فنجان قهوة في صحة زوربا اليوناني!بقلم- عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس لدي مسطرة أقيس بها عشقي لهذا الوطن, فهذا العشق يستعصي على القياس لكنني أعرف ان هذا الوطن يصبح في السفر كالعدسة المكبرة التي أرصد بها الاشياء والاشخاص , ففي السفر تظل عيناي على الوطن بحثا عن فكرة او خبر او نسمة طرية تبدد وحشة الغربة. السفر هذه المرة الى جزيرة صغيرة يسكنها الدفء, لا تشهد ضد الحب, تشبه مروحة تنشر الالوان, يتكلم أهلها بحيوية وصوت مرتفع وهم يحركون ايديهم, ولا تزال مشاعرهم برية, لم تصبح بعد مشاعر الكترونية, تتحرك بالبطارية, وتموت بقطع الكهرباء. السفر هذه المرة الى قبرص, التي تقع على بعد 50 دقيقة بالطائرة من القاهرة, الجزيرة الصغيرة التي يقول اهلها ان قلبها كبير, فراش افروديت آلهة الجمال التي جذبت باقي الآلهة اليها, منجم النحاس القديم أو (الكبرم) باللغة اللاتينية, ومن الكبرم جاءت كلمة قبرص او كبرس. لقد اثبتت قبرص ان الدول الصغيرة, الفقيرة, المعدمة يمكن ان تجد لها مكانا بارزا على سطح الحياة, فهذه الجزيرة التي كانت قرية للصيادين تحولت الى معجزة سياحية بكل المقاييس, وعدد سكانها الذي لا يزيد على 800 الف نسمة استطاع ان يجذب ما يقرب من ثلاثة ملايين سائح, بما يزيد على أربعة مليارات دولار سنويا. لقد كانت اهم صناعة في قبرص هي صناعة (الجرسونات) , وأهم السلع التي تصدرها هي القبارصة انفسهم, لكنها الآن دولة حديثة على وشك الدخول في الاتحاد الاوروبي, وان ظل هناك مليون قبرصي يعيشون خارج بلادهم في المهجر, وأكبر مدينة فيها قبارصة ليست نيقوسيا العاصمة, او ليماسول الميناء, او لارنكا حيث المطار الدولي, وانما لندن, ففي العاصمة البريطانية يعيش 400 الف قبرصي, اي حوالي نصف سكان قبرص كلها. وقد استقلت قبرص عن بريطانيا في عام 1960, ولكن لا تزال القوات البريطانية ضاغطة على صدرها في قاعدتين عسكريتين بالقرب من ليماسول ولارنكا ترمزان للأسد البريطاني العجوز الذي سقطت اسنانه وهو يشرب شاي الساعة الخامسة. وكالعادة, ترك البريطانيون في قبرص ــ كما فعلوا في كل مستعمراتهم السابقة ــ قنبلة زمنية, كانت هذه القنبلة هي الاقلية التركية التي كانت تعيش في الجزيرة وتمثل 30% من السكان الذين تمتد غالبيتهم الى جذور يونانية, فعند الاستقلال حرص البريطانيون على صياغة الفتنة في وثائق رسمية سياسية, ففي الدستور رئيس الجمهورية يجب ان يكون من القبارصة اليونانيين, على ان يكون نائبه من القبارصة الاتراك, ومنح الدستور حق الفيتو لنائب الرئيس ليعترض على قرارات الرئيس, وفي البرلمان كان للاقلية التركية القوة القانونية لتعطيل رغبة الاغلبية, مما خلق صراعا مكتوما سرعان ما انفجر. في عام 1963 حاول الاسقف ماريوس ــ أول رئيس للبلاد ــ تعديل 13 مادة في الدستور, لكن رغم الاغلبية اليونانية التي معه فإن الاقلية التركية احرجته وانسحبت من البرلمان والحكومة, وبدأت التحرشات بين الجانبين وسرعان ما انقلبت التحرشات الى