كشف حساب الأزمة العراقية: راحت السكرة وجاءت الفكرة: بقلم- يوسف الشريف

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعم راحت سكرة الرئيس كلينتون ونشوته طربا بالانتقام و(فش الغل)من دول عربية اسلامية, أجهضها قبول العراق والتزامه بأكثر مما قرره مجلس الأمن لاثبات براءة ذمته من حيازة أسلحة الدمار الشامل , والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه, لأن القيادة العراقية أدركت بجدية خطورة الضربة العسكرية الأمريكية البريطانية ونزعت فتيل المؤامرة قبيل موعد تنفيذها بساعة واحدة, فكانت نجاة الشعب العراقي من ويلاتها التدميرية المحققة التي لا تميز بين الاهداف العسكرية من المدنية ولا بين البشر والحجر! فما ان انزاحت غمة السكرة الأمريكية بغضها وغضيضها, حتى جاء الدور على الفكرة العربية لتقييم الأزمة وتحليل عناصرها وسبر أغوارها واستخلاص دروسها المستفادة في معالجة تداعياتها, خاصة وان امريكا لم تتراجع بعد عن عنادها والا لما أعلنت عن ارجاء الضربة العسكرية الى حين امتثال العراق لقرارات مجلس الأمن, مضافا اليها جملة الشروط الأمريكية الجديدة! السؤال الآن: ماذا كسب العراق.. وماذا خسر في الأزمة الأخيرة؟ ومن المؤسف حقا ان نطرح السؤال أحاديا بمعنى قصر التبعة والمسؤولية على العراق وحده, بينما صحيح الطرح القومي الجامع, يستوجب توجيه السؤال الى الأمة العربية برمتها أنظمة وشعوبا! فإن شئنا الصراحة رغم قسوتها في خضم الظرف السياسي الحرج الذي يجتازه العراق, فالشاهد ان الرئيس صدام حسين أعطى ظهره للأمة العربية عندما قرر خوض الحرب الضروس مع ايران, بدعوى الوقاية من زخم الثورة الاسلامية في ايران قبل ان تعبر مياه وأجواء الخليج وتنتشر كالنار في هشيم الأمة العربية! وربما كانت هناك ثمة قناعة آنذاك لدى الأنظمة العربية أو بعضها بتلك المبررات, والا لما ساهمت في تمويل المجهود الحربي العراقي, وذلك كان أيضا موقف قطاعات كبيرة من الشعب العربي, حين بادرت للتطوع في صفوف القوات العراقية أو اقتصرت على تبني وجهة النظر العراقية وباركتها سياسيا ومعنويا واعلاميا. لكن يظل الخطأ السياسي الفادح الذي ارتكبته القيادة العراقية يكمن في خوض الحرب مع ايران باعتبارها قضية مصيرية تندرج تحت المظلة القومية, بينما لو كانت لهذه الادعاءات والمبررات نصيبا من المصداقية, اذن لكان من المتوجب على القيادة العراقية عرض القضية أولا على الجامعة العربية أو القمة العربية حتى تكتسب مشروعيتها القومية, ولمهدت لهذه المشروعية على مستوى الشارع العربي, لكنها فرضت الأمر الواقع على الأمة العربية أنظمة وشعوبا, ثم طالبت الجميع بالغرم العاجل مقابل الغنم الآجل. وهو ذات الخطأ الذي سول للقيادة العراقية مبررات ودوافع اجتياح الكويت لأسباب حدودية أو مالية, وفي هذه المرة كان موقف الأمة العربية مختلفا, أولا: لكون الكويت دولة عربية وعضوة في الجامعة العربية, وثانيا: لأن استدعاء القوات الاجنبية لتحرير الكويت بزعامة أمريكا كان أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار. فاذا طرحنا سؤال الساعة بأثر رجعي: ماذا كسب العراق والأمة العربية؟.. وما هي الخسارة؟.. فالاجابة حاضرة ولا يختلف عليها اثنان, وان محصلة المكاسب كانت ولاتزال وقفا على أمريكا واسرائيل, عبر استنزاف طاقات وامكانات العراق وايران والكويت وتبديد مدخول ثرواتهم البترولية لأمد بعيد, وفرض الحصار والعقوبات الدولية على العراق, بعد اعترافه بالخطأ تجاه ايران وانسحابه من الاراضي الايرانية التي