هزيمة الأصولية في الولايات المتحدة:بقلم- عادل محمد حسن

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجمع غالبية المراقبين على ان الانتخابات الجزئية الأمريكية الاخيرة تعد واحدة من اكثر الانتخابات الجزئية اثارة بل وخصوصية في تاريخ الولايات المتحدة . السبب في ذلك لا يعود فقط الى كون نتائج الانتخابات تؤثر على مستقبل الرئيس الحالي بيل كلينتون سلبا أو ايجابا في البيت الابيض بعد تورطه في علاقات (غير مناسبة) , واستغلال الجمهوريين لذلك من اجل نتائج هذه الانتخابات على الصراع الجاري في الولايات المتحدة وبشكل حاد بين الليبرالية والاصولية والتي طالت حتى الاحزاب التقليدية الامريكية, حيث تعاظم هجوم اليمين التقليدي على الحريات العامة والمكتسبات الاجتماعية التي حققها الامريكيون مما يذكر المواطن الامريكي بذلك الهجوم الشرس الذي شنه اليمين ضد الحريات العامة بحجة مكافحة النشاط الشيوعي الهدام في عهد المكارثية ابان عقد الخمسينات. فمنذ أواخر التسعينات هيمنت على الحزب الجمهوري فئة اصولية وأزاحت الفئات اليمينية المعتدلة في الحزب. فبعد ان كان الحزب الجمهوري في الثمانينات هو المدافع عن الليبرالية وتقليص هيمنة الدولة على النشاط الفردي, بدل هذا الحزب نهجه في بداية التسعينات ليتبنى أيديولوجية أصولية متطرفة محورها نزعة المحافظة والاستجابة لضغوط اليمينيين المتدينين المتطرفين. ويمثل هذا التيار رئيس الكونجرس نيوت جينجريتش مهندس ما سمي آنذاك بوثيقة (العقد مع أمريكا) . ووصف احد الكتاب الامريكان, آل دوكترو, هذا التغيير بأنه اشبه بانقلاب عسكري. وأصبح هذا التحول في سياسة الحزب الجمهوري بمثابة ناقوس خطر حول امكانية عودة المكارثية بلباس جديد مما حشد الاوساط الليبرالية للالتفاف حول كلينتون, رغم المطبات التي وقع فيها, لمواجهة خطر كبت الحريات وتدخل الدولة في حياة الافراد. وليس من قبيل الصدفة ان كتب آرثر ميلر, الكاتب المسرحي البارز وأحد ضحايا المكارثية في الخمسينات, مقالة في جريدة (نيويورك تايمز) أخيرا قارن فيها بين المكارثية الجديدة التي يتوعد بها كينيث ستار, المدعي الخاص الذي وظفه الجمهوريون لازاحة كلينتون, وبين اصطياد السحرة في مدينة سالم والذين خلدوا في مسرحيته الشهيرة (البودقة) . ان هذا التغيير في سياسة الحزب الجمهوري قد أحدث انقساما في داخله بين أنصار الايديولوجية الاصولية وأبرز ممثليها نيوت جينجريتش وألفونسو داماتو الذي فشل في الانتخابات الاخيرة عن ولاية نيويورك, وبين أنصار البراجماتية الانتخابية الذين يمثلهم نجلا الرئيس السابق جورج بوش اللذان نجحا في الانتخابات الاخيرة عن ولايتي فلوريدا وتكساس. هذا في الوقت الذي شارك فيه الديمقراطيون في الانتخابات بشكل موحد ومنضبط رغم الهجمات التي تعرض لها الرئيس بيل كلينتون وفضائحه. وضمن التقاليد الامريكية فإن خصوصية هذه الانتخابات تتحدد في حجم التبرعات ومصادرها والأموال التي صرفت على الانتخابات. فإذا كان الحزب الجمهوري قد حصل على تبرعات قدرها 159 مليون دولار و150.3 مليون دولار و177.5 مليون دولار اثناء الانتخابات الجزئية التي جرت في اعوام 1994 و1998 على التوالي فإن الحزب الديمقراطي جمع تبرعات قدرها 40.3 مليون دولار و77.9 مليون دولار و105.5 ملايين دولار في نفس السنوات. وهذا يعني ان التبرعات التي حصل عليها الجمهوريون في نفس السنوات تزيد بمقدار 73% عما حصل عليه الحزب الديمقراطي, ففي ولاية نيويورك وحدها حصل الجمهوري المتعصب الفونسو داماتو على 25 مليون دولار وصرف 15.7 مليون دولار على حملته الانتخابية, ومن المهم هنا الاشارة الى مصادر هذه التبرعات. فالحزب الجمهوري حصل على تبرعاته من شركات السجائر وشركات السيارات والبناء واتحاد حملة السلاح الامريكان, في حين حصل الحزب الديمقراطي على تبرعاته من الاتحادات العمالية النقابية. هذه الحالة تعكس مدى الاستقطاب الاجتماعي خاصة في الانتخابات الاخيرة. ومن اللافت للنظر هنا هي تركيبة المشاركين في التصويت, هذه التركيبة التي تعكس ايضا حدة التناقضات الاجتماعية في الولايات المتحدة. ان توجه الحزب الديمقراطي الامريكي وخاصة في عهد كلينتون نحو الجاليات الاثنية من غير البيض وتحسين ظروف معيشتهم وارتفاع دخلهم ودعمه للمساواة بين المرأة والرجل قد حسن من مواقعه الانتخابية. وهكذا صوت 88% من السود لصالح الحزب الديمقراطي كما صوتت غالبية المهاجرين من الشرق الاوسط وامريكا اللاتينية لصالح الحزب نفسه. هذا الى جانب تصويت النساء لهم ايضا. وليس من قبيل الصدفة ان يشير الكاتب الامريكي توني موريسون الحائز على جائزة نوبل في الادب الى ان (مونيكا جيت) قد جعلت من الرئيس الامريكي بيل كلينتون اول رئيس اسود في تاريخ الولايات المتحدة. وبالرغم من ان اسم بيل كلينتون لم يكن مدرجا في قائمة المتنافسين, الا انه كان في محور الصراع الجاري في الانتخابات. فاليمين والجمهوريون بالذات استهدفوا تعزيز مواقعهم في مراكز اتخاذ القرار وذلك لتوجيه ضربة للرئيس بيل كلينتون وازاحته. وفي المقابل فان غالبية المواطنين اي قرابة 67% تطالب بالتخلي عن الضغط على الرئيس او ازاحته. وهذه الغالبية تدعم توجه بيل كلينتون في تحسين الاوضاع المعاشية لذوي الدخل المحدود وتحسين الخدمات العامة والصحية والوقوف بوجه أي محاولة لطغيان المكارثية الجديدة في الولايات المتحدة. وبالرغم من ان نتائج الانتخابات قد أبقت على الحزب الجمهوري متقدما من الناحية العددية الا ان الناخبين لم يفوضوهم بالسير قدما في مقاضاة الرئيس او محاكمته او تطبيق مشروعهم اليميني. هذه النتيجة هزت الحزب الجمهوري بحيث اسقطت احد رموز التطرف اليميني في ولايات نيويورك وكاليفورنيا والباما, وكارولينا الجنوبية وعبر رئيس الكونجرس, جينجريتش, عن نيته باعتزال العمل السياسي والاستقالة من رئاسة الكونجرس, وستمهد هذه النتيجة للحزب الديمقراطي لأداء افضل في انتخابات الرئاسة القادمة التي ستجرى عام 2000.

Email