لم يخطىء هيكل .. ولم يخن السادت!بقلم-صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

على صفحات (الأهرام) وعلى امتداد اكثر من اسبوع, وتحت عنوان (السادات خائنا)طرح الاستاذ (صلاح منتصر) سؤالا يقول: هل فعلا كان (انور السادات) يقصد ابلاغ (هنري كيسنجر)وزير الخارجية الامريكي اثناء حرب اكتوبر 1973, خطة قواته المسلحة في عدم التوغل في عمق سيناء والاكتفاء فقط بعبور قناة السويس وخط بارليف, وانه كشف له هذه الخطة بعد أقل من 24 ساعة من بدء القتال يوم 6 أكتوبر؟ وفي تبريره لأسباب طرح هذا السؤال قال الاستاذ منتصر, ان مديرا عاما سابقا بجهاز المخابرات العامة المصرية, هو الاستاذ (سمير غانم) , قد طرح السؤال في مقال له نشرته جريدة (الوفد) وان سفيرا سابقا ـ هو الاستاذ (وفاء حجازي) ــ قد طالب ــ أثناء مناقشات الندوة الاستراتيجية التي عقدت بمناسبة اليوبيل الفضي لحرب اكتوبر ــ بتبديد الشكوك والاتهامات التي ثارت حول هذه الرسالة, وانه سمع مسؤولا عسكريا عربيا يتهم السادات بانه بهذه الرسالة, التي كشف فيها عن (خطط القتال المصرية) قد اتاح لاسرائيل فرصة التركيز على الجبهة السورية, وهي مطمئنة الى نوايا مصر في سيناء, وان السؤال قد تردد على ألسنة آخرين, في الندوات التي بثتها بعض القنوات التلفزيونية الفضائىة, بمناسبة الاحتفال باليوبيل الفضي لنصر اكتوبر. ويحمل (صلاح منتصر) الاستاذ (محمد حسنين هيكل) المسؤولية عن شيوع هذا الاعتقاد, اذ كان أول من اذاع نص رسالة السادات الى (كيسنجر) في كتابه (اكتوبر 73: السلاح والسياسة) وقد صدر عام 1993 ــ وأول من توقف أمام العبارة التي يقول فيها السادات لكيسنجر (اننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة ليعلق عليها قائلا: (ان تلك كانت أول مرة, ــ ربما في التاريخ كله ــ يقول فيها طرف محارب لعدوه, نواياه كامله, ويعطيه ــ قبل أقل من 24 ساعة على بدء العمليات ــ من التأكيدات ما يمنحه حرية في الحركة السياسية والعسكرية, على النحو الذي يراه ملائما له, وعلى كل الجبهات ــ وان اسرائىل ــ التي لابد وأن الرسالة قد وصلت اليها ــ قد استندت الى هذا التأكيد في ترتيب موقفها وتنظيم اولوياتها. والخلاف يدور حول سطر من رسالة واحدة, ضمن 112 رسالة تبادلها (السادات) و(كيسنجر) بين فبراير ونوفمبر 1973, عبر قناة للاتصالات السرية بينهما, كانت تعمل على الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين, وبلغ نشاطها ذروته خلال الاسابيع التي بدأت بيوم 7 أكتوبر 1973, الذي ارسلت فيه هذه الرسالة, وانتهت بتوقيع اتفاق فض الاشتباك الاول في نوفمبر 1973, وكان الطرف المصري في هذه الاتصالات هو السيد (محمد حافظ اسماعيل) الذي كان يشغل آنذاك منصب مستشار الامن القومي برئاسة الجمهورية. وعلى العكس من تفسير (هيكل) لهذه العبارة, الذي يرى (صلاح منتصر) انه تفسير يلصق الخيانة بأنور السادات, فإن (حافظ اسماعيل) يقول ان المقصود بها هو ان مصر لا تنوي ان تعمق الاشتباكات بحيث تطول المدنيين الاسرائيليين, وانها لا تنوي. ان توسع جبهة المواجهة, باقحام المصالح الغربية في المنطقة في الصراع, وان هدف (السادات) منها كان الحرص على عدم اقحام المدنيين في الحرب وتأمين المناطق السكنية والمراكز الاقتصادية المصرية ضد غارات العمق وضمان تأييد العالم الغربي والرأي العام لقضيتنا, وهو تفسير متحمس له الاستاذ (صلاح منتصر) , ويرى انه (يشهد للسادات بقمة الوطنية, لحرصه على حماية شعبه من امتداد الحرب الى عمق مصر, اذا قام هو بتعميقها الى داخل اسرائىل) ! وحتى لا تختلط الوقائع, فإن هيكل, لم يكن أول من أذاع هذه العبارة من رسالة السادات الى (كسينجر) , إذ كان الذي فعل ذلك هو (هنري كيسنجر) ذات نفسه في الجزء