اشتباكات, وفي ساعات كانت الجزيرة مسرحا للحرب الاهلية, وهو ما جعل الامم المتحدة تتداخل, وأرسلت قوتها لتقف على خط الانفصال بين الجانبين وهو الخط الذي يقسم الجزيرة الآن ويقسم عاصمتها ــ نيقوسيا منذ الغزو التركي المسلح في يوليو 1974 الذي انتهى بضم 37% من قبرص الى تركيا وطرد 200 الف يوناني اصبحوا لاجئين, وعلى هذه المساحة الضيقة شمال الجزيرة اعلنت جمهورية (شمال قبرص) التركية التي لم تجد من يعترف بها سوى تركيا. وقد زرت في نيقوسيا خط التقسيم الذي يشطر العاصمة الى قسمين ويمتد هذا الخط الى حوالي 140 كيلومترا مخترقا مناطق كثيرة في قبرص, وعلى هذا الخط الذي يسمونه (الخط الاصفر) توجد نقاط تفتيش الامم المتحدة ومراكز مراقبة وأسلاك شائكة, وفي نيقوسيا يوجد حائط مثل حائط برلين الذي سقط بسقوط الشيوعية, وخلف الحائط خراب وانقاض, فقد حطم الأتراك كل شيء وتركوه أطلالا, لكن من الناحية القبرصية حول الناس خط التقسيم الى مزار سياحي, وسياسي, فهم يخدمون قضيتهم ويستمرون في الحياة, فعلى الاسوار صور لبشاعة الغزو واشعار تتحدث عن كلاب الصيد التي تتسلى بلحم البشر وترفض ان تمنح الحرية تأشيرة سفر, تتحدث عن انقاذ العصافير المحبوسة من الجمر المشتعل والاعمدة المتساقطة ونثارات الزجاج المكسور. وفي هذا الخط الذي يهرب فيه الوطن من الوطن, ويموت فيه الوطن برصاص الوطن نشر القبارصة المقاهي والمطاعم والاسواق واحتفظوا بالدموع والاحزان في حقائب وضعوها تحت الفراش, الخراب لم يمنع القبارصة من النجاح, بل حفزهم وحرضهم عليه, لقد قلبوه من حائط مبكى الى حائط سياحي, وحافظوا على ما يسمونه (الاصغاء الحضاري) , وهو اصغاء للتاريخ القديم الذي يحفز الشعوب العريقة على تجاوز مشاكلها, فليس من طبائع هذه الشعوب العريقة ان تغرق في مشاكلها وتندب, وما احوجنا لهذا الاصغاء الذي ضاع في زحام الفوضى والصخب وتلوث البيئة, والهوية. وقد تعقدت المشكلة القبرصية بدخول اسرائيل على الخط بعد تحالفها الاستراتيجي والعسكري مع تركيا, ان قبرص التي كانت جنة الجواسيس تدفع الثمن الآن بالشيكل, بالتجسس عليها من عملاء الموساد لصالح الاتراك, ويوم هبطت مطار لارنكا كانت اجهزة الامن القبرصية قد قبضت على اثنين من جواسيس اسرائيل هما (ايجال دماري) و(عودي أركوف) بالقرب من قاعدة بحرية في مدينة صغيرة اسمها (زيجابا) قريبة من ليماسول, وكان بحوزتهما اجهزة تجسس شديدة الحساسية. وتؤمن قبرص بأنهما فعلا ذلك لخدمة تركيا, وتؤمن بأن رد فعل رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو كان يتسم بالغطرسة والجليطة, فقد قال: ان الاسرائيليين المقبوض عليهما في نيقوسيا سيعودان الى اسرائيل حتى لو كانا عملاء للموساد, او ضباط مخابرات في الموساد. ولم تكن هذه هي المرة الاولى التي يقع فيها عملاء للموساد في الشباك القبرصية, ففي عام 1997 قبض على اثنين من جواسيس اسرائيل يحملان جوازات سفر كندية, لكن رد الفعل الاسرائيلي لم يكن حادا, ومن ثم جرت محاكمة الجاسوسين في هدوء, وبعد سجنهما