أخيرا محكمة جنائية دولية: الدكتور- الحسان بوقنطار

ت + ت - الحجم الطبيعي

أخيرا تمكن مؤتمر روما الذي شاركت فيه أكثر من مائة وخمسين دولة, علاوة على مائتين وخمسين منظمة غير حكومية, من الاتفاق على النظام الأساسي الهادف إلى انشاء ما سيسمى بالمحكمة الجنائية الدولية . ويشكل هذا الحدث لحظة أساسية في مسيرة حقوق الانسان التي قطعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية خطوات ملموسة رغم مظاهر النقص التي ما زالت تعتريها, لا سيما فيما يتلعق بآليات تتميز بالاستقلالية والفاعلية في مواجهة الخروقات المتعددة, ولا سيما تلك التي تهم القانون الدولي الانساني, وخاصة في ظروف الحرب أو الاستعمار, كما هو الأمر بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني الأمرين من الممارسات الاسرائيلية التعسفية, فما هي دواعي انشاء هذه المحكمة, وما هو اختصاصها والقضايا الجدالية التي يطرحها النظام الأساسي لهذه المحكمة؟ أولا: في دواعي انشاء المحكمة؟ لقد دفعت الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الدول الحليفة المنتصرة إلى أحداث محكمتين لمحاكمة مرتكبي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الانسانية. ويتعلق الأمر بمحكمتي نورنبورج وطوكيو, غير ان مهام هاتين المحاكمتين ظلت محدودة ومقتصرة على المتورطين في الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع, فإن المحاولات الدولية الرامية إلى تنظيم مجتمع دولي أكثر استنادا إلى القانون واحترام حقوق الإنسان, خاصة في الظروف الاستثنائية المتميزة بالصراعات الدولية لم تؤد إلى تجنيب الانسانية سلوكات تهدر كرامة الانسان وحقه في الحياة. وهكذا فإن الصراعات المسلحة غير الدولية التي انفجرت نتيجة انهيار المعسكر الشرقي, كما هو الأمر بالنسبة ليوغسلافيا والتي شهدت ارتكاب أبشع الجرائم من طرف المتطرفين ضد المسلمين البوسنيين, والتي اتخذت طابع التطهير العرقي, وابادة الجنس البشري, واغتصاب النساء أو التي تتخذ طابعا اثنيا أو سياسيا كما هو الأمر بالنسبة لرواندا, التي ذهب ضحيتها ما يناهز مليون شخص نتيجة الصراعات العرقية, هذه الأفعال المناهضة لأبسط حقوق الانسان وأهمها الحق في الحياة, كشفت عن عجز المحاكم الوطنية في مواجهة هذه الأعمال المشينة, وكذلك المجتمع الدولي, وأساسا القوى النافذة داخله في التدخل بفعالية لمنع مثل هذه الأفعال أو معاقبة مرتكبيها بشكل فعال. وإذا كانت بشاعة مثل هذه الأفعال قد هزت الرأي العام العالمي بشكل دفع مجلس الأمن إلى احداث محكمتين لمحاكمة المجرمين في الأزمتين السالفتين وذلك بمقتضى القرار 827 الصادر في مايو 1993 الخاصة بيوغوسلافيا, والقرار رقم 955 المؤرخ بـ 8 نوفمبر 1994 الذي أحدث محكمة مماثلة خاصة برواندا. غير انه بعد سنوات من عمل هاتين المحكمتين الخاصتين, يبدو ان الحصيلة ما زالت متواضعة, فبالنسبة للمحكمة الخاصة بيوغسلافيا, والتي يوجد مقرها بلاهاي, فإنها لم تستطع لحد الساعة محاكمة أهم مسؤولين عن الجرائم التي وقعت في البوسنة وهما كراديدتش زعيم الصرب آنذاك, ورئيس أركان قواته ملافيتش, وقد يعود ذلك بالأساس إلى عدم وجود رغبة حقيقية لدى الدول التي تراقب الوضع في البوسنة إلى اعتقال هذين المجرمين, رغم معرفة مكانهما, بل