اللعب بالنار في القارة السوداء! بقلم ـ محمد مشموشي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل هي(اعادة ولادة دامية للقارة الافريقية)كما يقول الخبير الالماني في الشؤون الافريقية فينريش كوينه ؟!, وهل هي الحدود الوطنية الافريقية التي رسمت في مؤتمر برلين العام 1884 ــ 1885, كما يضيف الخبير الالماني اياه, تتحول الآن الى مجرد نقاط حدود على الخرائط فقط؟! هذان هما السؤالان اللذان يبرزان بقوة في اي تحليل سياسي, او اعلامي, لما يجري حاليا سواء في داخل جمهورية الكونغو الديمقراطية, او على حدودها على امتداد المنطقة التي تعرف باسم (البحيرات الكبرى) , هنا تتورط عمليا جيوش ثماني دول افريقية في القتال الدائر في الكونغو اما تأييدا لرئيس هذه الدولة رولان كابيلا او دعما للمتمردين عليه, وفي كل حال خدمة لما يعتبره زعماء هذه الدول مصالح خاصة بهم وببلدانهم.. وان تكن تصب في النهاية في خدمة صراع المصالح المحتدم منذ سنوات في القارة بين الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا. في الغرب الامريكي والاوروبي يطلق على ما يجري في منطقة البحيرات الكبرى تعبير (افريقيا تلعب بالنار) , الا انه في كثير من البلدان الافريقية يطلقون على هذه الاحداث تعبير (ان الاستعمار القديم يحاول العودة الى افريقيا من النافذة بعد ان طرد منها) في مرحلة التحرر الوطني على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين. مع ذلك فالاحداث الداخلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ مطلع شهر اغسطس الماضي, واشتراك قوات مسلحة عائدة لكل من رواندا واوغندا وبوروندي فيها برغم النفي الرسمي لهذه الدول وادعائها ان قواتها دخلت الكونغو لمجرد حماية حدودها وعدم انتقال المتمردين عبر هذه الحدود, وكذلك اشتراك قوات من زيمبابوي وانجولا وناميبيا في العمليات القتالية لمساعدة كابيلا على ضرب المتمردين وانهاء الصراع لمصلحته.. هذه الاحداث انما تنذر بنشوب حرب على اراضي الكونغو تصفها بعض الاوساط الاعلامية بانها الحرب التي لم تشهد القارة الافريقية كلها مثيلا لها في مرحلة ما بعد الاستعمار الذي كان يفرض سيطرته على القارة السوداء من حدود الماء الى حدود الماء.. اي عمليا من المحيط الاطلسي الى المحيط الهادىء الى بحر العرب الى البحر الابيض المتوسط. واذا لم تكن الولايات المتحدة وفرنسا قد ارسلتا قوات مسلحة حتى الان, تحت اسم (حفظ السلام) او تحت اي اسم آخر, الى الكونغو او الى المنطقة كلها, فليس هناك من شك في ان نفوذ هاتين الدولتين في القارة وخصوصا في الدول التي قررت ـ لهذا السبب أو ذاك! ان تشترك في العمليات القتالية ووجود مصالح كبيرة لهما في مقدمتها النفط المكتشف في منطقة البحيرات الكبرى, كل ذلك يجعل من الدولتين عنصرا اساسيا وان يكن خفيا في الحرب المحدودة حاليا, او حتى فيما يوصف بـ (الحرب الكبرى) التي يلوح شبحها في الكونغو وحولها في المستقبل القريب. لا يقلل من اهمية وخطورة هذه الحرب ان سياسات واشنطن الافريقية ليست في احسن حال منذ فترة من الزمن, من جملة سياساتها الخارجية الاخرى في العالم وخصوصا في ظل (فضيحة) الرئىس بيل كلينتون الاخيرة مع المتدربة السابقة في البيت الابيض مونيكا لوينسكي, كما بدا بوضوح في الموقف الامريكي من الحرب بين ارتيريا واثيوبيا ومن مجمل منطقة افريقيا الجنوبية والبحيرات الكبرى, لأن من شأن تماسك الموقف الفرنسي في القارة ان يحتم على الولايات المتحدة اعادة رسم وتصحيح سياساتها الافريقية خشية خسارة كل ما سعت اليه وحتى فعلته في القارة في السنوات الاخيرة. وفي اعتقاد الاوساط المراقبة (صحيفة (فرانكفورتر روندشاو) الالمانية) ان باريس استعادت, وبسهولة, في المدة الاخيرة تماسكها بعد الصدمة التي اصيبت بها في روندا وسوء الحسابات في مرحلة سقوط موبوتو سيسي سيكو, وهي الان تسيطر عبر شركة (الف) النفطية الفرنسية على الكونغو ــ برازافيل بعد ان اهتز نفوذها بصورة عنيفة في تلك الفترة, كذلك فقد سجل رولان كابيلا من جهته, في الكونغو الديمقراطية, نقطة اخرى لصالح الدولة الفرنسية عندما نجح في تحسين علاقاته