اعتدال الشارع الايراني وتهافت الخطاب اللينيني:بقلم- محمد صادق الحسيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرة أخرى أثبت الناخب الايراني وعيه المتميز لمقولة صناديق الاقتراع كما اثبت قدرته على التأثير في صياغة وصناعة مجالس القرار حتى في أسوأ الظروف أو أصعبها وأكثرها تعقيدا وتشابكا . هذا في الوقت الذي اثبتت فيه بعض القوى السياسية التقليدية التي أرهقتها الشعارات والصياغات الايديولوجية الجامدة والمعبأة في قوالب جاهزة انها غير قادرة على مواكبة حركة الجمهور العريض لاسيما جيل الشباب والفتيات والفتيان الذين باتوا يشكلون نحو 70% من المجتمع الايراني الجديد. لقد أظهرت انتخابات مجلس الخبراء الاخيرة فيما اظهرت مجموعة من الحقائق والمستجدات التي تتحرك في مسار تحولات المجتمع الايراني الحديث. أولا: انه كلما كانت خيارات الانتخاب متعددة وواسعة كلما كانت المشاركة الشعبية واسعة وتضم كل ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي والديني. ثانيا: ان من شارك في هذه الانتخابات شارك فيها عن وعي وانتخب من يرى فيه ممثلا لبعض طموحاته بعيدا عن القوائم الانتخابية الجاهزة الصادرة من المكاتب الحزبية أيا كانت انتماءاتها الفكرية, وقد ظهر ذلك من خلال عمليات التشطيب الواسعة التي جرت للقوائم الثلاث المعروفة. ثالثا: ان من قاطع هذه الانتخابات بدوره قاطعها بارادة مستقلة وليس بتحريض من الاحزاب والقوى السياسية التي تحفظت او قاطعت الانتخابات والدليل على ذلك عدم تعاطفه مع دعوات المقاطعة السلبية التي كانت تدعو الى تنظيم مهرجانات الاعتراض مفضلا التعامل السلبي حتى ظهور زعامات أو أحزاب تمثل طموحاته الاعتراضية واضعا بذلك كل اجنحة المعترضين في خانة الاقلية النخبوية الفاقدة للتعاطف الجماهيري العريض. رابعا: ان بعض رموز واقطاب المجتمع السياسي القديم سواء أولئك الموسومين باليمين التقليدي او اليسار التقليدي لم يستوعبوا بعد مستجدات المجتمع السياسي الجديد الذي ليس فقط يطالب بالتغيير ويتوق اليه بل انه يبحث عن صيغ عملية للحوار الدائم والاعتراف بالآخر والاقرار بضرورة التعددية وضرورة اسدال الستار على سياسات الكليانية والشمولية ووحدانية الرأي وعقلية الحزب الواحد والرأي الواحد وان أكون أو لا أكون احد على الاطلاق. الذين قرأوا انتخابات مجلس الخبراء الاخير بأنها جاءت نصرا كاسحا للمحافظين كانوا في الواقع هم الوجه الآخر للعملة مع أولئك الذين قرأوها بأنها بيعة للمجتمع السياسي القديم, كلاهما غفل أو تغافل عن سماع صوت التغيير ونداء التحول الذي دعت اليه جموع الناخبين المشاركة او المقاطعة للانتخابات الاخيرة. ثم ان اية قراءة واقعية لتشكيلة المجلس الجديد تثبت بما لا يدع مجالاً للترديد بأن احتكار المحافظين من اليمين التقليدي لقوى المجلس قد كسر بشكل ملحوظ, وان اقلية تزيد عن 15% بقليل قد تشكلت وان بصورة غير رسمية حتى الآن ممن تختلف وتتمايز عن الاكثرية التقليدية المحافظة. هذا اضافة الى ان مقارنة بسيطة بين تشكيلة المجلس الجديد والمجلس القديم تثبت بأن نحو 30% من اعضاء المجلس الجديد هم من العناصر الشبابية في التفكير والرؤية والمنهج, بمعنى ان تكتل المحافظين التقليدي نفسه اضطر الى تجديد قواه بما يتلاءم مع متطلبات المجتمع الجديد حتى يتمكن من استمرار العيش او لنقل التعايش مع مظاهرات الاصلاح الخاتمية الجديدة. من جهة اخرى فقد اكدت الانتخابات الاخيرة ايضا بأن تكتل المحافظين التقليدي اليميني يملك قاعدة اجتماعية معقولة ينبغي الاعتراف بها حتى وان كانت تمثل اقلية اجتماعية, لكنه يجب الاعتراف