مرحلة جديدة للاشتراكية الديمقراطية الاوروبية:بقلم-عادل محمد حسن

ت + ت - الحجم الطبيعي

أدت نتائج الانتخابات البرلمانية في المانيا الاتحادية في سبتمبر المنصرم إلى انهيار اخر قلاع اليمين الجديد في اوروبا الغربية الذي هيمن على غالبية دول اوروبا الغربية منذ تربع (مارجريت تاتشر) على كرسي رئاسة الوزراء البريطانية, وفي الوقت نفسه عاد يسار الوسط إلى السلطة في 13 من اصل 15 دولة اوروبية غربية, ويتريع يسار الوسط الآن على زمام السلطة في كبريات الدول الغربية وهي المانيا الاتحادية والمملكة المتحدة وفرنسا وايطاليا, ومن المثير هنا الاشارة إلى أن التغيير الوزاري الاخير في ايطاليا ادى إلى ان يشكل (ماسيمو دي عالمه) (من اصول عربية), زعيم حزب اليسار الديمقراطي والشيوعي سابقا, الحكومة الجديدة لأول مرة في تاريخ ايطاليا المعاصر. هذا التغيير يتماشى مع العقلية السياسية الاوروبية المستندة إلى الحكمة التي تقول (عندما تتغير الوقائع, علي أن اغير افكاري, وليس هناك أي بديل آخر, إن دوافع هذه التغيرات تعود إلى حدوث تحولات جذرية في المجتمعات الاوروبية الغربية بشكل خاص وفي العالم على نطاق اوسع, إن ابرز هذه المتغيرات هو تعاظم حجم الفئات الوسطية في هذه المجتمعات مما دفع الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية إلى اتباع سياسة اقتصادية اجتماعية تلبي طموحات فئات اجتماعية اوسع وعدم الالتزام فقط بتبني طموحات الفئات العمالية التي تناقص حجمها في المجتمعات الاوروبية الغربية, فـ (توني بلير) , على سبيل المثال, لم يعد يمت لذلك الزعيم العمالي الذي تتطابق سياسته مع مطالب الاتحادات العمالية, كما ان (جير هارد شرويدر) قد فاز في الانتخابات الاخيرة على منافسه (كول) نتيجة لاعتماده على تيار واسع من الفئات الوسطية اضافة إلى القوى التقليدية من العمال والموظفين, ولذا اضحت سياسة الاشتراكية الديمقراطية الاوروبية اقرب إلى سياسة الليبرالية الجديدة مع عدم تجاهلها لتأمين الحقوق الاجتماعية, وعلاوة على ذلك لعبت المرحلة الجديدة من تطور الرأسمالية العالمية دورا هاما في تغيير مسار الاشتراكية الديمقراطية الغربية, فالرأسمالية الحالية تجاوزت الاطر القومية واصبحت قوة عالمية تطبق سياستها بغض النظر عن نهج الدول القومية, فعلى سبيل المثال لو أراد قادة الدول الاوروبية اليوم ان يحددوا ساعات العمل على نطاق القارة الاوروبية فإن المناورة الاولى التي تقوم بها الرأسمالية العالمية تتحدد في انتقال الرأسمالية في أوروبا إلى نقاط اخرى من العالم, ففي ظل العولمة الجارية الان والمنافسة الحادة بين الدول لجذب الرساميل نمت ظاهرة تقلص امكانيات الدول القومية في تحديد سياسة خاصة بها, ولعب انهيار الاتحاد السوفييتي ايضا دورا في تغير مسار الاشتراكية الديمقراطية الاوروبية, فقد زال ذلك الضغط المعنوي الذي مارسه الاتحاد السوفييتي على الاشتراكيين الديمقراطيين من اجل تحقيق اصلاحات اقتصادية اجتماعية, واصبح بامكان اليمينيين في التيار الاشتراكي الديمقراطي الوقوف بوجه اليسار كما حدث في جميع المؤتمرات العامة التي عقدها الاشتراكيون الديمقراطيون منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. ومما يشدد من التوجه نحو هذا التغيير خاصة في الثمانينات هو انتهاء (العصر الذهبي) للسياسات الكلاسيكية القائمة سواء على الاقتصاد المختلط أو القائمة على الاقتصاد المبرمج من قبل الدولة من ناحية اخرى فشل تلك السياسات الـ (نيوليبرالية) التي دعت اليها تاتشر وريجان والقائمة على بناء اقتصاد مع الحد الادنى من تدخل الدولة او اية مؤسسات اخرى. ومن هنا فإن سيطرة الاشتراكيين الديمقراطيين على غالبية البرلمانات في اوروبا الغربية يعد مزيجا من نبذ نهج الليبرالية الجديدة الذي زاد من الهوة في الدخل بين الميسورين واللاميسورين في الدول الصناعية اضافة الى زيادة معدل البطالة, والدوغمائية القائمة على تأليه دور الدولة في الاقتصاد مما أدى الى ركود اقتصادي. ولا شك فإن هذا التحول هو تحول نحو اليسار ولكنه ضمن اطر لا تلغي اقتصاد السوق بل تسعى الى الابقاء على دوره في العملية الاقتصادية وضمن نزعة ما يسمى بــ (أنسنة) اقتصاد السوق والحد من انفلاته او تداعياته وسلبياته الاجتماعية. هذا التوجه هو ما اطلق عليه عالم الاجتماع البريطاني انتوني جودينس الطريق الثالث في كتابه الذي صدر اخيرا تحت عنوان (الطريق الثالث ــ تجديد الاشتراكية الديمقراطية) . هذا التوجه الجديد للاشتراكيين الديمقراطيين الاوروبيين يحتاج الى قدر كبير من التنسيق بين الدول الاوروبية يهدف الى تحفيز النمو ومعالجة المشاكل الاجتماعية وخاصة مشكلة البطالة. وسيعاد النظر باتفاقية ماستريخت في الاجتماع الذي سيعقد في فيينا بشكل يتناسب مع وعود الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية للناخبين الاوروبيين مما سيؤدي الى عقد معاهدة جديدة. وستذهب هذه الدول ابعد من ذلك ليتم توحيد الهياكل الارتكازية الاوروبية. وسيتم على نطاق أوروبا الغربية استخدام الارصدة العامة لتحفيز الطلب واحداث نمو اقتصادي وهو ما يمثل عودة الــ (الكينزية) الجديدة. كل هذه الاجراءات يمكن تطبيقها بفعل التقارب في رؤية الاحزاب الاشتراكية الاوروبية للتطورات الجارية في مجتمعاتها والتقارب ايضا في النهج الذي تعتمده لحل مشاكل هذه المجتمعات. كاتب عراقي مقيم في لندن*

Email