مع العديد من الدول الافريقية الفرانكوفونية وضمن بذلك دعما له في كل الجابون وتشاد وساحل العاج.. فضلا عن فرنسا نفسها ايضا. والتحركات الفرنسية, السياسية في افريقيا وفي العالم, لا تقول عمليا سوى ان الموقف الفرنسي غير قلق لما يحدث على صعيد صراع النفوذ بين باريس وواشنطن في افريقيا. يؤكد ذلك, وفق بعض المحللين, ما قاله الرئىس الفرنسي جاك شيراك لرئيس جنوب افريقيا نلسون مانديلا في الاتصال الهاتفي الطويل بينهما قبل ايام. اذ بعد ان ابدى شيراك دعمه لجهود مانديلا من اجل احلال السلام في الكونغو الديمقراطية, اعرب عن (تفاؤل بتطور الاوضاع) في الكونغو وفي القارة الافريقية كلها. ووصفت الناطقة بلسان الرئاسة الفرنسية كاترين كولونا الاتصال بين شيراك ومانديلا بانه عبارة عن (جولة افق واسعة) حول الوضع في كل من الكونغو الديمقراطية وانجولا, وقالت ان شيراك, اكد دعم فرنسا لتحرك مانديلا من اجل احلال السلام في المنطقة. والمعلومات كلها تشير الى ان مانديلا يقف علنا, وفي مختلف الصعد السياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية, الى جانب كابيلا في الصراع الدائر حاليا داخل الكونغو. ولكن هل هذه هي القضية في الكونغو الديمقراطية وحولها وفي مجمل منطقة البحيرات الكبرى فقط؟! في اعتقاد الكثيرين ان النفوذ الامريكي الكبير في كل من رواندا واوغندا وبورندي, وهي الدول التي ارسلت قوات الى الكونغو لدعم المتمردين. والعداء الامريكي الذي لا يشك احد فيه للنظامين في السودان وليبيا فضلا عن (الاستقلالية) التي تحاول بعض الدول الاخرى في القارة (زيمبابوي وانجولا وناميبيا وتشاد) اتباعها ازاء سياسة واشنطن والنفوذ الامريكي ومارستها عمليا في اعلان دعمها لرولان كابيلا في صراعه مع المتمردين, كل ذلك ادى برئيس الكونغو الديمقراطية للقيام بزيارة طرابلس خارقا الحظر الامريكي المفروض عليها في الاسبوع الماضي كما ادى قبل ذلك الى ارسال قوات مسلحة سودانية, ولو رمزية, الى الكونغو للوقوف الى جانب كابيلا والاعلان عن دعمه في مواجهة المتمردين, وعمليا في مواجهة الولايات المتحدة وسياستها في القارة الافريقية وفي العالم. وفي اعتقاد هؤلاء انه في واشنطن الضعيفة بل وشبه المشلولة داخليا وخارجيا في هذه المرحلة, هذه التي عملت قيادتها قبل اسابيع قليلة فقط على محاولة التغطية على ضعفها وعلى (الفضائح) الجنسية والسياسية لرئيسها بشن عدوان عسكري صريح على اراضي السودان وافغانستان بذريعة (محاربة الارهاب الدولي) وما تصفه بالمساعدات التي تقدم لهذا (الارهاب) في هاتين الدولتين, قد لا يختلف مسار السياسة الامريكية في افريقيا وعموم منطقة البحيرات الكبرى في المستقبل عن مسار السياسة الامريكية نفسها تجاه السودان وافغانستان.. فضلا طبعا عن العراق وليبيا على امتداد السنوات الماضية. على ارض جمهورية الكونغو الديمقراطية تدور في هذه الايام رحى معركة سياسية وعسكرية كبرى يتفق الجميع على انها لا تقتصر على الكونغو وانما تتعداها لتشمل منطقة البحيرات الكبرى كلها, بل وتشمل القارة الافريقية من اقصاها الى اقصاها. وبينما تحاول (الدولة العظمى الوحيدة في العالم) , اي الولايات المتحدة الامريكية, ترتيب اوضاع الكرة الارضية بما يخدم مصالحها ومصالحها فقط في كل مكان وفي كل مجال سياسي أو اقتصادي أو عسكري الخ..., فان خريطة القارة الغنية بمواردها الطبيعية و(الغنية) في الوقت نفسه بالثغرات التي تستطيع واشنطن الدخول فيها (ومنها الى دول القارة وتعدد شعوبها العرقي والاثنى والقبائلي والطائفي. هي التي تبدو موضع نقاش في مراكز صنع القرار السياسية في واشنطن وعلى آرض الكونغو وغيرها ايضا. انها (مرحلة ما بعد الاستعمار) تقول اجهزة الاعلام الغربية في وصف ما يحدث في افريقيا, وهي (مرحلة محاولة الاستعمار العودة الى القارة) , تقول التحليلات السياسية والاعلامية في الدول الافريقية وفي دول ما كان يسمى بالعالم الثالث. وايا تكن التسمية, فمما لا شك فيه ان المرحلة الحالية في القارة السوداء هي مرحلة بالغة الاهمية والخطورة بالنسبة لواقع افريقيا الراهن تماما كما بالنسبة لمستقبلها.

Email