العرب وجمهورية برلين الجديدة: بقلم- د. فتحي عبدالفتاح

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحلو لبعض المعلقين السياسيين في المانيا واوروبا ان يطلقوا على المستشار الالماني الجديد المنتخب ايرهارد شرويدر بأنه اول رئيس لجمهورية برلين الجديدة . وهم يشيرون بذلك الى انتقال العاصمة ابتداء من العام المقبل من بون الى برلين بعد حوالي خمسين عاما كانت برلين المقسمة تمنع الالمان من اتخاذها عاصمة موحدة لهم. كما ان الحديث عن جمهورية برلين الجديدة ينعش ذكرى الالمان والعالم كله حول جمهورية فايمر التاريخية التي اعلنت 1918 على انقاض الحكم الامبراطوري القيصري الذي انهار بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الاولى وكانت جمهورية فايمر هي اول جمهورية تعلن في التاريخ الالماني كله, وثالث جمهورية تعلن في اوروبا حيث لم يسبقها سوى الجمهورية الفرنسية التي اعلنت في اعقاب الثورة الفرنسية 1789 ثم جمهورية روسيا السوفييتية التي اعلنت في اكتوبر 1917. وهذه التسمية الجديدة والمثيرة تعكس في نفس الوقت الاحساس بعمق التغيرات التي يمكن ان تطرأ على السياسة الالمانية والتي يعتقد الكثيرون بأنها تتجاوز مجرد استبدال مستشار من الحزب المسيحي الديمقراطي بمستشار آخر من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وهو الامر الذي حدث قبل ذلك مرتين, في الفترة من 1968 حتى 1982 وهي الفترة التي حكم فيها المستشاران الاشتراكيان ويللي براندن وهيلموت شميث. وينطلق هؤلاء المحللون من حسابات كثيرة سبقت وواكبت عملية الانتخابات الالمانية الاخيرة منها: * ان سقوط المستشار السابق هيلموت كول صانع الوحدة الالمانية الثانية (الوحدة الالمانية الاولى حدثت 1870 وعلى يد المستشار الاول اوتونون بسمارك) وبعد سبع سنوات فقط من تحقيق الحلم التاريخي لم يكن مثلما ذهب البعض نابعا من الرغبة في التغيير بعد ان ظل كول في السلطة لاكثر من 16 عاما (1982 ــ 1998) بقدر ما كان رفضا للسياسات الاخيرة للحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم وسياساته وخاصة فيما يتعلق بإدارة عملية الوحدة نفسها. ولم يعد خافيا ان الولايات الخمس التي كانت تمثل في الماضي جمهورية المانيا الديمقراطية هي التي لعبت الدور الحاسم في اسقاط المستشار المسيحي الديمقراطي, ولعل الفارق الكبير بين نسب التصويت للمسيحيين الديمقراطيين في اول انتخابات جرت بعد الوحدة 1990 من جانب هذه الولايات ونسب تصويتهم الاخير توضح هذا التحول (42% الى 23%) . ومعنى ذلك ان الحماس الزائد الذي خلقته ظروف الوحدة تحول الى صرخة غضب بعد ان تكشفت حقائق كثيرة حول ازدياد نسب البطالة في هذه الولايات (24%) والفروق التي تواصلت بين اجور العاملين في الشرق والعاملين في الغرب الى الدرجة التي قال فيها بعض الكتاب الالمان وعلى رأسهم الروائي الالماني الكبير جونترجراس انه بعد سقوط سور برلين الحجري خلقت سياسة الحزب المسيحي الديمقراطي بزعامة كول اسوارا اخرى غير مرئية بين الشرق والغرب ضاعفت من احساس الفرقة والانقسام بين صفوف الشعب الالماني وقد اصدر جونترجراس في العام الماضي روايته الشهيرة (حقول ممتدة) ناقش فيها هذه القضية ووجه تهمه صريحة الى الحزب المسيحي الديمقراطي بزعامة كول بانه تعامل مع الاقاليم الشرقية بمفهوم الدمج والالحاق وليس بمفهوم الوحدة والتكامل. * يضاف الى ذلك ان سقوط كول والحزب