داء الديمقراطية! بقلم - صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذات يوم من عام 1978 - وفي ذروة الحرب الأهلية العربية التي أعقبت كامب ديفيد - مثلت أمام المدعي الاشتراكي, ضمن سبعة من الكتاب والصحفيين, وجهت إليهم تهمة نشر مقالات لي بالصحف العربية , تسيء إلى سمعة مصر وتهين شعبها, وكان التحقيق كله مسخرة من أعلى طراز, لأن الذين قدموا أدلة الاتهام لم يقرأوها, ولأن المحقق الذي قدموا إليه المقالات لم يجد فيها اساءة لسمعة مصر, أو إهانة لشعبها, بل وجد فيها العكس. ولما لم يجد تهمة يحقق فيها, حاول أن يستدرجني إلى حوار حول معتقداتي الفكرية, متذرعا بأن التحقيق سياسي وليس جنائياً, ولكني رفضت وقلت له, انه لا مانع لدي من مناقشته في أي موضوع سياسي, لو أنه أغلق ملف التحقيق, وقبل دعوتي لشرب فنجان من الشاي في المقهى المواجه لمكتبه, أما وهو يستجوبني, أي يتهمني, فما بيني وبينه, هو الوقائع والأدلة, ونصوص الدستور والقانون, لأن الحوار السياسي مكانه الصحف والمنتديات, وليس الاتهامات والتحقيقات. وبعد سؤال أو سؤالين, أغلق المحقق - وكان من رجال القانون المحترمين - الملف وضغط على كفي وهو يودعني, بطريقة أدركت معها أنني فعلت ما حالت قيود الوظيفة بينه وبين أن يفعله! وكنت أظن وبعض الظن إثم, ان تهمة الاساءة الى بلد ما, واهانة شعبها, هي من تقاليع الرئيس الراحل أنور السادات, إلى ان اكتشفت أنها داء قومي, قديم وجديد, ولابرء منه, الا إذا أصيبت أمتنا العربية الواحدة, ذات الرسالة الخالدة, بداء الديمقراطية التي يبدو اننا محصنون ضدها, بحكم النشأة والتربية والنظم السياسية الاستبدادية, التي كانت ولا تزال تجثم على أنفاسنا .. والتي نشأتنا على مقالعها, فأصبح كل منا فاشستيا صغيرا, يستبد برأيه عندما يمارس أي سلطة تضعها الأقدار بين يديه, ولا يطيق أن يختلف معه أحد, أو يرى رأياً غير ما يراه, فكل من يختلف معه, اما أنه حاقد, أو حاسد أو موتور, أو هو خائن وعميل, يعمل لحساب (السي- اي - ايه) أو (الموساد) أو (الكي جي بي) حسب الأحوال والظروف, وطبقا لطبيعة النظام الاقليمي والعالمي السائد. وأسوأ مضاعفات هذه الحالة العربية المرضية, هي صيحة الاساءة لسمعة الوطن, واهانة الشعب, التي أصبحت ذريعة يتعلل بها فريق من صغار الفاشست, لمصادرة كل رأي يختلف مع آرائهم, وكل اجتهاد يعجزون عن الرد عليه أو تفنيده أو كسب الأنصار له, وهي واحدة من عدة تنويعات على لحن واحد, يدمج أصحابه الوطن والشعب والدين في ذواتهم التي يسعون لاضفاء القداسة عليها, فما يرونه هو الصواب المطلق, وما يسلكونه هو القدوة التي ينبغي أن يحتذي بها الجميع, والاختلاف معهم, ليس حقا مشروعا لكل إنسان, ولكنه خيانة للوطن - وإهانة للشعب, والحاد بالله! ومنذ حوالي عشر سنوات, تعرض المخرج (يوسف شاهين) لحملة صحفية ضارية بسبب عرض فيلمه القصير (القاهرة منورة بأهلها) في مهرجان كان وقيل أيامها أن الفيلم - الذي اشترك في تمويله التلفزيون الفرنسي - يسيء إلى مصر ويهين شعبها, لأنه يركز على المناطق العشوائية في مدينة القاهرة, ويقدم صورة مشوهة وغير حقيقية للواقع, وأنه جزء من مؤامرة دولية هدفها تطفيش السياح من مصر ليذهبوا الى اسرائيل, وطالب كثيرون من غلاة الديمقراطيين الذين لايكفون ليل نهار عن المطالبة باطلاق الحريات العامة, والتغني بحقوق الانسان, بالتحقيق مع الجهات الرسمية التي سمحت بتصويره وتصديره, وبتشديد الرقابة على كل ما يجري تصويره في مصر. وبعد سنوات اكتشف الجميع, ان الفيلم كان نبوءة مبكرة, وجرس إنذار لم يسمعه أحد في حينه, واتضح لهم ان المناطق العشوائية في القاهرة وفي غيرها, هي - كما نبه الفيلم - مشاتل للتطرف والارهاب, ورصدت الدولة مليارات من الجنيهات لازالة بعضها, واعادة تخطيط الآخر, وبدأت صور ما يجري فيها تنشر في الصحف, وتبث في التلفزيون من دون ان يتهم أحد بالاساءة لسمعة مصر, أو إهانة شعبها, ومن دون أن يسحب أحد الاتهام الذي وجهه ليوسف شاهين! وقبل سنوات قليلة, بثت احدى وكالات الأنباء العربية, خبرا يقول بأن الشرطة المصرية قد قبضت على مذيعة تلفزيونية شهيرة وهي تقوم بتهريب شحنة مخدرات إلى سيناء, ونشرت احدى الصحف العربية الخبر في صدر صفحاتها, وفي اليوم التالي كذبت الوكالة الخبر الذي بثته, واعتذرت عنه, وتبعتها الصحيفة التي نشرته في التكذيب والاعتذار, وهو خطأ بشري وارد, يحدث في أحسن العائلات واحسن الصحف واحسن الوكالات, كأن يمكن أن يثير مناقشة مهنية, حول ضرورة التثبت من صحة الاخبار قبل نشرها, أو يسفر عن دعوة للتحقيق حول ظروف بث الخبر لعل وراءه صاحب مصلحة في الاساءة للمذيعة التلفزيونية اللامعة, لكنه أثار ضجة أخرى ؟ تتحدث عن مؤامرة عربية لضرب الاعلام المصري في الصميم, وعن خطة منظمة لتشويه رموز الوطن, وتدعو مصر للتصدي لهؤلاء الذين يقفون وراء هذه المؤامرة! ما يغيظني ان بعض الذين يثيرون مثل تلك الحملات, يعترضون على قوانين النشر المعمول بها في معظم الدول العربية, لانها تفترض في الصحف وأجهزة الاعلام سوء النية, وتضع على عاتقها عبء اثبات العكس والا تعرضت لعقوبة الحبس أو الغرامة أو كليهما, ويطالبون بتعديلها بحيث يكون افتراض حسن النية, هو الاساس في تحديد المسؤولية الجنائية عما تنشره الصحف وأجهزة الإعلام, ويكون اعتقاد الصحفي أو الإعلامي بصحة ما ينشره أو يذيعه مبرراً للبراءة في جرائم النشر, مع أنهم لا يتعاملون مع أحد ممن يختلف معهم في الراحة الا باعتباره سيئ النية, ومدفوعا ويعمل لحساب آخرين! أما الذي يغيظني أكثر, فهو حكاية الاساءة إلى رموز الأمة والوطن, التي يتخذها البعض مبررا للمطالبة بمصادرة الحق في الاختلاف, فهو مصطلح لا أعرف له معنى, وتهمة لم أجدها في أي قانون, وفيما عدا تهمة العيب في ذوات الملوك والرؤساء والأمراء أثناء توليهم لمسؤولياتهم, فإن القوانين لا تعرف شيئًا اسمه الاساءة لرموز الأمة, وليس هناك جدول رسمي ملحق باحداها يتضمن اسماء الرموز التي لايجوز تناولها بالنقد. وربما لهذا السبب, أصبح من حق كل انسان, أن يدلع نفسه, ويدرج اسمه أو اسم من يحب ضمن قائمة رموز الأمة الذين ينبغي تقديسهم, وبالتالي فلا يجوز الاختلاف معهم أو حولهم, لأن ذلك اساءة للوطن, واهانة للشعب, ولا مانع بالطبع من أن يدرج اسماء أعدائه والمختلفين معه في الرأي, والذين يحبون ما يكره أو يكرهون ما