من أين تبدأ دينامية لبننة الاستحقاق الرئاسي؟ نصير الأسعد

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكل اعلاني النائب بطرس ترشيحه لرئاسة الجمهورية مقرونا ببرنامجه, خطوة تتمحور حولها التعليقات والمواقف السياسية, إذ حركت الركود المحيط بالاستحقاق الرئاسي, ولعل تحريك الركود هو ما سعى إليه وأقصى ما يمكن بلوغه بالفعل ماذا يمكن ان يقال في هذه الخطوة, وبالأصح كيف يمكن مقاربتها؟ من المعروف في هذا المجال ان الدستور لا يفرض الترشيح لرئاسة الجمهورية ولا يفرض اعلان برامج الترشيح تاليا, كان ذلك في (الجمهورية الأولى) , واستمر في (الجمهورية الثانية) بعد الطائف (المنطق) في هذه المسألة يقول ان الرئيس ــ في لبنان ــ لا يحكم ببرنامجه ومشروعه لأن النظام ليس رئاسيا, والبرنامج هو برنامج الحكومة التي تتقدم به إلى المجلس النيابي فإما ان تعطي الثقة على أساسه أو تحجب عنها الثقة. خطوة غير تقليدية غير انه من الواضح ان امتلاك رئيس الجمهورية ــ العتيد ــ لرؤية متكاملة إلى هذا الحد أو ذاك حيال قضايا الوضع اللبناني, أمر في غاية الأهمية إذ لا يصح ان يترأس الحكم بغير رؤية تفيد عن الوجهة التي سيسعى إلى تنفيذها من خلال المؤسسات الدستورية, الترشيح فعل سياسي, ومقام رئاسة الجمهورية يستحق ان (يتعب) له المشرح فيتقدم بترشيحه, فإذا كان الوصول إلى أي موقع من مواقع النظام والدولة يفرض التقدم بترشيح, وإذا كان المرشح إلى أي موقع مطالبا بتوضيح برنامجه الذي يتقدم بالترشيح على أساسه, فكيف والموقع المطروح اليوم هو رئاسة الجمهورية بالذات؟ بهذا المعنى فإن اعلان النائب حرب ترشيحه ــ وبرنامجه ــ إنما يميط اللثام عن عطب أساسي في (الديمقراطية اللبنانية) , عطب تحرر الساعي إلى رئاسة الجمهورية من أي (التزام) مسبق.. وهذا ما حدا بالعديدين من قادة الرأي في لبنان إلى المطالبة بتعديل المادة 49 من الدستور لجهة فرض الترشيح ضمن مهلة زمنية محددة, الأمر الذي يؤدي تطبيقه إلى جعل إعلان البرامج مسألة طبيعية, ومن جهتنا, نرى ان مثل هذا التعديل لهذه الجهة منطقي وذو معنى ديمقراطي فعلا. اقدام حرب على اعلان ترشيحه وبرنامجه الرئاسي يشكل كسرا لـ (تقليد) بائس على هذا الصعيد, فضلا عن انه يكشف العطب المشار إليه, لكن للخطوة الشجاعة ابعادا اضافية, فهي تكسر قاعدة السرية وتنقل الاستحقاق الرئاسي إلى العلنية, تنقل البحث في الاستحقاق من الكواليس على أنواعها إلى العلن, إلى دائرة الرأي العام اللبناني, بكلام آخر, ان هذه الخطوة تستحث الساعين إلى رئاسة الجمهورية للخروج إلى دائرة الضوء وللخروج عن القاعدة (الذهبية) الصمت زين وسلامة, تزيد حظوظك الرئاسية كلمات أوغلت في الصمت والعلاقات (الفوقية) وليس كلما ترهنت ان لك نفوذا شعبيا مؤسسا على رؤية للبلد! ومن (فضائل) خطوة حرب أيضا انها تحرك حوارا مطلوبا بين المرشح لرئاسة الجمهورية واللبنانيين, ما ينطوي على فكرة جعل اللبنانيين كتلة ضاغطة وذات وزن وتأثير في مجرى هذا