المسيحي الديمقراطي في الانتخابات الاخيرة يعتبر اسوأ نتيجة يحققها الحزب منذ انشاء المانيا الغربية 1948 حينما حصلوا على نسبة تزيد على 58% ايام المستشار الاسبق آديناور: ولم تتراجع هذه النسبة في اسوأ الظروف الى اقل من 42% حينما استطاع فيللي براندت زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ان يفوز بمنصب المستشارية في اواخر الستينات. ولكن الحزب المسيحي الديمقراطي لم يحقق في الانتخابات الاخيرة سوى 35% من الاصوات من بينها نسبة كبيرة تصل الى ثلث هذه الاصوات حصل عليها الحزب المسيحي الاجتماعي في ولاية بافاريا وهو الحزب التوأم الذي تضاف اصواته دائما الى المسيحيين الديمقراطيين. وهذه النتيجة المتدنية للغاية دفعت الكثير من المراقبين الى القول بأن نجم الاحزاب المسيحية الديمقراطية في المانيا وأوروبا كلها محكوم عليه بالذبول والانحسار بعد ان كانت هذه الاحزاب هي القوة المسيطرة على دول اوروبا الغربية في الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية. وبعد ان استطاعت الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية ان تحقق انتصارات متتالية أوصلتها الى الحكم في 14 دولة من دول الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر. * يضاف الى ذلك الوضع الحرج الذي وصل اليه الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) ذلك الحزب الذي ظل مشاركا في السلطة في المانيا الغربية منذ انشائها لقد كان هذا الحزب الذي يطلق عليه بأنه الصوت الامريكي في الانتخابات الالمانية هو الذي يحدد المستشار الالماني وذلك بتحالفه مع المسيحيين الديمقراطيين أو مع الاشتراكيين. ولقد كانت نسب الحزب في الانتخابات تصل الى 15 واحيانا 18% ولكنه ومنذ بداية الثمانينات بدأ يتراجع على الساحة السياسية ولم يحصل في الانتخابات الاخيرة سوى على 6.2% من الاصوات. ان صانع الملوك مثلما كان يطلق على الحزب الليبرالي لم يفقد فقط دوره الذي لعبه طوال نصف قرن باعتباره حزب المصالح الامريكية في المانيا ولكنه يجد نفسه لاول مرة في تاريخ المانيا المعاصره خارج السلطة بعد ان اعلن الحزب الاشتراكي الديمقراطي رفضه للتحالف معه. لقد احتكر الحزب الليبرالي في الماضي منصب وزير الخارجية الالمانية ولعلنا نذكر الوزير جنشر الذي ظل وزيرا لخارجية المانيا لاكثر من عشرين عاما كان فيها مهندس العلاقات الامريكية الالمانية وصاحب مقولة ان المانيا وامريكا تمثلان ضمير الاطلسي غربا وشرقا. * يضاف الى ذلك كله ان الحزب البديل لدور الليبراليين السابق والذي قرر الدخول في تحالف مع المستشار الجديد شرويدر وحزبه الاشتراكي الديمقراطي هو حزب الخضر وهو في واقع الامر يمثل نقيضا على طول الخط للحزب الليبرالي في توجهاته السياسية والاجتماعية بل وفي نظرته العالمية. وحزب الخضر الذي تشكل في اواخر السبعينات ويدخل السلطة ولاول مرة في المانيا هذه الايام تشكل من مجموعات انصار البيئة وحقوق الانسان فأنصار السلام والمتعاطفين مع قضايا العالم الثالث. وهو حزب يساري التوجه يعارض الاحلاف العسكرية ويطالب بخروج المانيا من حلف الاطلسي كما يعارض سياسات الهيمنة الامريكية في اوروبا والعالم وقد قام طوال الثمانينات والتسعينات بدور نشط في معارضة اقامة قواعد عسكرية ذرية امريكية في المنطقة. وزعيم الحزب الحالي جوشوا فيشر والمرشح لتولي منصب وزير الخارجية الالمانية في الحكومة الجديدة