يحب في قائمة خصوم الأمة ممن تجوز الاساءة اليهم وتستحب شرشحتهم, وهو وضع لن يحل المشكلة, بل سوف يزيدها تعقيدا, فسوف يتكرر الاسم الواحد مرتين, مرة في قائمة رموز الأمة, والأخرى في قائمة خصومها, مما يضطر الصحف للكيل بمكيالين, والوزن بميزانين, في صفحة (المكاييل) المخصصة للهجوم على أمريكا, لأنها ترتكب هذا الفعل الشائن, وصفحة (الموازين) المخصصة للتنديد بفاشية اسرائيل! ومن النتائج المضحكة لشيوع هذه القوائم, ما يفعله بعض الفنانين الذين ما يكاد الواحد منهم, يتعرض لحملة صحفية تنتقد أعماله, أو تنتقص من مكانته الفنية, حتى يصرخ معلنا أنه مستهدف, باعتباره رمزا من رموز الأمة, وان الهدف من نقد أعماله, هو الاساءة للوطن واهانة الشعب, وما يكاد آخر يتعرض للتشهير, ولانتهاك حرمة حياته الخاصة حتى يكرر نفس الكلام.. ومع ان القانون والتقاليد الديمقراطية, لا تعطيانه حقا في الحالة الاولى, فانهما تعطيانه في الحالة الثانية, الحق في مقاضاة الصحف التي تقذف في حقه او تشهر به, باعتبارها مواطنا تحمي الدساتير والقوانين حقه في الخصوصية, ولانه لا يريد ان يتساوى بغيره من المواطنين, فهو لا يلجأ للقضاء, ويكتفي بالمطالبة, بمصادرة الصحف اداريا, لتطاولها على مقام احد رموز الامة الذي هو عظمته شخصيا. ومنذ اكثر من عشرين عاما, وكثير من رجال الدين, يوجهون بالحاح في الكتب والصحف وفي الاذاعة والتلفزيون, لفكرة خلاصتها ان الزنادقة والملحدين والعلمانيين الكفرة, لا يجسرون على الهجوم علنا على الدين الاسلامي, وانهم يلجأون لحيلة خبيثة, وهي الهجوم غير المباشر, من خلال نقد دعاة الاسلام, ومناقشة افكارهم, فهم يهاجمون الدين, من خلال الهجوم على رموز الاسلام, الذين هم رجال الدين, تنفيذا لمخطط وضعته قوى الصليبية والماسونية والصهيونية والشيوعية العالمية, وينفذه عملاؤها والذين يعيشون على عطاياها من صبيان المبشرين. والذين يقولون ذلك, لا يجدون تناقضا بينك, وبين قولهم هم انفسهم, بأن الاسلام لا يعرف شيئا اسمه رجال الدجل, وبأنه لا عصمة الا للمعصوم وحده, وبأن كل انسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه, الا ساكن الروضة الشريفة, فهذه (نقرة) وتلك نقرة اخرى! والغريب ان صرخة الاساءة لرموز الامة, ما تكاد تنطلق في فضاء أي قطر عربي, حتى يصاب المواطنون فيه بحالة سعار, يستوي في ذلك العوام والمتعلمون, ورجال الفكر وباعة البطاطا, فيزحفون بالشوم والدقشوم, يطالبون بتأديب المجرم الاثيم, الذي يتطاول على الوطن ويهين الشعب, سواء كان صحفيا او كاتبا او مقدما لبرامج تلفزيونية من النوع الذي تقدمه قناة الجزيرة الفضائية, وبنفيه من فوق خريطة الامة العربية, التي اصبح كل من يدب على ارضها, رمزا معصوما, لا يجوز الخلاف معه او حوله, لان الرأي المخالف سوء تربية, والتعبير عنه... قلة ادب! ذلك مرض قديم وجديد ولا برء منه, الا اذا رفعنا اكفنا الى السماء ودعونا الله عز وجل, الذي ابتلى هذه الامة, بادواء لا اول لها ولا اخر, من التشرذم الى خطل الرأي, ومن الاستبداد الى ادعاء العصمة, ومن نتانياهو الى واي بلانتيشن, ان يبتليها اليوم قبل الغد بداء الديمقراطية.

Email