عن فضائح واشنطن،الميديا أخطأت(1 3)بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهيرة ذائعة تلك النكتة التي تتناقلها أوساط السياسة والصحف وأروقة الكونجرس في واشنطن وتقول: ان الرئيس كلينتون هو ذلك الرجل الذي يمكن ان يقود سيارته المكشوفة ويدخل بها تحت خط التنظيف في محطة غسيل السيارات, ثم يخرج (بيل العجيب) بسيارته المكشوفة وهي نظيفة من كل جوانبها , ولكن بدلته نظيفة لم تمسها قطرة واحدة, فيما (تبتل ثياب سائق آخر! تشرح النكتة نفسها فتحيل الى واقع الأحداث وتقول: لقد حول الرئيس (بيل) السكن الرئاسي في البيت الأبيض الى الفندق رقم ,1600 يستضيف كبار الاثرياء المتبرعين للحزب الديمقراطي, وعندما اشتد نكير الانتقاد ضد الرئيس كلينتون, فوجىء القوم بأن المطلوب هو رأس نائبه آل جور وجريرته التي لم تكن سوى بضع مكالمات لا هنا ولا هناك أجراها النائب المسكين من هواتف البيت الأبيض! لقد دخل الرئيس كلينتون في حكاية مشبوبة مع فتاة متدربة في البيت الأبيض وأمضى معها وقتا من اللهو في مكتبه البيضاوي وعندما طالب خصومه الجمهوريون باستقالته حدثت الاستقالة فعلا. ولكنها كانت استقالة جينجريتش, زعيم الجمهوريين شخصيا! وعموما قدّم المحقق الخاص كينيث ستار تقريره الشهير واذاعوه الى كل فج ضحل أو عميق في اركان الدنيا بكل تفاصيله المثيرة والملتهبة في بعض المواضع..ارتفعت عقيرة الكثيرين المحافظين واليمين السياسي والحركات النسائية والكل يطالب بمحاكمة وعزل الرئيس كلينتون.. ويومها كانت كلمة الساعة هي (امبيتسن) بمعنى المحاكمة والمحاسبة والعزل من الولاية وبعد ان ادلى ستار بشهادته المطولة الى حد الملل القاتل في مجلس النواب عادت الاوساط الجماهيرية والسياسية تجدد الدعوة الى الامبيتسن .. الى المحاسبة والعزل والاستبعاد.. مع تغيير بسيط تعبر عنه الكاتبة الامريكية (مورين دوود) قائلة: ان المطلوب الان هو محاكمة وعزل.. الصحافة ومحاسبة الصحفيين.. لماذا نهتم بالقضية نبادر من جانبنا فنقول: اننا لا نطل على القضية من باب الاهتمام المبهور بالشأن الامريكي.. أو بالأدق من زاوية الخصومات السياسية الديمقراطية او الجمهورية في عاصمتهم واشنطن, ذلك شأن قد لا يعنينا في المقام الاول, او قد يعنينا من حيث انعكاساته الحالية او المتوقعة على السياسات الخارجية للولايات المتحدة, او على دورها كقوة عظمى في ادارة دفة الامور في عالمنا. وكم صددنا القلم, تورعا او تعففا, عن اغراء الخوض في موضوع بيل مونيكا من زواياه الملتهبة والمثيرة رغم انها مقروءة للاسف الشديد ومرغوبة للاسف الاشد, ورغم غزارة الادبيات او فلنقل اللاادبيات أو الكتابات المطروحة حول الموضوع. تلك امور لايجدر, في رأينا, ان تكون ضمن محاور اهتمامات قارئنا العربي وسائر المتابعين, قارئين وكاتبين في اقطار العالم الثالث.. ان لدينا من القضايا والاهتمامات والهموم ما يدفعنا الى ترتيب الاولويات فتتابع مثل هذه المواضيع من زواياها السياسية