احتلها, والى حد ارتهان طائراته العسكرية والمدنية لدى عدوه اللدود ايران خشية تعرضها للتدمير عبر قوات التحالف الدولي, والحال كذلك على نفس منوال التراجع العراقي ازاء مبررات حربه ضد الكويت, ثم اعترافه الصريح بحدوده وسيادته, وكأنك يا أبوزيد ما غزيت! والأدهى والأمرّ تمثل في اثارة الفتنة بين العرب والفرس من مراقدها, وتعميدها بالدم والموتى والخراب, وتهيئة الفرصة والاجواء الملائمة لاستمرار الوجود العسكري في المنطقة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا بدعوى حماية دول الخليج من عدوان عراقي محتمل رغم نزع أنيابه وأسنانه, ومفاقمة الخلافات العربية بسبب غزو الكويت الى الانقسام والضعف وانعكاساته السلبية الخطيرة على مستوى ادارة العرب لآليات الصراع مع اسرائيل. كان من المتعين على العراق اذن تدارك أخطائه السابقة, عبر المراجعة ونقد الذات بكل أمانة وتجرد, حتى يستشرف طريقه القوي الآمن وسط حقول الغام العقوبات الدولية والاصرار الأمريكي البريطاني على تقسيم العراق واذلال شعبه حتى يثور ويتخلص من قيادته. صحيح ان القيادة العراقية أوفت بتعهداتها والتزاماتها كاملة وفقا لقرارات مجلس الأمن, ووافقت على مباشرة المفتشين الدوليين نشاطهم حتى في المواقع السيادية, والصحيح كذلك ان القيادة العراقية لم تدخر وسعا الا وبذلته في عرض المشكلة على المحافل الدولية والجامعة العربية ومناشدة الرأي العام العالمي والعربي الدعم والتضامن في محنتها, لكن القيادة العراقية أهملت للمرة الثالثة اشراك الأمة العربية أنظمة وأحزابا ومنظمات أهلية في ادارة الأزمة, ثم فاجأت الجميع برفضها القاطع للتعاون مع المفتشين الدوليين بعدما ثبتت عمالتهم لأمريكا وتجسسهم لحساب اسرائيل, وعلقت خياراتها برفع العقوبات المفروضة على العراق ولا بديل آخر. نحن بالطبع مع العراق في محنته قلبا وقالبا, وضد أمريكا وبريطانيا واسرائيل على طول الخط, وندين التخاذل العربي عن نجدة العراق, ولكن علينا في النهاية ان نجد الاجابة المقنعة عن السؤال المطروح: ماذا كسب العراق والأمة العربية من الأزمة الأخيرة؟ ولا شك ان المكاسب متواضعة ولا تتعدى تأجيل الضربة الامريكية البريطانية, وتحريك الركود الذي ران الاهتمام الدولي بالظلم الواقع على العراق ايذانا بالبحث عن نهاية له, بينما كشف الخسائر يستدعي وقفة صريحة وشجاعة لاستكشاف أسبابها وتداعياتها.. لماذا لا تشهد الأمة العربية من خليجها الى محيطها مظاهرات شعبية للتضامن مع شعب العراق واقتصر الأمر على البيانات والمقالات الاستنكارية فحسب؟ عدم التوازن في البيان الصادر عن دول اعلان دمشق عبر حث العراق على التعاون مع المفتشين الدوليين ومسؤوليته وحده عما يحدث له, دون الاشارة الى ضرورة رفع العقوبات المؤرخة عليه على مدى ثماني سنوات رغم وفائه بالتزاماته! تراجع فرنسا عن موقفها المبدئى السابق ازاء رفض استخدام القوة العسكرية ضد العراق, بينما اتسم موقف روسيا والصين بالتردد والميوعة! تجاوز الرئيس كلينتون كل حدود وضوابط الشرعية الدولية باعلانه التدخل في شؤون العراق وعزمه على تحويل مؤامرة مشتركة مع المعارضة العراقية لاسقاط صدام حسين واستبداله بقيادة جديدة يرضى عنها الشعب أو أمريكا بالاحرى, فضلا عن قائمة الشروط الامريكية التعسفية الجديدة المطلوب تنفيذها من جانب العراق. ومن هنا نحسب ان المطلوب من العراق كما هو مطلوب من الأمة العربية تدارك سلبيات الماضي وأخطائه, ووضع خطة وآلية قومية مشتركة لانقاذ الشعب العراقي... ولا حل آخر. كاتب وصحفي مصري*

Email