ثقافتنا في عصر العولمة: بقلم - د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الأسئلة غير المحسومة في الشأن الثقافي العربي تعرضنا لذلك الاشتباك المستمر بين اتجاهي الأصالة والمعاصرة , وقد اطلعت بعد ذلك على بحث بعنوان (من معالم النموذج الثقافي الاسلامي) للمفكر المعروف الدكتور محمد عمارة, قدمه الى الندوة التي أقامتها جامعة زايد في شهر يونيو الماضي حول تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية, وتناول في آخره مسألة التجديد والاجتهاد, وأورد فيه كلاما قيما حول علاقة (الماضي) بـ (الحاضر) و(الجديد) بـ (القديم) أرى أهمية كبرى في اثباته هنا, خاصة وأننا بصدد الحديث عن ثقافتنا العربية في عصر العولمة, يورد الدكتور عمارة في شأن تلك العلاقة بين الحاضر والماضي نماذج ثقافية ثلاثة هي: 1- هناك غلو الأفراد الذي يمثله الجمود والتقليد ذلك الذي لايميز, في الاعتصام بالماضي بين الثوابت وبين المتغيرات, بين الإلهي وبين البشري, بين المناهج وبين التجارب والتطبيقات, فيضفي القداسة والثبات على الماضي جميعه, حتى ليكاد أهله أن يهاجروا إليه مديرين ظهورهم للحاضر والمستقبل والجديد. 2- وهناك غلو تفريط (الحداثة) بالمعنى الغربي وهي التي أثمرتها فلسفة التنوير الغربي اللادينية, والتي أقامت قطيعة معرفية مع الدين, عندما عزلت شرائعه عن ضبط شؤون العمران, وحررت السلوك البشري من أحكامه, وحالت بين السماء وبين تدبير الأرض والعالم, وكما يقول أحد دعاتها: فإن التنوير قد مثل القطيعة الاستولوجية الكبرى التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية, عصر الخلاصة اللاهوتية وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير. 3- وبين غلوي الإفراط والتفريط في علاقة الحاضر بالماضي والجديد بالقديم يأتي النموذج الثقافي الإسلامي, بوسطيته المتوازنة, فيعتمد (التجديد) الذي هو تطور من داخل النسق, يميز بين الثوابت والمتغيرات في الموروث, فيفتح الباب للتطور مع الاحتفاظ بالمعالم والسمات التي أعطت وتعطي النسق الحضاري صفته المميزة له عن صفات الإنسان الحضارية الأخرى, فيواكب كل المستجدات دون أن تتبدل هويته, أو يفقد (بصمته) التي تمثل مبادئه ومناهجه وحكمه ومقاصده, وإذ انتهينا بذكر النموذج الايجابي الأخير بحسبانه معبرا عن روح الثقافة الإسلامية, المنسجمة مع رسالتها الحضارية, فإننا لابد أن نعرج على بعض القضايا ذات الصلة بالشأن الثقافي في عصر تكاثر فيه الحديث عن ظاهرة العولمة, ومصطلح (العولمة) الذي لن نقف عنده كثيرا, سنفترض وفي براءة شديدة, المفهوم الشائع له وهو: (إكساب الشيء طابع العالمية, أو تطبيقه عالميا, متجاوزين بذلك الدلالات السلبية التي يعتقد بها الكثيرون, وهي الدلالات التي ربطت بين العولمة وملء الفراغ, وقضية التأثير على الاستقلال الوطني, والانتقاص من سيادة الدول. إذا تجاوزنا ذلك, واستبعدنا المؤامرة, وأثبتنا البراءة, فإنه مع ذلك تبقى تساؤلات ذات صلة بالعولمة, وتمثل في الوقت نفسه إلحاحا شديدا, منها لماذا كان الحديث عن العولمة مهما في المرحلة الراهنة؟ وما هي أنواع هذه العولمة ومجالاتها؟ وما هو الموقف أو المواقف, التي نتخذها تجاهها؟ وما هي التحديات التي تواجه الأمة في سبيل تحقيق التفاعل الحضاري؟ أسئلة جديرة بالطرح ونحن نناقش همومنا الثقافية في عصر لايعترف بالكيانات الصغيرة, ولا بالمجتمعات المنعزلة, والأهم من ذلك كله أنه لم يعد بامكان الأنظمة أو الدول البقاء, أو إبقاء شعوبها خارج المنظومة الدولية بعيدا عن المتغيرات الهائلة التي يشهدها العالم في ايقاع مذهل, وخطى متسارعة. مع طرح هذه التساؤلات, وتأمل الواقع لا يستطيع المرء إغفال, أو تجاوز, حقائق الواقع التي تؤكد على حل إشكالية أساسية تتمثل في إصلاح البيت من الداخل أولاً إذ بغير ذلك فإن خللا كبيرا سوف يستمر في تشكيل ذلك التحدي الذي يعيق ممارسة الدور اللائق بثقافة هذه الأمة وحضارتها. وقفة مع الذات قبل الحوار مع الآخر لا يتصور أن نحقق نتائج ذات قيمة وجبهتنا الداخلية لا تزال تعاني من آثار ذلك الشرخ العميق والانقسام المتزايد, مما يسهم وبلا شك في ازدياد الفجوة الحضارية واتساع الهوة ما بين العالم العربي والإسلامي وغيره من دول العالم نتيجة انغماس العرب والمسلمين في صراعات داخلية وخلافات مذهبية عقيمة, وإذا أضيف الى ما تقدم هذا الواقع الاجتماعي والاقتصادي المتخلف فإن قدرا كبيرا