أزمة الصحافة والبرلمان بين المصالحة والتغيير: بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

أن يقف أعضاء في مجلس الشعب أو الشورى ليحاولوا الانقضاض على الصحافة وتحريض المسؤولين ضدها, فإن ذلك لا يدخل فقط في باب العيب أو الخطأ , ولكنه الكارثة التي تستوجب أن يفقد هؤلاء الأفاضل الثقة والاعتبار, والتي تحتم عليهم ــ لو أنصفوا لأنفسهم وللوطن ــ أن يتركوا مكانهم لمن يفهم مهمة النائب في المجلس التشريعي ويعرف المسؤوليات التي ينبغي عليه القيام بها. إن المهمة الأساسية للنائب لايمكن أن تكون الحصول على تأشيرات الوزراء لنقل موظف أو الحصول على شقة أو استصدار قرار استثنائي لمصلحة قريب أو نسيب, أو غير ذلك مما يتعارض مع مبدأ الفرص المتساوية للمواطنين جميعا, أو تلك القضايا التي ينبغي أن يكون مكانها المجالس المحلية الأقرب الى فهم هذه القضايا والتعامل معها, ولو فعلنا ذلك لبعثنا الحياة في هذه المجالس المحلية, وبعثنا الروح في الحياة السياسية في الريف والمدن وقضينا على المركزية الشديدة في القاهرة, وأعفينا الوزراء من التأشيرات (المضروبة) التي يشكو منها النواب, وأعفينا أنفسنا من التأشيرات السليمة التي يتقاضى الوزراء ثمنها من النواب .. تأييدا, وتضعيفا, وموافقة! وليست المهمة الأساسية للنائب في المجلس التشريعي أن يتاجر في تأشيرات الحج كما كان الحال حتى وقت قريب, ولا أن يتوسط لتسهيل صفقة, أو الحصول على موافقة, بعد أن أصبح لبعض الموافقات ثمن .. وثمن كبير! ولكن المهمة الأساسية للنائب أن يحمي الدستور ويراقب أعمال الحكومة, وأن يمنع أي عدوان على حقوق المواطن .. وأولها وأهمها حقه في التعبير, وأن يكون المدافع الأمين عن الحريات .. وأولها وأهمها حرية الرأي التي هي أساس العمل السياسي وحجر الأساس في بناء الديمقراطية والمحرك الأساسي لكل ابداع. ومن هنا ... فعندما يتحول النائب الى داعية لتكميم الأفواه وقصف الأقلام, فإنه يفقد المبرر الأساسي لوجوده تحت قبة البرلمان, إنني استطيع أن أغفر لنائب (النقوط) الذي ألقى بجنيهاته تحت أقدام الراقصة في أحد الملاهي الليلية وهو يفتش مع اللجنة الموقرة التي أوفدها المجلس لمعاينة الأحوال السياحية, فقد يكون عمله من باب تشجيع السياحة, والأموال التي تنفق على مثل هذه الرحلات الترفيهية من قوت الشعب وأمواله! وقد أستطيع أن أغفر للنائب الذي صفع موظفا فالخطأ البشري وارد, أو حتى للنائب الذي قلد أفلام (الكابوي) وأطلق الرصاص في قسم الشرطة, ولكني لا أستطيع أن أغفر لنائب يقف ضد الحريات, ويحرض على قصف الأقلام وتكميم الأفواه, لأنه لا يخالف الدستور فقط ــ ولايخون واجبه فحسب, ولكنه يدعو بذلك لخلق المناخ المناسب لكي يزدهر الفساد وينمو الإرهاب الذي انحسر خطره بعد أن كلفنا الكثير. انها كارثة ألا يستوعب هؤلاء حتى الآن درس القانون 93 الذي ورطوا فيه مصر كلها .. بصحفييها ومثقفيها وأحزابها ومؤسساتها, فكانت الأزمة التي لم تنته الا بعد ان تدخل الرئيس مبارك وتم إلغاء القانون الكارثة, وعادت الأمور إلى نصابها .. إلا قليلاً مما بقي لحفظ ماء وجه الذين أصدروا القانون الكارثة, وهذه المرة ايضا تغاضى