المخابرات الأمريكية والاتفاق الفلسطيني ــ الاسرائيلي:بقلم-د.علي الدين هلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

لاحظ المراقبون ان وكالة المخابرات المركزية الامريكية لعبت دورا هاما في التوصل الى الاتفاق الاخير بين اسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية . فقد شارك جورج تينيت, مدير الوكالة, مع عدد من معاونيه, في المباحثات الصعبة التي سبقت الوصول الى الاتفاق, وخصوصا بشأن الجوانب الامنية منه. ووفقا لما تم الاتفاق عليه, فإن وكالة المخابرات المركزية الامريكية سوف يكون لها دور في تنفيذ الاتفاق, وفي التأكد من تطبيق الطرف الفلسطيني لبنوده. وعلى سبيل المثال, فإن الوكالة سوف تراجع الخطوات التنفيذية التي تعقدها السلطة الوطنية في مجال متابعة العناصر المتشددة, والتأكد من تطبيق تلك الخطوات, وكذا التأكد من سلامة المحاكمات التي تجرى لمن يتم القبض عليهم في هذا الاطار, ومن قضائهم لمدة العقوبات التي يتم الحكم بها عليهم. وقد أثار تكليف الوكالة بهذا الدور مجموعة انتقادات شارك فيها عدد من كبار المسؤولين السابقين عنها, وذلك على اساس ان هذه المهام تخرج عن الدور المتعارف عليه, وعن نطاق الاختصاص الوظيفي التقليدي للوكالة, وان قيامها بهذا الدور ربما يضعها في علاقة (خصومة) مع الفلسطينيين او الاسرائيليين, لأن الوكالة سوف تصبح, كما شبهها البعض بمثابة (محكمة استئناف) بين الجانبين. والحقيقة, ان هذا الموضوع ينبغي فهمه في اطار اوسع, يتعلق (بأزمة الدور) , التي يواجهها جهاز المخابرات الامريكي في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة, ذلك, ان المهمة الاساسية لهذا الجهاز, ولقرابة نصف قرن من الزمان, كانت هي محاربة الايديولجية الماركسية, وملاحقة الاحزاب الشيوعية في الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا, والسعي لاضعافها داخليا وافشال اهدافها الخارجية. ومن حول هذه الاهداف تبلورت الثقافة السياسية للعاملين فيها, وتطورت مهاراتها وقدراتها في مجالات: جمع المعلومات, وتحليلها, ورسم السياسات والبرامج, لتحقيق الاهداف المحددة. لذلك فعندما انهار الاتحاد السوفييتي في ,1991 فجأة وبدون مقدمات طويلة, فقد وضعت الوكالة في مأزق موضوعي, ذلك ان العدو التقليدي بنظمه, وايديولوجيته, وحلفه العسكري, قد انهار بشكل درامي سريع, ولقد مثل هذا الانهيار السوفييتي المفاجئ, والذي ليس له سابقة في التاريخ, معنى مزدوجا لوكالة المخابرات المركزية, فمن ناحية, مثل ذلك الحدث انتصارا للجهود والأنشطة التي قام بها الجهاز عبر سنوات طويلة, والتي سعت إلى إضعاف العدو الشيوعي, ومن ناحية أخرى فإن هذا الانهيار المفاجئ خلق أزمة تكيف مع الوضع الجديد, (فالبوصلة) التي وجهت عمل الجهاز منذ نشأته قد اختفت على نحو مفاجىء, وبرزت قضايا وتحديات جديدة, لم يكن الجهاز: برجاله, وأجهزته, ومهاراته مستعدا للتعامل معها, وقد أدى هذا إلى حالة من تدهور الروح المعنوية في داخل الجهاز, وكرس من هذا التدهور في المعنويات عددا من الأحداث التي وقعت في السنوات الأخيرة, ففي عام ,1996 تمت الاطاحة باثنين من كبار المسؤولين بالوكالة لأسباب تتصل بالفساد المالي, وفي عام 1997 أجريت عملية تطهير لعدد من عملاء الوكالة بعد اتضاح تورطهم في عمليات انتهاك لحقوق الانسان في عدد من دول أمريكا اللاتينية. وربما كان أهم مؤشر على هذا الاضطراب الذي أصاب (دولاب العمل) في داخل الوكالة هو التغير السريع في رئاستها, ففي الفترة ما بين عامي 1981 و,1991 تناوب على ادارة الجهاز اثنان فقط, بينما في الفترة ما بين 1991 وحتى الآن, تناوب عليه خمسة مدراء, أضف الى ذلك, اخفاق الوكالة في العديد من عملياتها, فعلى سبيل المثال, نشبت أزمة بين فرنسا وأمريكا في فبراير 1995 بسبب اكتشاف المخابرات الفرنسية لأنشطة تجسس تكنولوجية وصناعية أمريكية على الشركات الفرنسية في داخل فرنسا, كما فشلت كل محاولات الوكالة, حتى الآن في تغيير نظام الحكم بالعراق, وفشل الجهاز ايضا في توقيع: التجارب النووية الهندية, والصواريخ الكورية الشمالية, أو عمليتي تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام. ومن خلال الجدل الذي اثير داخل الوكالة وخارجها, حول طبيعة مهامها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة, حدد الرئيس كلينتون مجموعة من المهام الجديدة التي تمثلت في: مواجهة عدم الاستقرار الاقليمي, وملاحقة أنشطة الارهاب الدولي ومنظماته, ومكافحة تهريب المخدرات والجريمة الدولية, والعمل على عدم انتشار الأسلحة النووية, وجاء تعيين (جون دويتش) في عام ,1995 مديرا للوكالة لكي يعطي دفعة في مجال التغيير, فسعى إلى إدخال تعديلات في الوظائف العليا داخل الجهاز, وإلى تغيير ثقافة الوكالة وأولوياتها, ولكن هذه الآمال سرعان ما تبددت باستقالته في نهاية عام 1996. وأيا كان الامر, فمن المؤكد, ان وكالة المخابرات المركزية الامريكية تمر بمرحلة (اعادة تعريف) لدورها, و(اعادة تحديد) لأنشطتها, وأولوياتها, ومن الأرجح, ان يزداد تدريجيا دور (الجاسوسية الاقتصادية والتكنولوجية) , وذلك مع: ازدياد اهمية الاعتبارات الاقتصادية في العلاقات الدولية, وتزايد حدة التنافسات التجارية, والصراع من اجل الاسواق والصفقات, وازدياد قيمة المعلومات الاقتصادية والتكنولوجية, والحاجة الى معرفة استراتيجيات الشركات الأوروبية واليابانية, سواء من حيث التطوير التكنولوجي او التسويق. كما تسعى (الجاسوسية الاقتصادية والتكنولوجية) الى الحصول على معلومات بشأن برامج الشركات المنافسة, وخططها, والصفقات التي توشك على ابرامها. ولكن, هل تستطيع الوكالة القيام بأدوارها الجديدة, سواء على مستوى الجاسوسية الاقتصادية او مكافحة الارهاب, ام لا؟ ان ذلك سوف يتوقف على قدرة الوكالة على التكيف مع البيئة الدولية الجديدة, وكذا على قدرة موظفيها على اعادة تثقيف انفسهم واكتساب المهارات الجديدة التي تتطلبها تلك المهام. في هذا الاطار, نستطيع ان نفهم دلالة المهام التي تضطلع بها وكالة المخابرات الامريكية في تنفيذ الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي.

Email