الثاني من مذكراته الذي صور في بداية عام 1982 بعنوان (سنوات القلاقل) , وماكاد (هيكل) يقرأ المذكرات, حتى لفتت نظره الاهمية الخاصة التي رتبها (كيسنجر) على مافهمه منها, والخطط التي بناها عليها, فسعى للحصول على النص الكامل للرسالة, عن طريق صحفي امريكي, استند الى قانون امريكي, الغي بعد ذلك, هو قانون حرية المعلومات, كان يبيح لكل باحث, لاغراض البحث العلمي ان يحصل على نص أي وثيقة من ملفات الجهات المعنية بواشنطن, وعن هذه الطريقة حصل (هيكل) على كل الرسائل التي تبادلها السادات مع (كيسنجر) عبر القناة الخلفية التي كانت تحت اشراف (حافظ اسماعيل) ! وعلى عكس ما يعتقد (صلاح منتصر) فإن (هيكل) لم يذع النص الكامل للرسالة وتفسيره للعبارة محل الخلاف, لاول مرة في كتابه (اكتوبر 73: السلاح والسياسة) الذي صدر عام 1993, ولكنه اذاع النص والتفسير قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات, وبالتحديد في حديث صحفي اجرته معه, ونشرته جريدة (الاهالي) القاهرية) في 18 مايو 1983, واستنتاجه بان (هيكل) لم يقرأ تفسير (حافظ اسماعيل) لهذه العبارة, على الرغم من انه ورد في مذكراته التي صدرت عام 1987 وقبل ست سنوات من صدور كتاب (هيكل) هو استنتاج غير صحيح, اذ الحقيقة ان ماذكره (حافظ اسماعيل) في مذكراته, وكان ردا مباشرا على تفسير (هيكل) للعبارة, التي يتجدد الخلاف حول معناها هذه الأيام. وماحدث هو ان السيد (حافظ اسماعيل) كان قد كتب مقالا بعنوان (هل كانت حرب اكتوبر 1973.. حربا ملفقه؟) نشر في مجلة ) المصور) القاهرية (13 مايو 1983) ردّ فيه على الذين ينتقدون الادارة السياسية لحرب اكتوبر, ويقولون بأن انجازها السياسي كان اقل بكثير من انجازها العسكري, فقال ان الحرب قد بدأت بهدف سياسي واضح, حدده (السادات) في رسالة الى (كيسنجر) ارسلت اليه بعد أقل من 24 ساعة على بدء العمليات, وهو المطالبة بانسحاب اسرائىل من جميع الاراضي المحتلة عام 1967, مقابل السماح لها بالمرور في مضايق تيران, والدخول معها في مفاوضات تحت اشراف دولي لانهاء حالة الحرب, وان فشل محاولة تطوير الهجوم, ونجاح الهجوم الاسرائىلي المضاد في عبور قناة السويس, هو الذي اوقف المناقشة حول تسوية سياسية شاملة, لتقتصر الجهود على تحقيق وقف اطلاق النار, على الخطوط التي بلغتها قوات الطرفين, لينتهي من ذلك الى ان حرب اكتوبر اعطت ثمارا سياسية لكل من شارك فيها عسكريا من العرب, وان مصر حصلت على ما يتناسب مع ما حققته في الحرب, بينما لم يحصل الآخرون, الفلسطينيون والاردنيون, على شيء, لانهم لم يحاربوا, وان هذا هو لب المشكلة, وليس الادارة السياسية للحرب! وفي رده على ذلك, قال هيكل في الحديث الذي اجريته معه ونشر في الاسبوع نفسه ــ ان (حافظ اسماعيل) قد اخفى اهم فقرة في رسالة (السادات) لكيسنجر, وهي الفقرة التي اخطره فيها بان مصر (ليس في نيتها تعميق مدى المواجهة او توسيع نطاق الاشتباكات, برهن على ذلك بنشر النص الكامل للرسالة, ووصف هذه العبارة بانها كارثة, لانها ارسلت في ذروة الانتصارات العربية, وفي الوقت الذي كان فيه وزير الدفاع الاسرائىلي (موشى ديان) يوصي مجلس الوزراء باصدار قرار بالانسحاب الاسرائىلي الشامل من كل سيناء ولان (كيسنجر) ما كاد يطمئن الى ان مصر ليس في نيتها توسيع نطاق الاشتباكات أو تعميق مدى المواجهة, حتى بدأ ــ كما قال ــ بالنص في مذكراته يشاغل المصريين, ويسيل لعابهم بالحديث عن امكانية انسحاب اسرائىلي, من دون ان يلزم نفسه بشيء, لكي يضيع الوقت, ويعطي لاسرائىل الفرصة لتغيير الوضع العسكري الذي فوجئت به بالتركيز على الجبهة السورية اولا, قبل ان يستديروا الى الجهة المصرية! وفي الاسبوع التالي ــ وفي عدد (المصور) الذي صدر في 27 مايو 1983 ــ رد (حافظ اسماعيل) على ماقاله (هيكل) فهون من اهمية الفقرة التي توقف امامها ووصف تفسيره لها بانه شطط في الخيال, ووصف ادعاء (كيسنجر) في مذكراته بانه بنى خطته استنادا الى هذه العبارة, بانه كذب, واذاع تفسيره لها كما نقله عنه ــ وتحمس له ــ الاستاذ منتصر, مؤكدا ان السادات اراد ان يطمئن اسرائىل بانه لن يعمق الاشتباكات باستخدام مالديه من صواريخ في ضرب المراكز السكانية في اسرائىل, ولن يوسع المواجهة بدعوة قوات سوفييتية, أو بالتعرض للمصالح الغربية في منطقة الشرق الاوسط) . وللمرة الثانية, عاد (هيكل) ليرد على (حافظ اسماعيل) في حديث آخر أجريته معه ونشرته (الاهالي) في أول يونيو 1983, فدلل على صحة تفسيره للعبارة المشؤومه, قائلا ان الفقرة الاولى من الرسالة نفسها, تتحدث عن الاشتباكات التي كانت تجري في الجبهة, وان استخدام نفس المصطلح في العبارة المشؤومة لا يمكن ان ينصرف إلاّ الى نفس الشيء, وان المهم ليس ماكان يقصده السادات وماكان يضمره معه معنى لها, ولكن المهم ان (كيسنجر) قد فهمها على النحو الذي جعله يرتب لتحجيم نصر اكتوبر, خاصة وان شواهد الحال قد دلت على صحة ما فهمه, اذ توقفت الاعمال العسكرية بالفعل بمجرد اتمام العبور, على الرغم من الحاح كثيرين من القادة العسكريين على ضرورة انتهاز فرصة الارتباك الاسرائىلي ومواصلة التقدم نحو الممرات. وحتى لو كان المقصود من العبارة هو ماذكره (حافظ اسماعيل) فلماذا يتطوع (السادات) بعد 20 ساعة من الحرب بطمأنة الامريكيين والاسرائيليين, بانه لن يضرب المدنيين ولن يطلب قوات سوفييتية ولن يضر بالمصالح الغربية, من دون ان يطالب بالمعاملة بالمثل, او يهدد باستخدام هذه الاساليب اذا استخدمها الطرف الآخر. والخلاف حول تفسير هذه العبارة, ليس مجرد خلاف لغوي حول دلالة الفاظ, ولكنه جزء من حوار تاريخي وسياسي يتعلق بالماضي, كما يرتبط بالحاضر والمستقبل, ويدور حوله تقييم الادارة السياسية في حرب اكتوبر 1973 وهو ملف يزدحم باوراق وتفاصيل كثيرة, تتعلق بما جرى قبل الحرب وبعدها على صعيد السياسة, وليست هذه العبارة سوى مجرد مشهد من مشاهده لكن الحوار حول هذا الموضوع مايكاد يفتح, حتى يحاط بسحابات دخان, تشكك في نية الذين يدعون اليه فهم حاقدون على (السادات) يتهمونه في وطنيته, أو مغرضون يكرهون مصر ويسعون للانتقاص من قدرها وتشويه انتصاراتها, او متآمرون يسعون للتقليل من حجم انتصار اكتوبر الذي يستمد منه النظام القائم شرعيته. مع أن (هيكل) لم يخطىء في تفسيره, الذي دعمه بوثائق هامه في كتاب يعد من أهم الكتب التي صدرت عن حرب اكتوبر, ولم يتهم (السادات) بالخيانه, واذا كان آخرون قد استندوا الى تفسيره ليتهموا الرجل بذلك, فتلك هي مسؤوليتهم. اما هو فقد قال بوضوح, ان التعهد بعدم (توسيع نطاق الاشتباكات او تعميق مدى المواجهة) في ذروة الانتصارات العربية, كان خطأ على مستوى مأساوي) , وهذا أقصى ــ واقسى ــ ما قاله, ومع ان الذين ينتقدون الادارة السياسية للحرب ــ ومنهم هيكل ــ ينطلقون من تقدير يرى ان الاداء العسكري خلالها كان اعظم بكثير من ثمارها السياسية, وهو ما يكذب اتهامهم بانهم يسعون للتقليل من حجم انتصار اكتوبر, اذ الواقع ان الذين يفعلون ذلك هم الذين يقولون بأن ثمار الحرب السياسية تتناسب مع ثمارها العسكرية. ثم ان هؤلاء الناقدين وفي مقدمتهم (هيكل) يقولون بان النظام القائم الآن يستمد شرعيته من اكتوبر الحرب وليس من اكتوبر السياسة, وفي ذلك انصاف للحرب, وانصاف للنظام, وليس فيه ظلم للسادات, الذي لا يستطيع أحد , مهما كان اختلافه معه, ان ينكر عليه شجاعة اتخاذ قرار حرب اكتوبر! فمتى يأتي الوقت الذي نستطيع ان نتحاور فيه, حول أي موضوع, من دون قنابل دخان, تفسد المناقشة, وتحول دون تواصلها. هذا هو السؤال.

Email