أكثر من ذلك فقد استفادا من تواطئ بعض مسؤولي القوات الأطلسية, وأساسا الفرنسية, بشكل حال دون تقديمهما للمحكمة لحد الساعة. وقد سبق للمدعية العامة للمحكمة , وهي الكندية لويز أربور L. Arbour ان انتقدت هذا السلوك, وفيما يخص المحكمة الخاصة برواندا, والتي يوجد مقرها في اروشا بتنزانيا, فإنها تعرف بطئا كبيرا في معالجة الملفات المعروضة عليها, ويوجد حاليا أكثر من 130 ألف من المتهمين في السجون الرواندية. ينتظرون محاكمتهم في الوقت الذي لم يتم فيه معالجة أكثر من عشرين حالة. ان خصوصية هاتين المحكمتين, وعدم قدرتهما على متابعة كل المتورطين في الجرائم المرتكبة بشكل يجعل احتمال وقوع جرائم أخرى قائما جعل الأمم المتحدة, وكذلك المنظمات غير الحكومية, تضاعف من جهودها لانشاء مثل هذه المحكمة الجنائية, فما هو اختصاصها والمشكلات التي تطرحها. ثانيا: الاختصاص والاشكالات ان قراءة أولية في النظام الأساسي لهذه المحكمة, يبين ان هذه الأخيرة على خلاف المحكمتين اللتين أحدثهما مجلس الأمن للنظر في جرائم يوغسلافيا السابقة ورواندا, تتميز بديمومتها, فهي ليست ظرفية, ومقتصرة على وضعيات تنتهي بانتهائها, بل انها محكمة دائمة تختص في النظر في كافة الجرائم الخطيرة التي تشغل كافة الجماعة الدولية, وتدخل بصفة أساسية ضمنها, جرائم ابادة الجنس البشري, وجرائم العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم الارهاب, والجرائم ضد موظفي الأمم المتحدة, والجرائم المرتبطة بالاتجار في المخدرات والعقاقير, وقد عرف المشروع أنوع هذه الجرائم, والأعمال المختلفة التي تدخل ضمنها, ومن المواضع ان كل هذه الأفعال المجرمة قد ادانتها مجموعة من المواثيق والاتفاقيات الدولية, ولا يمكن ان تتولى المحكمة النظر في مثل هذه الجرائم إلا إذا ثبت ان المحاكم الوطنية لا توجد, أو أنها ترفض تحمل مسؤوليتها في هذا الاطار فحسب الاتفاقيات الدولية المشار إليها, فإن الدول مطالبة باتخاذ الاجراءات اللازمة لردع مثل هذه الأعمال. ومن ناحية تحريك مسطرة المتابعة ينص المشروع على ثلاثة ميكانيزمات: فقد يتم ذلك إما بناء على شكوى من احدى الدول الأعضاء, أو قد يتم بناء على طلب مجلس الأمن, وأخيرا قد يتم بمبادرة من المدعي العام للمحكمة نفسها. وفي الواقع فإن النقاش الأساسي الذي استأثر بأعمال هذا المؤتمر , إنما يتمثل في تحديد العلاقة القائمة بين المحكمة وبين الدول, بالأساس مع مجلس الأمن, فهناك بعض الدول ومن بينها ألمانيا وكندا دافعت عن ضرورة اعطاء قضاة المحكمة استقلالية كاملة فيما يتعلق بمسطرة المتابعة والمحاكمة, وهذا يعني ان هذا الجهاز القضائي لا يمكن ان يبقى رهين ارادة مجلس الأمن الذي يعطي له الضوء في المتابعة, فالمدعي العام للمحكمة ينبغي ان يتوفر على الاستقلالية والنزاهة التي تمكنه من متابعة مرتكبي الأفعال التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة, وهذا لا ينفي ضرورة البحث عن توازن مقبول ومعقول بين مجلس الأمن والمحكمة بشكل لا يعرقل عمل كل واحد منهما, وخاصة إذا كان مجلس الأمن قد اتخذ الاجراءات اللازمة في هذا الاطار. غير ان هناك مجموعة من الدول, وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وبعض الدول الأخرى كما هو الأمر بالنسبة لليبيا, لا