الاشمل ومن انعكاساتها, كما ألمحنا على صياغات الحكم في اكبر دول العالم وعلى سلوكيات الساسة ومن ثم على واقع ومستقبل الاتجاهات الحاكمة في امريكا, وهي مؤثرة بالضرورة على مجريات الامور في عالم اليوم ابتداء من سياسات البنك الدولي, ومرورا بسياسات امريكا ازاء قضايا لم تكن من قبل في الحسبان مثل قضايا البيئة الكونية وما يتفرع عنها من ثقب الاوزون والاحترار العالمي وتغيرات مناخ الكوكب وليس انتهاء بقضايا الحرب والسلام وقضايا المخدرات والارهاب وقضايا الجريمة العابرة للحدود وانشطة الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات. امريكا طرف فاعل دائما تلك قضايا تنطوي جميعا على حقيقة ان امريكا طرف فاعل في سياقها, ان اقدمت على علاجها فتلك ظاهرة مطلوب رصدها وتحليل منطلقاتها, وان احجمت عن التعامل معها فتلك مشكلة لا يستهان بها بحال من الاحوال. وسواء علينا رضينا ام أبينا بشأن هذا التدخل الامريكي في عالم اليوم, ومن ثم مع حلول القرن الحادي والعشرين, فإن علينا ان نتعامل مع تلك الحقبة بوصفها أمرا حالا واقعا, أو بوصفها حقيقة راسخة من حقائق الحياة. ثم نبادر من ناحية أخرى كي نقول ان ثمة جانبا بالذات يعنينا في كل هذه الامور التي ما برحت تضطرم بها أروقة ولجان الكونجرس وتموج بها مسالك الحياة العامة في أمريكا.. ذلك هو جانب الصحافة ودورها ونظرة جماهيرها اليها وحيثييات حكمهم عليها. وبديهي ان دور الصحافة بكل مؤسساتها وأجهزتها المكتوبة والمرئية والمسموعة له أهميته بالنسبة لكل بلد, ولكل نسق ثقافي واتصالي في عصرنا, فضلا عن مثل هذا الدور مطلوب رصده وترشيده بحكم أهميته الجوهرية فيما نصبو اليه في بلادنا من ارساء أسس المجتمع المدني ومؤسساته التي تطلع الى ان تقوم على أساس من روح المواطنة وحسن الانتماء اللذين يصدران بدورهما عن قيم المشاركة وتعددية الآراء وسلوكيات الديمقراطية التي تكرس ولا شك اقرار الحرية وحقوق الانسان. أزمة الصحافة في أمريكا ان الصحافة في امريكا في أزمة حقيقية, إذ يحسب عليها انها انساقت وراء حمى المنافسة والتسابق على الاعلانات وعلى ارضاء المعلنين وربما على دغدغة مشاعر الجماهير, بل وحواسها, وهي تتعامل مع فضيحة البيت الأبيض, ولكن يحسب للصحافة الامريكية من ناحية أخرى انها لم تركن كما قد نفعل في بلادنا الى منطق الدفاع أو التبرير أو التكييف أو التنصل الاحمق والمكشوف من المسؤولية التي نتحملها أمام تقاليد المهنة واخلاقياتها او مجرد تحويل او تجيير التبعات الى سائر مؤسسات الدولة او المجتمع تحت شعار السخيف والشهير (وانا مالي) او الشعار الاحمق الشهير ايضا (الحق على الطلياني) . حاسبو الصحافة ها هي مجلة نيويورك تطالعنا مع آخر اعدادها ( 23 نوفمبر 1998) بملف كامل عن دور الصحافة وبالتحديد عن اخطائها وسقطات العاملين بها تحت عنوان له دلالته الواضحة. حاسبو الصحافة وتحت شعار تلخص فيه المجلة اطلالتها على القضية او مقاربتها لهذا الموضوع: لقد اصدر