أبجديات:بقلم-عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد ان تمر بتجارب كثيرة, تخرج منها أحياناً سعيداً غانماً, واحيانا أخرى غير ذلك, تبدأ في تكوين مخزونك الشخصي من الآراء والتوجهات , وترسم نظرتك الكلية للحياة والناس ومجموعة المثل والقناعات. ولعل أسوأ التجارب التي قد تمر على الانسان, تلك التي تقوده الى غواية الجحود أو الكفر, والكفر هنا لا يعني الشرك المعروف في الذهنية الدينية المسلمة, انه هنا نقيض التسليم الايماني بقيم معينة تعارفنا على جمالياتها ومثالياتها زمنا طويلا منذ عهود النشأة والطهر الأول. وبالتأكيد فإن اجمل التجارب هي التي تكرس منظومة القيم الايجابية التي نتغنى بها, وبها نستطيع مقاومة قبح افرازات التقدم والحضارة والماديات. كلنا آمن ويؤمن بالوطن وبحتمية حبه, كما نؤمن بخيرية الانسان وبأن الشر عامل طارىء عابر فيه, ونؤمن بالاخوة وتبعاتها وبالصداقات الحميمة, وبمنظومة لا آخر لها من الجماليات, وبأن الانسان يرزق بقدر عطائه واخلاصه واجتهاده, ولذلك فكثيرون منا يرون الناس بعين طبعهم, كما يقول المثل السائد, وبالتالي فهم يخضعون مفردات الواقع لهذا المعيار الذي تثبت التجارب انه ليس صحيحا دائما. وكثيرون منا لا يلتفتون جيدا لهذا الزلزال الذي أصاب الحياة حولهم, فقلبها رأسا على عقب, كما انهم يتحاشون تصديق ان الزلزال قد تعدى أثره الاسمنت والخرسانات المسلحة, وعلاقات الانتاج ومشاريع البناء وأنظمة السياسة والتعليم... الخ. وبأنه ضرب وجدان الناس ومنظومة قيمهم وفتتها وتركها مشوهة حتى النخاع! عندما سألني أحدهم يوما: ما هو الصحيح في حياتنا, ان نثق في الآخرين, أم ان نحذرهم ونشك فيهم حتى نتثبت من أهدافهم ونواياهم؟ فقد حيرني السؤال وخشيت الاجابة, وترددت في الاستشهاد بذلك المبدأ القانوني القائل (المتهم بريء حتى تثبت ادانته). فيما حولنا يتلاطم بحر من البشر والعلاقات والتوجهات, وكل الطرق تقودك الى قناعة ان الانسان مدان أو متهم حتى يُثبت براءته, هكذا يتعامل أغلب الناس وأكثرهم حيطة وحذرا, وهؤلاء هم أكثر الناجين من مآزق الثقة المفرطة في الناس وسقطات الاندفاع الساذج نحو تصديقهم. وربما كانوا حكماء أكثر من اللازم هؤلاء الانجليز الذين لم أحبهم يوما حين قالوا: (لا تثق بصديق جديد, وكذلك لا تثق بصديق قديم, فعندما تطل المصالح من النافذة, لا يلقي الصديق عليك أي نظرة)! ومع بعض التحفظات على قضية الثقة, فإن كل الثقة ليست تعقلا على أي حال. وفي مجتمعنا اليوم ــ كما في أي مجتمع ــ دخل الناس في شبكة لا أول لها ولا آخر, تبدأ بالمصالح الشخصية وتنتهي بالمصالح نفسها, وصار التيقن من صحة الامور صعبا, والفصل بين خطوط التماس معجزة لكثرة ما تشابكت المصالح والاهواء والاهداف, وعليه فالمثل العربي يبدو صحيحا هنا: (سوء الظن من حسن الفطن). فحين تصدمك الحياة في أصدقائك أو أحبابك أو اخوتك أو بعض أهلك, تتساءل: أين الخلل؟ هل هو فيك انت أم في أصدقائك؟ ولماذا يذهب الناس بشراسة نحو السوء والخيانة والقبح والتجرد من الفضائل وتمثيل أدوار لم تكن لهم يوما؟ لا تجد اجابة شافية سوى ما يقوله لك الناصحون: هكذا هي الدنيا!.. أحقاً هكذا هي الدنيا؟!

Email