلبية البرلمانية الى ديكتاتورية، فلا تشهر في وجه الحكومة سلاح التهديد بالانتقال من اليمين ـــ الى اليسارـــ والعياذ بالله!!

Email