الحرب التي لم تقع:بقلم-د. شفيق ناظم الغبرا

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتهت الأزمة التي عصفت بمنطقة الخليج بين العراق والولايات المتحدة, وفي آخر اللحظات تراجعت الولايات المتحدة عن أهدافها وقدم العراق رسالة تؤكد السماح بعودة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل . كان الوضع يومي الخميس في الثاني والثالث عشر من الشهر يقترب من الانفجار الشامل, ولكن خلافا في الادارة الامريكية على توجيه ضربة للعراق أو عدم توجيه ضربة للعراق بعد الرسائل العراقية قد انتهى بقرار الرئيس الامريكي وبمساندة مستشار مجلس الأمن القومي بتوقيف أي عمل عسكري ضد العراق. لقد بدأت علامات التراجع يوم الجمعة بالتحديد وذلك بعد أن بدى أن الأزمة دخلت مرحلة اللاعودة. اذ تحدث الرئيس كلينتون قائلا ان الأمر بيد صدام وان التراجع ممكن في هذا الوقت (الآن) . في هذا كانت دبلوماسية ما قد بدأت والمفاوضات مع الرئيس العراقي تمت عبر وسائل الاعلام وفي العلن وكانت الاطراف الروسية والأمم المتحدة بقيادة كوفي عنان تسعى لتحقيق تراجع في الموقف الامريكي. وفي اللحظات الاخيرة توقف كل شيء وبقي السؤال الكبير من الذي استفاد ومن الذي خسر من هذه المواجهة الأخيرة؟ وفي الازمة الأخيرة اكدت الولايات المتحدة بما لا يقبل التردد في أحاديث جانبيه وفي جولات مسؤوليها وفي اتصالات مع قادة الدول العربية بانها وصلت الى طريق اللاعودة وانها في طريقها لحل نهائي للمشكلة العراقية, بل ان هدوء الولايات المتحدة طوال المدة التي اوقف فيها العراق التعاون مع مجلس الأمن فسر على أنه هدوء مدروس. لهذا عندما تحركت الولايات المتحدة للرد على تحدي العراق للقرارات الدولية اوضحت لحلفائها واوضحت للدول المحيطة بالعراق أن هذه هي آخر الأزمات وان امريكا نفد صبرها وانها لن تسمح لصدام بتحديها وانها تسعى باتجاه آفاق التغير في العراق. لهذا جاء التراجع المفاجىء ليثير أزمة مصداقية بين دول الخليج من جهة وبين الادارة الامريكية. أن معظم التوجهات قد تتجه الآن للقول بأن فرصة الحملة العسكرية الحاسمة قد تكون قد ضعفت كثيرا مع الأزمة الأخيرة. وفي هذا ساهم تردد الادارة الامريكية في مساعدة الرئيس العراقي على تحقيق تقدم في موقفه السياسي الذي يستند على البقاء في السلطة مهما كان الثمن. لقد جاء الحل الدبلوماسي ليثير الشكوك في مقدرة الرئيس كلينتون تحقيق تغير حقيقي في الوضع العراقي وجاء الحل الدبلوماسي ليؤكد طبيعة الحدود التي رسمها الرئيس كلينتون في الصراع حول العراق. في هذا يختلف الرئيس كلينتون عن الحزب الجمهوري, وهو ليس تواقا لاستخدام القوة. ان معارضة الرئيس كلينتون للحرب واستخدام العنف قديمة جدا وتعود الى موقفه القديم ضد حرب فيتنام, ولكن استمرار احتواء العراق بالطريقة الراهنة يساهم في اثارة الأزمات, وبالتالي سوف يجد الرئيس كلينتون نفسه اجلا ام عاجلا أمام مواجهة جديدة. ولم يكن من المتوقع ان يكون أساس التراجع الامريكي موافقة العراق على عودة التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل. فالمعروف امريكيا ان العراق أخفى برامجه, وانه منذ اغسطس الماضي اخفى مزيدا من الدلائل والاسلحة, ومن المعروف أن عودة اليونسكوم ثانية الى العراق لن يؤدي الى نتائج سريعة, بل ان فرق التفتيش, وفق سكوت ريتر رئيس فرق التفتيش المستقيل, بحاجة لستة اشهر اضافية للوصول الى النقطة التي كان التفتيش قد وصل اليها قبل قطع التعاون بين العراق والمفتشين في اغسطس الماضي. بل ان فرق التفتيش الجديدة سوف تكون على الاغلب اقل استعدادا للمغامرة بتفجير أزمة جديدة وقد تتفادى ما يساهم بأزمة جديدة. لقد اخفى صدام ما يريد اخفاءه وان فرق التفتيش لن تجد الكثير بعد الآن. وقد يقدم العراق بعض الوثائق وقد يقدم بعض المعلومات ولكنه لن يقدم كل شيء. بل ان حديث الرئيس كلينتون بأن اللجنة الدولية اليونسكوم قد دمرت من اسلحة الدمار الشامل اضعاف ما دمر في حرب الخليج تأكيد على توجه الرئيس بأن الأساس هو: متابعة اعمال اللجنة واعتبارها المدخل لامكانية رفع العقوبات عن العراق. لهذا ينظر لعودة فرق التفتيش كبداية باتجاه المراجعة الشاملة وكبداية باتجاه ما سيطرح بعد حين في قضية العقوبات. بل سوف يسعى العراق الآن للعب المسألة بهدوء كبير بانتظار عودة القوات الامريكية مع عطلة اعياد الميلاد, وسوف ينتظر