الجمهور الامريكي حكمه على الجمهوريين وعلى هاجس لوينسكي الذي استبد بهم (على حساب قضايا الناس ومصالحهم) فاسقطهم في الانتخابات التشريعية الاخيرة. الاقواس من اضافة كاتب هذه السطور وها هو الجمهور يستدير الى الصحافة القومية فيصدر حكمه عليها وذلك من خلال استطلاع انفردت به مجلة (نيويورك) لاتجاهات الرأي العام. اخطأت المجلة الامريكية مع ذلك فعلينا ان نجابه المجلة الامريكية الشهيرة قائلين: انها ربما تكون قد قدمت لقارئها مادة مفيدة وهو ما سوف نعرض له فيمايلي من سطور, ولكنها لم تنفرد باستخدام الاستطلاع اسلوبا لسبر وقياس اتجاهات الرأي العام نحو الصحافة واساليب تغطيتها لملابسات الفضيحة اياها التي عصفت ولاتزال بمؤسسة الرئاسة الاولى في كبرى دول العالم منذ 16 يناير الماضي وحتى كتابة هذه السطور. الذي حدث ان لجأت الى اسلوب استطلاع الرأي ورصد الاتجاهات العامة مجلة اخرى قد تكون اقل انتشارا من (نيويورك مجازين) او ادنى شهرة) ولكننا نراها بحكم اهتمامنا المهني, اكثر رصانة والمحق تخصصا وهي مجلة (كولومبيا جورنالزم ريفيو) الصادرة عن جامعة كولومبيا التي تضم واحدا من اهم معاهد الفن والفكر الصحفي في العالم. بين اهل الشارع وابناء المهنة والحاصل ان مجلة (نيويورك) اجرت استطلاعا جماهيريا فيما اجرت مجلة (كولومبيا) استطلاعا مهنيا بين صفوف العاملين في ميدان الصحافة بالولايات المتحدة ومن ثم فنحن بازاء تقييم جماهيري يتمتع بالشمول ويتحسس نبض رجل الشارع ونحن ايضا امام تقييم اكثر دقة يأتي اقرب مايكون الى النقد الذاتي ويعكس الاتجاهات الصميمية في اروقة المهنة ومايساور اصحابها من افكار ومايحفزهم من دوافع ومايساورهم من هواجس وبين الاستطلاعين الجماهيري والمهني فنحن المستفيدون في كل حال, اذ بوسعنا من خلال قراءة ذكية واعية للاتجاهات ان نستخلص لانفسنا دروسا مستفادة تصلح نبراسا لاجيال الصحفيين العاملين في وطننا العربي وذلك امر مثمر, ولو جاء على حساب المحترم بيل جيفرسون كلينتون الذي جعلوا سمعته مضغة في الافواه وظلت صورة عناقه مع فتاة شابة ممتلئة القوام, واسعة الفم, امرا مقررا على القاصي والداني في دروب الحياة الامريكية سواء على شاشات التلفاز او في اي مناسبة تعرض لها صحف التابلويد المعروضة في محلات السوبر ماركت حتى ولو كان الحديث عن مراوغات صدام حسين او بنود الميزانية القومية الجديدة للولايات المتحدة.. ولله في خلقه شؤون. اطماع المحقق ستار الكاتب الامريكي مايكل توماسكي حرص على التقديم للاستطلاع الجماهيري الاول نكشف عن جانب ليس بالمعتم ولا هو بالمكشوف الواضح من جوانب المسألة حين اشار الى ان المحقق القاضي (كينيث ستار) تراوده احلام الترقية الى اسمى موقع في سلك قضاء الولايات المتحدة وهو ان يكون قاضيا بالمحكمة العليا (سوبريم كورت) وهو منصب سامٍ يدخل به صاحبه تاريخ البلاد, وتصبح أحكامه وأقضيته مرجعا يضاف إلى تراث التدوين القانوني في حوليات البلاد, فما بالك إذا ما