من الفزع لابد أن ينال كل مهتم بهذه المسألة. يشير الدكتور أحمد كمال أبو المجد إلى هذه الاشكالية مع كثرة الحديث عن الحوار بين الحضارات فيقول: قبل الحديث عن الحوار بين الحضارات يجب علينا أولا إدراك أن أمتنا العربية والإسلامية تواجه على امتداد حدودها أخطارا وتحديات لم يجتمع عليها مثلها من قبل على امتداد التاريخ الطويل منذ ظهورها كأمة وحضارة لها تميزها وتفردها بين الأمم والحضارات الأخرى ففي الوقت الذي تعيش فيه الشعوب والأمم لحظات تاريخية حاسمة وفاصلة بفضل سقوط الحواجز والقيود والحدود فيما بين الشعوب وبعضها البعض, وتتواصل ثقافاتها وحضاراتها وتتصل ببعضها, وتتسع الأسواق التجارية والاقتصادية في التبادل فيما بين الدول وترفع الحواجز والقيود, نجد في المقابل العكس تماما هو ما يحدث في الأمة العربية والاسلامية مما يفرض علينا القيام أولا بتصحيح جبهتنا الداخلية كأمة إسلامية قبل الشروع في حوار مع الآخرين, أو على الأقل يواكب ذلك الحوار المزمع إقامته, بمعنى إقامة حوار إسلامي - إسلامي قبل أي حوار آخر. بين الذات والآخر ما تقدم بشأن الحوار العربي - العربي, أو الإسلامي - الإسلامي لا يعني بطبيعة الحال إلغاء فكرة الحوار مع الغير, وإنما هو تصور لتحديد الأولويات في ضوء ظروف الواقع بتجلياته وهمومه في هذه المرحلة. ولاشك أن موضوع الحوار مع (الآخر) بحاجة الى إعادة ترتيب يشمل الموضوع من حيث تصوره وطرحه وشروطه التي يجب أن تتضمن تهيئة الأجواء والاستعداد, ومن ثم بناء القاعدة التي يقام عليها مثل ذلك الحوار. وذلك لكي يتم ضمان النتائج المرجوة منه, إذ بغير ذلك, فإنه لايتوقع أن تحقق الدعوات المتكررة لمثل هذا الحوار, أو حتى إقامته بالفعل, من خلال اللقاءات والمؤتمرات والندوات أبسط مظاهر تلك النتائج المتمثلة في التفاهم وإقرار مبدأ القبول بالفكر الآخر وثقافته. وفي تحديد العلاقة بين الذات والآخر أعود مرة أخرى إلى بحث الدكتور محمد عمارة الذي ذكرته في المقدمة, حيث اشتمل على كلام دقيق في هذا الشأن, من ذلك أن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت ان تتوزع البشرية الى تعددية في الشعوب والقبائل والأمم والألسنة والألوان والمناهج والشرائع, ومن ثم في القوميات والثقافات, وإذا كانت (الذات) إنما تعرف بالسمات والثوابت التي تميزها عن (الآخر) وليس بالمشترك الذي يجمعها بهذا (الآخر) . وبما ان واقع أمتنا العربية الاسلامية, الحديث المعاصر هو واقع الاحتكاك والتدافع الثقافي الحضاري مع النموذج الغربي تحديدا, ودون أي (آخر) سواه, فإن الحديث (عن الذات) و(الآخر) ثقافيا, لابد وأن يقود الى تحديد المعالم المميزة للنموذج الثقافي الإسلامي عن النموذج الغربي, دون أن يعني ذلك إنكار ميادين المشترك الإنساني العام في العديد من العلوم والمعارف التي لا تدخل دقائقها وقوانينها وثمرات معارفها وتجاربها في (المميز للذات الثقافية) وإنما تدخل في (الجامع) الذي تتفاعل فيه وتتشارك (الذوات الثقافية) للإنسانية جمعاء. فالإسلام هو المكون لذاتيتنا الثقافية, والمحدد لمعالم نموذجنا الثقافي, وتميزنا عن (الآخر) الغربي قائم فقط حيث يكون التميز والافتراق, الأمر الذي يجعل علاقة نموذجنا الثقافي - الذات الثقافية - بالآخر هي علاقة التميز والتفاعل التي هي وسط عدل متوازن بين غلوين, غلو الافراط, الذي يرى هذه العلاقة علاقة (قطيعة وتضاد) وغلو التفريط, الذي يراها علاقة (مماثلة ومحاكاة) . وإذا كانت التعددية هي سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل, فإن وجود (الآخر) التميز عن الذات والقبول به والتعايش معه هو القانون. ولهذه الحكمة, رفض النموذج الثقافي الاسلامي ويرفض منهج الصراع سبيلا لحل التناقضات بين الذات والآخر, لأن الصراع يعني أن يصرع طرف الطرف الآخر وينفرد بالميدان, فتزول التعددية بين الفرقاء المتمايزين. وبدلا من (الصراع) الذي لامكان معه للتعددية والتعايش بين (الذات) و(الآخر) يزكي النموذج الثقافي الإسلامي, لحل التناقضات بين الفرقاء المختلفين, منهاج (التدافع) الذي هو حراك يعدل المواقف والمواقع مع المحافظة على بقاء التمايز والتعددية دائما وأبداً. كما جعل النموذج الثقافي الإسلامي من وجود (الآخر) السبيل لتميز (الذات) ودعا الى تعددية التعايش بين الفرقاء المتمايزين رأيناه يرسم معايير الولاء و(البر) بين الذات المسلمة وبين الآخر. مدير جامعة زايد بالإنابة*

Email