كان زعيما من زعماء ثورة الطلبة التي اجتاحت المانيا وفرنسا 1968 وشارك في تظاهرات وفاعليات كثيرة على النطاق الالماني والاوروبي ضد حرب فيتنام وهذا النظام العنصري الذي كان قائما في جنوب افريقيا وضد سياسة العدوان والتوسع الاسرائيلي ومن اجل مناصرة شعوب العالم الثالث ضد الفقر والحروب والاضطهاد. ويقوي من موقع الخضر في السلطة الالمانية الجديدة دخول حزب الديمقراطية الاشتراكية الى البوندستاج (البرلمان) بعد ان نجح في الحصول على نسبة 5.4% من الاصوات. والمعروف وفقا للدستور الالماني الا يدخل اي حزب الى البرلمان الا بعد حصوله على نسبة 5% من الاصوات على النطاق الالماني. وحزب الديمقراطية الاشتراكية هو الذي انشيء 1990 على انقاض الحزب الاشتراكي الالماني الموحد (الشيوعي) والذي كان يحكم في المانيا الشرقية وحتى انهيار سور برلين. وبالرغم من ان هذا الحزب لن يدخل في تحالف السلطة الجديدة (الاشتراكيون والخضر) الا انه اعلن مساندته لهم في البرلمان من خلال مايسمى في المانيا بالتسامح الايجابي, كما ان هذا الحزب دخل في تحالفات مع الخضر والاشتراكيين في تكوين بعض حكومات الولايات الالمانية. * هذه هي الخارطة الجديدة للقوى السياسية التي جاءت بها الانتخابات الالمانية الاخيرة والتي تؤكد بأن هناك توجهات جديدة تماما الامر الذي جعل الكثيرين يجرون الكثير من الحسابات والتحسبات. ولذلك يدهش المرء احيانا حين يجد رد الفعل العربي ازاء هذه التغيرات التي تجرى في المانيا يتخذ مسرح الحياد بل وفي بعض الاحيان يبدو من بعض التعليقات العربية كما لو ان حكم المسيحيين الديمقراطيين كان افضل بالنسبة للقضايا العربية. وأعتقد ان العرب والقضايا العربية ووفقا لهذه الحسابات الجديدة من المفترض ان يكونوا اكثر حماسا وتعاملا مع الحكومة الالمانية الجديدة والتي تضم تحالف الاشتراكيين والخضر. ولعل البعض لايعرف ان سياسة المسيحيين الديمقراطيين وحلفائهم الليبراليين المرتبطين بالسياسات الامريكية, جعلت المانيا هي الدولة الوحيدة في دول الاتحاد الاوروبي والتي كانت تصوت دائما في الامم المتحدة مع اسرائيل والولايات المتحدة. ولعلنا نذكر الادانة التي اصدرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في العام الماضي ضد السياسات العدوانية الاسرائيلية لتغيير اوضاع مدينة القدس والاراضي المحتلة والمطالبة بوقف بناء المستعمرات الجديدة, تلك الادانة التي وافقت عليها غالبية الدول الاعضاء بما في ذلك دول الاتحاد الاوروبي وعارضتها امريكا واسرائيل ومكرونيزيا... والمانيا. ولعل البعض لا يعرف ان وزير خارجية المانيا في عهد المستشار المسيحي الديمقراطي هيلموت كول مرتبطا بزوجة تحمل الجنسية الاسرائيلية وغالبا ما كان يقضي اجازته هو والعائلة في تل ابيب. ولكننا كلنا نعرف بالتأكيد ان المستشارين المسيحيين الديمقراطيين ــ آديناور وابرهارد ــ هما اللذان قررا في الستينات منح اسرائيل تعويضات هائلة تحت دعوى التكفير عما ارتكبه هتلر ضد اليهود. وكلنا يعرف ان هذه التعويضات قدمت من الناحية الموضوعية مساهمة ضخمة في دعم اسرائيل ماديا وعسكريا رغم انها كانت ومازالت تحتل اراضي عربية وترفض قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعه في اقامة دولته المستقلة. فهل نطمع في حسابات عربية جديدة في التعامل مع جمهورية برلين الفتية؟! مدير مركز الابحاث والدراسات ــ الجمهورية القاهرية

Email