تشاطر هذا التحليل لاعتبارات متباينة, فهي تريد ان تعطي لمجلس الأمن حق النظر في أعمال المحكمة, ومعنى هذا انه لا يمكن للمحكمة ان تتابع إلا إذا وافق على ذلك مجلس الأمن, وهو الأمر الذي يمكن هذه الدول من عرقلة كل اجراء باستعمال حق الفيتو, بل أكثر من ذلك قد يترتب على ذلك تسيس المحكمة من خلال اقرار سياسة الكيل بالمكيالين التي تعاني منها الكثير من الدول. ووراء هذا الموقف هناك تخوف هذه الدول من احتمال قيام المحكمة بمتابعة أشخاص من هذه الدول بسبب تواطئهم مع مرتكبي هذه الأفعال, وبالتالي فإن هذا الأمر يمكن ان يضرب بقوات حفظ السلام العاملة تحت اشراف الأمم المتحدة بفعل تعرض أعضائها للمتابعة من طرف المحكمة بسبب تصرفاتهم المخالفة لوظيفتهم. يرتبط بهذا الجدل مشكل آخر تكمن في تخوف بعض الدول من احتمال لجوء المحكمة إلى القوات المسلحة لبعض الدول الأعضاء لاعتقال بعض المتهمين, وهو الأمر الحاصل حاليا حيث يدعو البعض إلى استعمال قوات الحلف الأطلسي لمحاكمة بعض مجرمي الحرب الصرب, وكذلك الضغوط التي يمارسها الكونجرس الأمريكي, من أجل محاكمة الرئيس العراقي صدام حسين بوصفه مرتكب جريمة العدوان , بسبب اجتياحه للكويت. لا ريب في ان مناقشات المؤتمر لم تخل من خلفيات واعتبارات سياسية, فاسرائيل مثلا حاولت ما أمكن ان تمنع بندا في النظام الأساسي يعتبر من قبيل جرائم الحرب قيام قوة محتلة بنقل جزء من سكانها المدنيين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة داخل الأراضي التي تحتلها, لكنها لم تفلح في ذلك, في نفس الوقت فقد أخفت الولايات المتحدة في الأدراج بند في النظام الأساسي يمنع المحكمة من اجبار أي شخص من المثول أمامها ما لم توافق دولته على ذلك. والجدير بالملاحظة ان أمريكا وجدت نفسها معزولة بسبب تبني حلفائها الغربيين لمواقف أكثر ايجابية في اتجاه انشاء محكمة أكثر استقلالية, وتطلعا نحو الفعالية, والأدهى من ذلك. فقد صوتت الولايات المتحدة في نفس اتجاه دول ظلت تصفها بأعداء حقوق الانسان, كما هو الأمر بالنسبة للصين وليبيا وكوبا. لكن رغم الصراعات التي شهدتها أروقة المؤتمر فإن المهم هو التوصل إلى تسويات مقبولة من طرف الجميع لا تفرغ المحكمة من محتواها, بل لابد من خلق هذا الجهاز القضائي الذي تتطلع الجماعة الدولية إلى استحداثه للمساهمة في ردع كافة الأفعال التي تناهض ابسط حقوق الإنسان وفي مقدمتها الحق في الحياة, والحق في الكرامة, ومن شأن تحقيق هذا الهدف ان يساهم في تدعيم العدالة الدولية التي ما زالت لحد الساعة لم تلعب بشكل ناجع الدور المنوط بها. وإذا كان لا مناص من الاقرار بأهمية, وتثمين حدث تأسيس محكمة جنائية دولية يمكن ان تساهم في التقليص من حدة الجرائم المرتكبة ضد الانسانية, فإنه واضح انه من السابق لأوانه التنبؤ بدور المحكمة, ومدى فعاليتها في القيام بالاختصاصات المنوطة بها, فهذا الأمر يبقى رهينا بارادة الدول, وبالكيفية التي ستشغل بها المحكمة, وكذلك الامكانيات التي ستتوفر لها لمزاولة اختصاصاتها, لا سيما فيما يتعلق بالادعاء والمتابعة والمحاكمة. فلنرحب بانشاء هذه المحكمة, ولننتظر ممارستها لتقييم دورها في النظام القضائي الدولي. استاذ العلاقات الدولية, كلية الحقوق , جامعة محمد الخامس, الرباط, المغرب*

Email