للربع الأول من العام المقبل قبل اثارة أزمة جديدة حول العقوبات وحول الاسلحة وأمور تتعلق بوضع العراق وذلك في حالة عدم حصول تقدم باتجاه اطروحاته. والمعروف الآن للادارة الامريكية ان صدام حسين قد أخذ قرارا استراتيجيا بالحفاظ على أسلحة الدمار الشامل منذ البداية, وانه في كل مناوراته كان هدفه المحافظة على الاسلحة. وفي الخيار بين العقوبات وبين اسلحة الدمار الشامل فالرئيس العراقي يختار بلا تردد أسلحة الدمار الشامل وذلك انطلاقا من اعتباره ان هذه الاسلحة هي دفاعه الاهم وتعبيرا عن المؤسسة التي يرأسها وهي تعبير عن الدور الاقليمي الذي يأمل بلعبه بما في ذلك التوازن بينه وبين ايران. ولكن السؤال هل وصلت الادارة الامريكية الى النتيجة التي وصل إليها كوفي عنان حول صعوبة معرفة كل ما يتعلق بالبرامج العراقية وانه بالامكان وفق كوفي عنان رفع العقوبات رغم عدم التأكد من تدمير كل الاسلحة؟ يمكن التأكيد أن الادارة الامريكية ما زالت مصرة ومعها العديد من الدول على ضرورة التأكد من اغلاق ملف الاسلحة قبل رفع العقوبات. ان مسألة السلاح تبقى اذن قضية شائكة وقد تكون المدخل للازمة المقبلة. وبالرغم من سخونة الأزمة الأخيرة, وتصريحات الرئيس كلينتون باتجاه دعم المعارضة العراقية والبحث عن حكومة جديدة في العراق, إلا أن شكوكا تثار حول مدى جدية الادارة الامريكية على السير في هذا الاتجاه, فصدام حسين يسيطر على العراق سيطرة مطلقة, وهذه السيطرة مرتبطة أولا بالعقوبات التي تضمن ان كل ما يدخل ويخرج من العراق يتم أساسا عبر النظام. بل حتى الدواء والغذاء مقابل النفط يتم من خلال النظام العراقي ولا تقوم الأمم المتحدة بتوزيعه مباشرة كما كان مطروحا في قرار سابق. فالى حد كبير يحكم العراق بواسطة الأمم المتحدة من خلال الرئيس العراقي. بل ان حدود العراق الدولية مكفولة دوليا مما يعني أن العراق ليس بحاجة للجيش القوي للدفاع عن الحدود. بل ان الجيش هو مصدر الانقلابات في تفكير الرئيس العراقي, وقد استبدل كمصدر قوة وتوازن من خلال تقوية وتوسعة شبكة المخابرات. ان شبكة كبيرة من أجهزة الاستخبارات تقوم اليوم بحكم العراق وبالسيطرة الداخلية بطريقة أكثر فعالية وهولا من اي فترة سابقة في تاريخ العراق. ان دعم المعارضة العراقية التي تحدث عنها الرئيس الامريكي مفيده, ولكن لنتذكر أن هذا الامر جرب في السابق وان المخابرات المركزية الامريكية كانت في شمال العراق وان هذه العملية انتهت وسقطت عندما هاجمت القوات العراقية اربيل عام ,1996 ولنتذكر ان سيطرة المخابرات المطلقة لن تعطي مجالا للمعارضة. لهذا فبدون تغير حقيقي على الارض فسوف يكون أفق المعارضة العراقية محدودا. ومن مصاعب الوضع الراهن ان منطقة الخليج تشعر بضيق كبير من حالة الازمات الدائمة التي يثيرها العراق في مواجهة فرق التفتيش. هذه الأزمات تستنزف دول الخليج ماليا واقتصاديا وهي ازمات بدأ الرأي العام الكويتي كما والرأي العام الخليجي يزداد ضيقا. لهذا فان الموقف الخليجي الحقيقي هو اقرب للبحث عن صيغ تنهي كل الأزمات, فإن كانت الصيغة العسكرية ستؤمن حلا للعراق ولشعبه فالكثير من الدول العربية ما كانت لتمانع هذا الاحتمال انطلاقا من أن في هذا أمل الخلاص للشعب العراقي من حكم سبب الكثير من الدمار للعراق وللمنطقة المحيطة بالعراق. ولكن غياب الحل العسكري قد يؤدي بنفس الدول إلى البحث عن طرق اخرى دبلوماسية للتخلص من آفاق أزمات جديدة. ان الشعب العراقي لن يقوى على مواجهة النظام العراقي في ظل ظروف السيطرة غير الطبيعية القائمة الآن في العراق, ودول الخليج لن تستطيع أن تقف الى ما لا نهاية في مواجهة أزمات دائمة. أما الولايات المتحدة فدعمها للمعارضة وسياستها البعيدة الامد لصالح التغير في العراق تبقى سياسة بعيدة الأمد لا تؤكدها الشواهد التكتيكية والاوضاع الراهنة. في هذا كله حقق صدام حسين تقدما في لعبته الخطيرة: البقاء في السلطة مهما كان الثمن وعلى حساب كل شيء في العراق. في كل ما حصل كان الشعب العراقي هو الخاسر الاكبر ومعه جانب من المصداقية الامريكية ومعه الشعور بالاستقرار في منطقة الخليج. ومع هذا لم تكن ولن تكون هذه الأزمة خاتمة الأزمات, اذ ستتجمع الأوراق تمهيدا لجولة قادمة حول التعاون وحول الاسلحة. مدير المكتب الإعلامي الكويتي في واشنطن, استاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت*

Email