مع الناس: عبد الحميد أحمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

اكتشفنا أمس في زميلنا محمد خالد قدرة خارقة على الصبر ومعها قدرة على إحصاء وقياس أنفاس من نرغب من الناس, فهو جلس أربع ساعات كاملة أمام شريط فيديو الشهادة للرئيس الأمريكي بيل كلينتون , مع مئات الملايين من البشر الذين شاهدوا الشريط في العالم كله, بفارق أنه شغل أدواته من سمع وبصر وتركيز لعد حركات الرئيس, لا للاستماع الى ما يقوله, مع أن ما يقوله مثير وممتع ومسلٍ وفيه كل صفات الإثارة. وهكذا سجل على الرئيس الأمريكي أنه حرك يديه ذات اليمين وذات اليسار نحو 123 مرة, ووضعهما متقابلتين كتلميذ على صدره 19 مرة, وشبك بينهما 43 مرة, وهزهما عشرات المرات, ووضع يديه مطبقتين على فمه وخده 79 مرة, ووضع يده اليسرى على خده إطراقا 26 مرة. وألوم الزميل على تقاعسه واستهتاره بالقارئ في أنه لم يسجل عدد المرات التي هز فيها كلينتون يده, واكتفى بالقول عشرات المرات, ما يضعف من ترشيحي له لكي يعمل عدادا لدى دبي للمواصلات يحصي لها حركة سياراتها في الشوارع, ومع ذلك فلا شك أن الزميل حتى مع هذه الهفوات قدم مادة للقارئ ممتازة رشحتها احتلال موقع القصة الخبرية في الصفحة الأولى, فيها من الفرادة والظرف والمتعة ما تستحق التقدير. وعليه فالزميل يعلمنا جميعا, صحفيين وقراء وبشرا, قيمة الصبر على الشدائد وعن المتع في الوقت نفسه, اتساقا مع القول المأثور الصبر على ما نكره وعما نحب, فيصقل هذا الصبر نفوسنا خير صقل, فهو طلع أولاً من حصيلة صبره بمادة وفيرة للقراءة, وطلع ثانيا انه لم يستمع الى بذاءات الشريط, حيث أشغل نفسه عنها بعظائم الأمور, فنجا على عذريته وطهارته من الخدش. وربما فات القارئ أمس بعض ما أحصاه زميلنا فأعيده اليوم أو أذكره به لكي يعرف ما بذله الزميل من جهد وعرق وتعب, فهو أحصى على الرئيس الأمريكي أنه تجرع الماء 17 مرة من كوب على يمينه ثم تحول عنه الى الكولا ليحتسي منه 21 رشفة من علبة على يساره قبل أن يعود الى الماء مرة أخرى, وأنه لبس نظارته 35 مرة دون داع ولوح بها في الهواء وقبض عليها بقوة ولعقها بفمه مرارا قبل أن يعيدها الى الطاولة. طبعا الذي يحصي على رئيس دولة ويراقبه كل هذه الرقابة يستحق السجن والمحاكمة بتهمة التخابر لصالح دولة أجنبية كما أنه يصلح ايضا للعمل في واحدة من أعتى المخابرات العربية التي تحصي على المواطنين لفتاتهم وأنفاسهم, لولا أن زميلنا صحفي على باب الله كما انه راقب رئيسا على دولة ديمقراطية أباحت وسائل الإعلام في بلده خصوصياته كلها هذه الأيام, ما يجعله في منجى من أي عقاب, وإن كنت أعتقد أن هناك من سيضعه تحت المجهر لما يتمتع به من قدرات خارقة في المراقبة وكتابة التقارير. وزاد من رقابته أنه سجل أن كلينتون مسح فمه بمنديل ورقي ثلاث مرات ونظر الى ساعته مرة وهز رأسه وكتفيه ست مرات وفرك أنفه وعينيه أربع مرات وتنحنح خمس مرات وكح مرة واحدة وتطلع الى السقف مرتين, وطوال الجلسة ابتسم خمس مرات وتململ 17 مرة واعتدل في جلسته 28 مرة وثبت نظراته الى الأرض مرارا, فمن يستطيع العد والمراقبة بهذه الدقة الا من كان موهوبا فتح الله عليه طاقة الصبر ومنحه قدرة التركيز؟ وبما ان الموهبة كنز دفين وصاحب الصنعة لايجوع, فأتوقع لزميلنا أن تتخاطفه فيما لو قرر ترك الصحافة أجهزة المخابرات العربية كلها, لأنها لن تجد من هو أفضل منه وأقدر, أما في حال قررت إحداها اعتقاله وسجنه لأي سبب كان ككتابة مقال مثلاً ضد السلطة, فهي سوف تعجز عن النيل منه, لأنه سيقضي سنوات السجن وإن طالت في إحصاء ورق الشجر من نافذة الزنزانة, وإذا أغلقوها, فسوف يتسلى في عد النمل داخلها.

Email