الرئيس مبارك عن تحريض النواب ضد الصحافة, وأحالهم الى جهة الاختصاص وهي نقابة الصحفيين لكي يتحاوروا معها إذا كان لديهم ما يستدعي الحوار. ان هذا الموقف يدفعنا ان نتقدم للرئيس مطالبين بخطوة أخرى على الطريق الصعب والضروري .. طريق دعم الديمقراطية والحريات, ونذكر هنا ما قاله الرئيس في اجتماعه بنا بعد أزمة القانون 93 عن اعتزازه بالصحافة المصرية ودورها الوطني والقومي, وتأكيده أنه شخصيا لا يريد أي قيود تحد من حريتها أو تعطلها عن أداء دورها ورسالتها ما دامت ترعى مصالح الوطن التي هي فوق كل اعتبار. ورغم هذه التوجيهات الواضحة, فقد ترك ترزية القانون بعض الألغام التي ينبغي نزعها, ومن هنا فإننا نأمل ألا تنتهي الولاية الثالثة للرئيس إلا وقد تمت التعديلات القانونية التي تلغي إلى الأبد عقوبة الحبس والسجن في جرائم النشر, والتي تلغي ما أفرزته الاجتهادات الخاطئة لترزية القانون من قيود جعلت مجرد الخلاف في الرأي جريمة, وهي قيود لو طبقت بصرامة لتم حبس الصحفيين جميعا) ! نقول ذلك ونحن نعرف أن مصر مستهدفة وأن المحاولات ستستمر لحصار دورها و(معاقبتها) على مواقفها في الدفاع عن الحق العربي ورفض أي وصاية على ارادتها, ولكننا نؤمن ايضا ان قدرة مصر على مواجهة كل ذلك وعلى المضي في البناء والتنمية سوف تتضاعف في ظل الديمقراطية والحوار الوطني المسؤول والصحافة الحرة, فقد علمتنا التجارب ان الأيدي المرتعشة لا تستطيع أن تقاتل, وأن الحرية المسؤولة وحدها هي التي تفتح الباب أمام وحدة وطنية تستطيع أن تتحمل أعباء معارك التنمية والحفاظ على أمن الوطن ومواجهة تحديات المستقبل وسط مؤامرات لن تتوقف على مصر وأمنها ودورها ومستقبلها. مجلس جديد .. لمرحلة جديدة! مجلس الشعب هو المكلف دستوريا باختيار رئيس الجمهورية وعرض المرشح لاستفتاء شعبي, وقد أعلنت الهيئة البرلمانية للحزب الوطني قبل أيام مبايعتها للرئيس مبارك لولاية رابعة تبدأ في مثل هذه الأيام من العام المقبل. ولكن السؤال يبقى: هل هذا المجلس هو المؤهل فعلا لأداء هذه المهمة؟ أم أن الأفضل لمصر وللرئيس أن يقوم بهذه المهمة مجلس جديد يتمتع بالدستورية بلا شبهات, ويمثل الأمة تمثيلا حقيقيا وصادقا؟! إننا الآن أمام مجلس مطعون في شرعيته, وأمام أحكام بطلان انتخاب نصف أعضائه, وأمام ممارسات من بعض الأعضاء حطت من قدر المجلس, وأمام نواب لانعرف كيف يؤدون واجبهم وهم يقضون ثلاثة أرباع وقتهم في الدفاع عن أنفسهم من اتهامات تتراوح بين (لهف) مئات ملايين الجنيهات من البنوك الى اصدار شيكات دون رصيد, الى عدوان على القانون, الى مطاردة الوزراء للحصول على الاستثناءات؟! اننا نريد مجلسا جديدا يأتي بانتخابات لايستخدم فيها سلاح البلطجة أو سلاح الأموال المشبوهة, كما حدث في الانتخابات السابقة, مجلس تتاح في انتخاباته الفرصة للقوى السياسية الحقيقية الفاعلة أن تنافس بشرف, مجلس يكون تعبيرا حقيقيا عن نبض المجتمع ويكون قادرا على أن يكون شريكا محترما في عملية العبور الى قرن جديد يملؤنا الأمل بأن يكون لنا مكان فيه رغم كل التحديات التي تواجهنا. هذا هو المجلس الذي ينبغي أن يختار الرئيس للولاية المقبلة.

Email