اقل من سنة غادرا محطة ترانزيت للمهاجرين اليهود خاصة يهود البلاد العربية, وكانت ايضا اشهر ملاعب الموساد القريبة من العالم العربي. ويمتد الدعم الاسرائيلي لتركيا في قبرص من التجسس الى التخريب, فقد كشفت نيقوسيا عن وجود 13 ضابطا تركيا يتدربون في صحراء النقب على ضرب منصات الصواريخ الروسية التي ستشتريها من موسكو, وهددت أنقرة قبل وصولها الى قبرص التي تقول انها صواريخ دفاعية لا تمثل تهديدا لأحد خاصة وان قبرص تؤمن بأن تركيا لن تسكت, ولن تكتفي بما احتلته منها لأنها تريد احتلال الجزيرة كلها, انها تؤمن بأن تركيا تجلس فوق اصابعها, او تريد ان تسرق اصابعها, او على الاقل تكسرها, فمئات الاسلحة تلتمع تحت الشمس. ان قبرص ليست جزيرة خالية من المشاكل, بل على العكس مشاكلها اكبر من حجمها, وحرائقها اكبر من مساحة المياه التي تحاصرها من كل جانب, ان النار تزغرد تحت الرماد, والاحتلال شطر القلوب قبل البيوت, والدولة الصغيرة تبدو كسفينة مطعونة في خاصرتها, لكن, رغم ذلك تخلص القبارصة من ضغط المشاكل على افكارهم, وفتحوا ثقبا الى المستقبل في جدار الكلس والنحاس والكراهية التي حاول الآخرون فرضها عليهم, ثم وسعوا الثقب حتى اصبح مستوى المعيشة والرفاهية اعلى منه في بريطانيا, وأصبح سعر الجنيه القبرصي (حوالي سبعة جنيهات مصرية) اعلى من سعر الجنيه الاسترليني, ويقترب من الدولارين. بالاصغاء الحضاري والايمان بأنفسهم فتح القبارصة ثقبا في لحم التخلف, واخرجوا ما في صدورهم من عناد وتواضع بصبر وحكمة ودأب على العمل وصاروا اكثر اقترابا من العصر, ومن الله. وأكثر المشاكل السياسية الملتهبة والمزمنة ان قبرص دولة بلا موارد, فالناس فيها عاشوا على صيد الاسماك, وقطع الاخشاب, وزراعة العنب, وليس فيها من الآثار ما يثير الانتباه, ان الآثار التي وجدت في حي القباري بالاسكندرية عند بناء كوبري هناك ــ وتنازلنا عنها بسهولة مقابل بناء من الاسمنت ــ اكثر من كل الآثار المبعثرة على طول الجزيرة وعرضها. في ليماسول زرت قلعة حجرية متواضعة تبدو (عشة) الى جانب قلعة قيتباي, وزرت مسرحا رومانيا صغيرا لا يزيد على حجم حمام سباحة, وزرت بعض الحجارة المكسورة التي قالوا انها بقايا معبد أبولو, وفي بافوس التي يصفونها بملعب الآلهة يقرضون الشعر في افروديت التي ولدت على شاطىء البحر هناك ولا دليل على ذلك سوى صخرة كبيرة الحجم مثل مئات الصخور المنتشرة على شاطىء البحر المتوسط, ان كل آثار قبرص هي مثل نقطة او قطرة في محيط الآثار في مصر, ورغم ذلك هم قادرون على تسويقها ربما اكثر من قدرتنا على تسويق ما نملك من ثروات تاريخية تسجل بوضوح قصة الحضارة بصورها المختلفة. وحتى شواطئهم التي يصفونها بالسحر ليس فيها ما يغري سوى الحرية, فهي شواطىء اغلبها طينية, ليست رملية, ومعظمها صخرية, وان كانت لا تغضب من العري, بل وتشجع عليه, وعدد لا بأس من الكروت السياحية فيه نساء بنصف ملابس, او بدون,, والمثير للاحترام ان الشواطىء مفتوحة للناس جميعا, فليس هناك شواطىء خاصة او مغلقة, حتى الشواطىء التي تدخل في حرم الفنادق ليست ممنوعة, ومن حق النزلاء التمتع بها, فالبحر والماء والشمس والهواء ملك للجميع, والدستور والقانون يحميان ذلك, وهو ما جعلني استرعي ما فعلناه في شواطئنا الساحرة بالفعل لا بالقول والتي اغلقناها على كل من يشتري ارضا بجانبها ويسورها ويزرعها غابات من الحديد والاسمنت. اذن, ما سر المعجزة القبرصية؟ اننا لا نتحدث عن سويسرا او اليابان او الولايات المتحدة الامريكية, اننا نتحدث عن جزيرة صغيرة, فقيرة, طاردة لأهلها, نتحدث عن دولة بلا موارد, وتاريخها يندر تجسيده بآثار واضحة, وعاصمتها مقسمة, وثلث اراضيها محتلة, وهناك من يتربص بها ويسعى للسيطرة عليها, فكيف حققت المعجزة؟ ان البشر هم سر المعجزة, فقد استوعبوا واقعهم المر وتجاوزوه بطبائعهم ومشاعرهم الدافئة, انهم يتسمون بسمرة وحيوية الناس في البحر المتوسط, ويسهل عليهم استيعاب الغرباء دون خداعهم, وهم كرماء متواضعون يعشقون الحياة, ويستجيبون لموسيقى النفس, ويرقصون عليها على طريقة اشهر أبناء عمومتهم, زوربا اليوناني, وهو يؤمنون بأن الاشياء الصغيرة تكبر بالجهد والرعاية, فالجبل الشامخ اصله ذرة تراب, والشجرة المثمرة اصلها بذرة صغيرة, والعكس صحيح, خذ من التل يختل, والبالون المنفوخ يمكن القضاء عليه بدبوس ابرة. وهم يعبدون النظافة, التي نقول نحن انها من الايمان دون ان ننفذ ذلك, وهم يحترمون قوانين وقواعد المرور, ويبدو ان ذلك اصبح يلفت نظرنا ويثير اعجابنا بسبب الجنون والانفلات والفوضى في شوارعنا, وليس في شوارعهم عساكر مرور ولا عساكر حراسة, فالايمان بالوطن هو وزير الداخلية الذي لا يتغير. انني كثيرا ما تساءلت عن سر العدوانية وعدم النظافة التي سادت معظم الاحياء والشوارع الراقية في اكبر المدن العصرية, ناهيك عن الفهلوة والصخب والتلوث وعدم الاتقان والغش الذي يسيطر على التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية, انها اشياء تبدو لنا بسيطة, لكنها سلوكيات تطفش اكثر السياح صبرا وحبا لبلادنا, لأننا نحن انفسنا لم نعد نحتملها, والسياحة في النهاية هي علاقات حميمية بين البشر قبل ان تكون آثار ومتاحف, ونايت كلوب. ولقد لفت نظري في قبرص ان الحكومة هناك لا تتدخل في اي شيء يقدر الناس على القيام به, وربطت الحكومة علاوات موظفيها السنوية بعائدات السياحة حتى تشعرهم بمصلحة مباشرة لهم في السياحة فيساعدون السياح ولا يعيقون معاملاتهم, لأنه لو حدث ذلك فإن عائدات السياحة تنخفض والعلاوة السنوية ايضا. وتتدخل البنوك القبرصية والبنوك الاجنبية المختلفة في تمويل السياحة بالتقسيط للاشخاص الذين لا يقدرون على تحمل النفقات دفعة واحدة وهؤلاء يمثلون نسبة لا يستهان بها من سياح قبرص, خاصة الكبار في السن الذين يأتون في موسم السياحة الميت الذي يمتد من اكتوبر الى يناير, وهم غالبية السياح الذين وجدتهم في كل مكان زرته في قبرص. لقد كنا نتعلم من الدول الكبرى, لكن, يبدو ان علينا الآن ان نتعلم من الدول الصغرى ايضا.

Email