بها رسميا والتعامل معها كقوة شرعية مطلوب اشراكها في العملية التحولية الاصلاحية وليس عزلها او الغاءها! من جهة اخرى ثمة من يقارن التحول الحاصل في المجلس الجديد للخبراء بما جرى من تحولات في المجلس البرلماني الرابع حيث لعبت الاقلية المتمايزة والمعترضة على سياسات اليمين التقليدي المتحجر دورا اساسيا في خلق اجواء الحيوية الانتخابية المعروفة في انتخابات الدورة البرلمانية الخامسة والتي افرزت فيما افرزت بعد ذلك اجواء انتخابات الرئاسة المعروفة والتي حملت معها الخاتمية والرئيس محمد خاتمي بأفكاره وطروحاته الاصلاحية المعروفة تعبيرا عن اوج التحول السياسي الذي يتراكم على مدى سنوات وليس بداية لذلك التحول. محللون سياسيون متتبعون لظاهرة الاصلاح والتغيير الخاتمية يقولون بان أهم تحول فصل في الانتخابات الأخيرة هو ان الناخب الايراني انتقل في الواقع من دور المتلقي السلبي الى دور الفاعل الايجابي في واحدة من أهم المقولات التي يقوم عليها النظام السياسي الحاكم في ايران, وان مثل هذا التحول لم يكن ممكنا لولا سياسات الاعتدال والتعامل الايجابي مع كل معوقات الاصلاح والتغيير. المحللون السياسيون من جماعة المجتمع المدني الجديد يقولون ان حالة الانقسام التي اظهرتها الانتخابات الأخيرة بين جناحي تكتل الاصلاح والتغيير الخاتمي المعروفين بجناح اليسار الديني الراديكالي وجناح تكتل كوادر البناء والاعمار تمثل ظاهرة صحية في العمل السياسي وتظهر مدى الحيوية التي يعيشها الشارع السياسي الايراني. الذين يعتقدون أو ينظرون لمقولة ان الرئيس محمد الخاتمي قد انتهى مخطئون مرتين, مرة لانهم يعتقدون بان البطل الحقيقي للتحولات الجارية هم الاشخاص واقطاب العمل السياسي, ومرة ثانية لانهم يعتقدون ان التحولات الحيوية في المجتمعات انما تأتي بين ليلة وضحاها أو بفرمان رئاسي أو بقرار في الغرف المغلقة للأحزاب والتنظيمات السياسية. ثمة من يقرأ نهاية الرئيس محمد خاتمي بسبب ما يسميه بفقدان زمام المبادرة وتصوره في ذلك ان ميادين السياسية مثل ميادين العسكر لابد وان تحضر لها المتاريس وتحصن بالدفعات والدشم حتى لاتسقط! ناسيا أو متناسيا ان الرئيس محمد خاتمي نفسه يطالب باخضاع السياسة والسياسيين للثقافة وعالم المثقفين وهي مدرسة من نوع جديد في ادارة شؤون البلاد (قيد التجربة والتمرين). من جهة أخرى ثمة من عمل موروث الاحزاب اليسارية - اللينينية بمصطلحاتها وافكارها ومناهجها ومعاييرها وهو يشرح تحولات المجتمع الايراني المسلم وظاهرة تكتل الاصلاح والتغيير فيصف كل مبادرة لاستيعاب أو احتواء معوقات الاصلاح بانها انتهازية سياسية تحمل في طياتها بوادر الانشقاق وضمور الكتلة الخاتمية الاصلاحية, ناسيا أو متناسيا ان المجتمع الايراني اثبت طوال العقدين الماضيين بانه مجتمع ديني اعتدالي وسطي ينبذ التطرف والعنف بطبيعته ويدعو الى التحول الاصلاحي البطيء ومن خلال ثورة الكلام, كما يقول الرئيس محمد خاتمي وليس عبر ثورة المتاريس والاقتتال الداخلي أو التآمر تحت جنح الظلام. مرة أخرى فان المحللين السياسيين من جماعة المجتمع المدني الجديد يعتقدون بان ايران الخاتمية اجتازت امتحانا واختبارا جديدا للاصلاح بنجاح نسبي ملحوظ وان المستقبل القريب سيحمل في طياته نتائج مثل هذا التحول الاصلاحي لما فيه مصلحة الشارع الايراني سواء ذلك الذي فضل مقاطعة الانتخابات الاخيرة أو الذي ساهم في انجاحها وكلاهما ادلى بصوته للتغيير ولكن بلغة اسلامية مبسطة بعيدا عن سفسطات المحللين السياسيين (اللينينيين) من جماعة اليمين التقليدي المحافظ أو اليسار التقليدي الاصلاحي.

Email