امتد العمر بالسيد ستار, وهو في خمسيناته كما نعرف كي يتولى منصب رئيس المحكمة الموقرة أو قاضي القضاة الذي يخلع اسمه تاريخيا على المحكمة بأسرها, حيث يقال (محكمة مارشال أو محكمة بيرجز) ... إلخ. سيناريو أحلام 2000 والاشارة هنا تفضي إلى سيناريو يراود (كينيث ستار) إذا ما أمعن في تحقيقاته واستثمر, ونجح في استثمار الوحل الذي وقع (بيل) في حمأته ولطخ انجازات رئاسته, وقد كان بعضها ناجحا إلى حد الابهار في بعض الأحيان (أول فائض في ميزانية متوازنة بعد عقود العجز الموازني وتفاقم القرض القومي الداخلي, وأول عافية استردها الاقتصاد بعد أكثر من جيل كامل وخاصة في مجال العمال, وهاهي البورصة تعاود مؤخرا الانتعاش بعد, أو رغم الأزمة الآسيوية). فإذا نجح ستار في اسقاط كلينتون فسوف يكون ذلك لصالح الجمهوريين الذين يتلمظون شوقا أو طمعا إلى الامساك بمقاليد الرئاسة الأولى في البيت الأبيض من خلال الاطاحة بالديمقراطيين في انتخابات عام 2000 حيث يكون ستار قد بلغ سن النضج القضائي وهي الستون وما حولها, وحيث يمكن للرئيس الجمهوري المرتقب وأيضا للأغلبية الجمهورية في كونجرس الألفية الثالثة رد الجميل للقاضي الواعر الأريب الذي أطاح بواحد من أذكى وأنجح رؤساء الجمهورية, وان كان من أشدهم تساهلا من الناحية السلوكية والأخلاقية ولن يكون رد الجميل بأقل من ترشيح رئيس الدولة الجديد للقاضي ستار لعضوية المحكمة العليا وموافقة الكونجرس على الترشيح , بعد جلسات استماع يشيد فيها الجمهوريون بمناقب ستار وأياديه البيضاء على (الجمهورية) وعلى صون (الدستور) وتكريس تقاليد (الآباء المؤسسين) وليأكل الخصوم الديمقراطيون أكبادهم كما يقول الانجليز. المتضررون من الكارثة بيد أن الكاتب (مايكل توماسكي) يتصور عكس ذلك في مقدمته التي صدّر بها استطلاع الرأي في مجلة نيويورك, انها تبدأ بسؤال مطروح قال فيه الكاتب. ترى من الذي أضير بشدة من جراء حادث السيارة التي تحطمت سياسيا في واشنطن في هذا العام؟ (الاشارة المقارنة إلى فاجعة مصرع الأميرة ديانا). والاجابة بوضوح ان أكثر من لحقه الضرر هم الجمهوريون وزعيمهم نيوت جينجريتش وقد تكفل بهم الجمهور يوم 3 نوفمبر (في الانتخابات). أما الطرف المتضرر الثاني, كما يقول توماسكي فهو كينيث ستار شخصيا الذي لا نستطيع ان نقول باطمئنان ان حلمه الأثير في منصب قاضي المحكمة العليا ذهب ادراج الرياح, وأنه لن يرى المحكمة الموقرة.. اللهم إلا إذا قاد سيارته يوما وبالصدفة, قريبا من مبناها. والطرف الثالث هو بيل كلينتون الذي تعرض لأوضاع من الاذلال كان في غنى عنها, رغم ارتفاع أسهمه السياسية. أخيرا يقول توماسكي في مقدمته: مع هذا كله.. فنحن أهل الصحافة ما زلنا مغرمين بالرقص حول الحطام ولكننا الصحفيون (والمذيعون) لم نرتكب جرما, كل ما نفعله هو ان ننقل ما حدث إلى الناس, أليس كذلك؟ أخشى ان تكون الاجابة.. ان الأمر ليس كذلك, وان الميديا كانت مشاركة, ضالعة فيما ارتكب من أخطاء.

Email