هل أسأنا استخدام التكنولوجيا؟! بقلم - د. زكي الجابر

ت + ت - الحجم الطبيعي

لكل عصر نموذجه الشمولي, والأمر كذلك منذ ان خط الانسان على الطين ونقش على الحجر وبنى المسلات والأهرامات وشيد الجنائن المعلقة , والأمر كذلك حين نسج الاغريق أساطيرهم, وحين طاف جلجامش البحار باحثا عن عشبة الخلود, وحين أوقد المجوس نيرانهم, وصولا الى ترسيخ المطبعة وانتشار الكتاب وشيوع افكار العدالة والحرية والمساواة, وأظنك تنتهي معي الى الاقرار بأن النموذج الشمولي لهذا العصر هو التكنولوجيا بمختلف مفرداتها من الصاروخ عابر القارات الى قرص الكمبيوتر, ولعل أوسع مفردات هذا النموذج القائم هو تكنولوجيا التواصل سلكية ولاسلكية. ولقد جاءت التكنولوجيا الى أقطارنا مسرعة فامتلأت شوارعنا بالسيارات صغيرها وكبيرها, وأسسنا شركات النقل الجوي, واقمنا مؤسسات للإذاعة والتلفزة, وضمت مكاتبنا اجهزة الكمبيوتر, وامتلكنا قمرا صناعيا وتناقلنا الأخبار عبر شبكات الفضاء, ونقل التليفون محمولا وغير محمول أصواتنا من نقطة الى أخرى. ولعلك مثلي راودك التساؤل هل أحسنا استخدام التكنولوجيا, ولنقل مثلا التليفون المحمول؟ لك ان تصدق أو لا تصدق, ولكن دعني أنقل حادثة اقترنت بالتليفون المحمول, كنت أصغي الى محاضر يلوك لسانه ثقافة وعلما حينا وتحذلقا وتعالما حينا آخر, وفجأة رن تليفونه المحمول في جيبه, واوقف المحاضرة ليتحدث مع الطرف الآخر حتى إذا انتهت المكالمة اعتذر بكلمات وجيزة وعاد الى ديدنه في لوك اللسان! وصدق أولا تصدق حادثة أخرى حين رأيت اثنين صديقين في مطعم من المطاعم يتناولا لذيذ المآكل ويتحدثان في أمور دنياهم, ثم ينقطع تواصل الحديث لينهمك كل منهما في حديث على انفراد وعبر التليفون المحمول مع الطرف الآخر! ولدي أكثر من مثال يقترب من هاتين الحادثتين في مواقف أخرى تمتد من الشارع والسيارة الى مخدع الزوجية والحمام! قد يكون موطن غرابة اننا بحثنا وكتبنا في مجالات التأثيرات الاجتماعية لوسائل الاتصال التي تتعامل مع جمهور (متسع مثل الاذاعة والتلفزة والسينما) ولم تنل وسائل الاتصال من نقطة إلى نقطة كالتليفون نصيبها من البحث والدراسة والتساؤل, لم يدرس الباحثون الاجتماعيون اثر التليفون على عمليات التواصل اليومي في الحواضر, وبالرغم مما يقال عن التأثير الايجابي للتليفون حينما يصل الريف, فليس بالملحوظ توفر اهتمام جاد بالتعرف على هذا التأثير الذي يمكن ان يتعرض له ساكنو القرى والأرياف والاطراف الذين يبلغون ثمانين بالمائة من مجموع سكان الاقطار النامية. ان الاعتقاد الراسخ بأن تأثيرات التليفون اجتماعيا ليست بالمنفصلة عن تأثيرات تكنولوجيا التواصل التي استجدت في اطار النموذج الشمولي المتفاعل مع عصرنا المالي, والتي قد تمتد الى عصر قابل, وقد يكون أبرز هذه التأثيرات: غزو الخصوصية, وهيمنة نفوذ (الأخ الأكبر) التي يخضع لها المعمل والمدرسة والبيت حتى يمكن القول بعدم وجود أي حد يمكن ان تقف عنده, ومن هذه التأثيرات هو هذه الكثرة من الاخبار والمعلومات التي تصك السمع وتأخذ بالبصر كل يوم من غزو للفضاء وانتشار الامراض المتناقلة جنسيا وقضايا التمييز العنصري وحقوق الانسان واتساع ثقب الاوزون! وأهم من ذلك هو ما يتولد من اضطرابات هنا وهناك متمثلة في قوة الاستخبار والرغبة في الاستحواذ العسكري وسلب الآخر حق الحياة! وهكذا, أجدني مسوقا الى القول مع القائلين بأن الانجازات التكنولوجية ليست بحد ذاتها ذات فائدة, وانما هي ذات فائدة أو ذات ضرر في اطار القرائن الاجتماعية, من يستطيع الانكار على السيارة فائدتها في النقل وتقريب المسافات والترويح على النفس, ولكن من يستطيع ما تجلبه من مخاطر حين تملأ الصدور بالدخان, وحين تضيق بها الطرقات الضيقة, وحين تركبها سرعة الجنون, وحين لا يحسن السائق الأخذ بزمامها, وحين يسير الراجل حيث لا ينبغي له أن يسير, وحين تفتقد قطع غيارها, وحين تتصاعد أسعارها مع كل طراز جديد من طرزها المتجددة! ومثل ذلك يحق لي القول مع التليفون حين يغدو وسيلة ازعاج في أيدي الفضوليين, وحين يتحول الى اداة لقضاء الوقت بالهذر ونقل الاشاعات والنميمة ومالا طائل وراءه ان التكنولوجيا ليست عملية توالد ذاتي منفصلة عن بيئتها الاجتماعية بل هي تتكيف وتوظف كما يشاء لها البشر ان تتكيف وتوظف! وأجدني كذلك مسوقا للقول مع القائلين بأن التكنولوجيا معرفة, انها معرفة تنتج البضاعة كما تضع أدوات وأجهزة انتاج هذه البضاعة وتوزيعها, وهو قول مرتبط بشرط أساسي قوامه التفريق بين معرفة كيفية عمل الآلة وبين فهم عملها والمنطق القائم وراء عملها, ولعلك أدركت المغزى الكامن وراء هذا الشرط, لقد اشترينا من التكنولوجيا ما اشترينا, وربما احطنا بجوانب من تشغيلها, ولكننا وقفنا عاجزين عن صنعها وعن فهم خفايا عملها, امتلكنا القمر الصناعي ولم نصنعه بل ما زلنا عاجزين عن صناعة مرسلات الاذاعة واجهزة التلفزة والتهاتف, ولم نزل نتخبط في الفصل بين فائدة التكنولوجيا وضررها, ان الانغلاق الذري قد يسر علاج الامراض العصية, ولكنه في الوقت ذاته عبد الطرق لتحقيق أشد أصناف الدمار والهلاك! ولم نزل نتخبط في الفصل ما بين المعرفة التكنولوجية والمعرفة الانسانية فإذا كان للأولى ميكانيكيتها وشكلانيتها وسيطرتها على الطبيعة, فإن للثانية طابعها الانساني وشموليتها ومحاولاتها المستمرة لفهم الطبيعة, ولن يساورني ريب في ان مصير الانسانة مرتبط بمدى تعلق العلماء والباحثين بالمعرفة الانسانية والأخذ بها, وبخلاف ذلك فإن الإنسانية ستبقى معرضة لأشد أنواع الخطر نتيجة توالي الاختبارات الذرية وتصنيع الاسلحة الجرثومية وعمليات الاستنساخ! وبهذا التعلق بالمعرفة الانسانية لن تكون التكنولوجيا عدوا للإنسان بل صديقا يعمل على تطوير آفاق حياته وازدهارها جماليا واقتصاديا. إن مشكلات بلداننا النامية معقدة, وقد يكون صعبا اخضاعها لاطار نظري محدد, ولكن مشكلات التكنولوجيا, كما يبدو لي ولعلك كذلك, تتصدر هذه المشكلات, اننا بتوظيف التكنولوجيا وبهذا الشكل السريع قد نسيء إلى مدننا وذوقنا وحياتنا الاجتماعية, فهل فكرنا بالطريق واتقان آداب المرور قبل تكاثر السيارات في شوارعنا وأزقتنا؟ وهل فكرنا بتعطيل التليفون المحمول ومنع استخدامه في الملاعب والأماكن العامة وأثناء قيادة السيارة؟ وهل شعرنا بضرب من الخجل عند استخدام التليفون المحمول في المرحاض والمرافق الخاصة؟! إذا لم نفكر ولم نشعر بكل ذلك, فكأننا ضعنا مع ضياع نصيحة شيخنا الشرقي حين قال: قد ضلَّ من قالَ لنا عانِدوا وثابروا في طَلَبِ المستحيلْ فليس للركض لنا عائدٌ فالخطبُ اذ يركضُ نبض العليلْ! خبير اعلامي عربي*

Email