أبجديات: بقلم- عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

اسوأ عبارة علقت بذهني خلال الايام الماضية كانت: (مجموعة القيم التي يتحدث بها البعض انما يتداولونها من قبيل الاستهلاك لا اكثر, بينما الحقيقة انه لم يعد الكثيرون يعتدون بموضوع القيم على الاطلاق . العبارة سيئة في معناها, خطيرة بنتيجتها, وربما سمعها الكثيرون منا وبصيغ عديدة وفي مناسبات مختلفة, والعبارة تلخص اليوم حالة الفوضى التي تعيشها البشرية على جميع المستويات, حيث لم يعد للسياسة قيم ولا للاقتصاد كذلك ولا لأية سياسات او توجهات, اصبحت هنالك معايير حكم اخرى ليست القيم احداها على الإطلاق. نعلم بالتأكيد اننا نعيش عصر انحسار الاخلاقيات, وسيطرة المادة, ونعلم ان الوزن النوعي للقيم قد طرأ عليه الكثير من التحريف, ونعلم ان الحياة منذ الأزل لم تكن (يوتوبيا) او مدينة فاضلة, ولكن ان نصل الى درجة الإقرار بنهاية عصر القيم, فهذا هو الرعب الحقيقي. حينما قرأت كتاب (بول جونسون) (المثقفون) والذي ترجمه باقتدار الاستاذ (طلعت الشايب) واصدرته (دار شرقيات) بالقاهرة اصابني شيء من الذهول لذلك التناقض الذي عاشته اكبر والمع شخصيات الادب والفن والشعر في القرنين التاسع عشر والعشرين. ان اولئك الذين نقب في سجلات حياتهم ناقد صحيفة (الاوبزيرفر) البريطانية (بول جونسون) كانوا في مخيلة الكثيرين يقتربون من قداسة (التابو) او الرموز المقدسة, لما كانوا ينادون به من مثاليات واخلاقيات فإذا بكل الشعارات التي كانوا ينادون بها لم تتجاوز الحبر الذي سطروه على اوراق الكتب والصحف والدواوين, بينما هم في حقيقتهم مرادف آخر للعربدة والوصولية والشذوذ والخداع والكذب والعجرفة ... الخ. ويبدو ان تناقض وجدلية الفضيلة والرذيلة يسكنان المثقف بشكل اكبر من الانسان العادي, ذلك ان المثقف ماهو الا افراز ظروف ومجتمع معين, وفيه تناقضات الانسان بكل صورها, لكن المطلوب منه, او كما رسم هو لنفسه, فإن عليه واجب صناعة وتكوين توجهات الناس والرأي العام, وهنا يجهد نفسه كي يبدو فاضلا, خاصة وان ادوات الصناعة موجودة لديه وما عليه سوى ان يبدع, ومن هنا يكون تناقضه اعمق واشد وقعا حين يكتشف امره, لانه يتناقض مع نفسه ومع الآخرين بعلم وعن سابق اصرار وترصد. وعليه فقد نتقبل التناقض من الانسان العادي لكننا لا نحترم ابدا المثقف المتناقض, او الرئيس المخادع, او المعلم اللااخلاقي او الصحافي الوصولي... الخ, لان هؤلاء هم رموز الفكر وموجهو الرأي العام والمؤثرون عميقا في الضمير الجمعي للامة, فاذا سقطوا علانية في عمق التناقض فعلى الامة السلام والرحمة. ان المعلم والصحافي والكاتب والرئيس... الخ, الذين يتحدثون عن تحكم القيم المادية وتهافت الناس بجنون وعشوائية على اسواق الاسهم وموائد القمار... ومواخير الفساد, ويفضحون قيم السوق المادية واخلاقيات الصفقات المشبوهة ويحذرون المجتمع من ذلك كله, ثم تلمحهم او تراهم آخر الخارجين من صالات القمار... ومواخير الفساد, هؤلاء يصدمونك عميقا اكثر مما يفعل الشخص العادي الذي لم يصرح انه ضد كذا وكذا! لماذا لا نتسامح مع هؤلاء بينما نمتدح اداءهم وابداعهم؟ لاننا باختصار نشعر بأنهم يستغفلوننا ويستغل الواحد منهم ثقتنا فيه ليبيعنا كلاما نمضغه مع الافطار ونشرب عليه فنجان القهوة وكأنه حبة مخدر لا اكثر. هل انتهى عالم القيم فعلا؟ اتمنى ان يكون الاستنتاج خاطئا والتعميم غير وارد, لانه لو صح وانتهت القيم فعلا, فانه لا فائدة ترجى من كل هذا الذي نعمله وننادي به.

Email