الاستحقاق الدستوري, على اعتبار ان خروج الترشيحات إلى العلن يطلق دينامية حوار.. ومفاضلة في المطاف الأخير. (الخارج) في لبنان نرحب إذن بإعلان بطرس حرب ترشيحه وبرنامجه استنادا إلى كل الحيثيات الآنفة من غير ان يعني ذلك أننا بالحدود التي لنا رأي فيها ـ نرى انه الرئيس (الأفضل) للبنان في المرحلة المقبلة, فذلك شأن آخر على كل حال, وعليه فإننا إذ نحترم هذه الخطوة نقدر ابعادها تقديرا كبيرا. على ان عددا من التعليقات السياسية على هذه الخطوة وقع في كم كبير من المبالغات السياسية التي نخال ان المرشح بطرس حرب نفسه ليس مقتنعا بها. من المبالغات السياسية مثلاً القول ان اعلان حرب ترشحه وبرنامجه, سيفرض أو هو سيؤدي إلى سيادة صراع البرامج بين المرشحين! هذه مبالغة بامتياز, ففضلا عن ان الدستور لا يحتم ذلك في أية صورة من الصور, لا يمكن افتراض ان المرشحين الآخرين شبه السريين أو شبه العلنيين سيقدمون على إعلان ترشيحاتهم وبرامجهم طالما ان هذا (الممر) غير ضروري, لذلك من الأصح القول ان خطوة حرب (تحرج) المرشحين الآخرين إلى حد معين من غير ان تفرض عليهم شيئا.. ومن المستبعد تاليا ان نشاهد صراع برامج محددة. غير ان قمة المبالغات السياسية التي رافقت اعلان النائب حرب ترشيحه وبرنامجه, تتجسد في القول ان خطوته أدت إلى (لبننة) الاستحقاق الرئاسي, بمعنى ان هذا الاستحقاق بات أمرا يقرر بطريقة لبنانية صرفة, وانه لم يعد هناك من مكان لما يسمى كلمة السر الخارجية. ان هذا الموضوع ــ أي اللبننة ــ يحتاج إلى مناقشة بتلبنن الاستحقاق الرئاسي عندما يستعيد (الداخل) اللباني وزنه وتأثيره, عندما يتحقق ما نسميه السياق الطبيعي لانتاج السلطة في لبنان. الموضوع متصل إذن بمسار الداخل اللبناني ومصيره. ثمة ـ تاريخيا ـ اشكالية داخل ـ خارج في لبنان في امتداد اشكاليات الداخل كافة, بمعنى انه كان دائما للخارج تأثير (ما) في لبنان, غير ان هذه المشكلة أو الاشكالية لم تطرح بهذه الحدة السياسية إلا عندما فقد الداخل مناعته وتأثيره تاليا, فقدانا شبه كامل حتى لم يعد مركز لبنان في داخله, لا نرغب هنا في الاسترسال طويلا في الأسباب التي أدت إلى ذلك قبل الحرب وفي الحرب ونتيجة للحرب, ولا نتردد هنا في القول ان تعمق هذه المشكلة أو الاشكالية هي مسؤولية لبنانية بالدرجة الأولى, ولنلاحظ معا هنا ان الصيغة الحالية منذ الطائف, وتحت عنوان التوازن الطائفي الذي لا يتحقق في النهاية انتجت (ترويكا) بكل من عنته من اهتزاز للاستقرار السياسي, وحتمت وجود حكم خارجي باستمرار. نقول إذن ان استعادة اللبننة في الاستحقاق الرئاسي وغيره, عملية لا يلخصها اقدام المرشحين إلى الرئاسة الأولى على الترشح.. انها عملية (تاريخية) ليست بهذا التبسيط على الاطلاق, وعندما نقول اللبننة, لا نقول إلغاء التأثير الخارجي إلغاء مطلقا, لأن الجيوسياسية) لها أحكامها ليس في لبنان فقط بل على نطاق العالم كله.. لكننا نقول ان اللبننة تعادل إلى حد كبير غلبة تأثير الداخل اللبناني. التسوية التاريخية وبما اننا في صدد مناقشة تتوخى (العمق) نسأل هل مسيرة استعادة اللبننة أو التلبنن تبدأ من خروج سوريا من لبنان أو تخليها عن دورها فيه ام ان لها بداية أخرى صحيحة؟ نسأل هذا السؤال في سبيل ان لا نرمي المشكلة في مكان آخر.. ونضيف: هل كان اللبنانيون المتشكلون جماعات طائفية واحزابا غير كيانية, خارج المساهمة التاريخية في التأسيس لما نسميه الانكشاف على الخارج؟ ألم تكن الحرب الأهلية التي يرفض كثيرون أنها كانت أهلية محطة ـ لبنانية ــ في هذا الانكشاف؟ من البديهي اننا جميعا نريد للبننة ان تستأنف مسيرتها , ولكن السؤال الصحيح غالبا ما يقود إلى الجواب الصحيح, ان السؤال في العمق ليس عن (تناقضات) لبنانية يمكن لهذه الجهة أو تلك ان توظفها, إنما السؤال هو عن قدرة اللبنانين على ان يحكموا أنفسهم بأنفسهم , عن امكانية اتفاقهم على صيغة ومعادلة جديدتين, السؤال ليس أقل من ذلك فعلا, ذلك ان الصيغة القائمة على فيدرالية أو كونفيدرالية طائفية لا تحل هذه الاشكالية موضوع بحثنا, فالأمر يتعلق أولا وأساسا بهذه القدرة اللبنانية. من هنا بالضبط تبدأ مسيرة اللبننة, من التسوية التاريخية بين اللبنانيين على الكيان والصيغة, لأن اللبننة هي هذا ولا شيء ذا معنى قبل ذلك فعلا, فهل ان تغيير النظام السياسي لجعله رئاسيا, كما يقترح المرشح بطرس حرب يحل المشكلة والاشكالية؟ سيقال ان جعل النظام رئاسيا بما يؤدي إلى انتخاب رئيس الجمهورية باقتراع شعبي مباشر, سيجعل الشعب هو الحكم, ويلبنن الاستحقاق الرئاسي ويقود في لبننة كل شيء, هل في غياب التسوية الجادة بين اللبنانيين ما يحقق اللبننة المنشودة؟ وهل إذا باتت الانتخابات تجري على نطاق (واسع) بدلاً من ان تجري على نطاق (ضيق) في مجلس نيابي محدود العدد, يصبح الأمر ملبننا بالفعل؟ نسأل عن كل هذا ولا نغفل أسئلة أخرى, إذا كان لابد من اعتماد النظام الرئاسي, فلماذا اشتراط ان يكون الرئيس مارونيا اذ ذاك؟ هل يحل اعتماد النظام الرئاسي مع تحديد طائفة الرئيس مشكلة ان الرئيس الماروني ستنتخبه (أكثرية) مسلمة؟ هل يحل مشكلة ان رئيسا قويا مسيحيا قد لا ينتخب؟ أليس النظام الرئاسي مرتبطا إلى حد كبير بإلغاء الطائفية السياسية؟ وهل بات إلغاء الطائفية السياسية ممكنا في الظروف الحاضرة من غير خطر الوقوع في طائفية سياسية أخرى؟ أليس الموضوع كله مرتبطا في النهاية بالتسوية التاريخية المرجوة؟ إلخ.. وبعد كل هذه الأسئلة يبرز سؤال وجيه: أليس بالامكان ان يكون للبنان حتى ضمن ظروفه الحالية المعروفة رئيس مسيحي قوي بمعنى ممثل جاد لبيئته يوازن تمثيل سائر الرؤساء لبيئاتهم, ويعيد المسيحيين إلى المعادلة السياسية كخطوة أولية أولى؟ وهل في ذلك ما يتناقض مع النظام الديمقراطي البرلماني؟ قانون ديمقراطي لانتخابات عام2000 في العودة إلى البداية قلنا ان أضخم مبالغة سياسية في التعليق على اقدام النائب بطرس حرب على إعلان ترشيحه وبرنامجه تمثلت في القول ان هذه الخطوة تؤدي إلى لبننة الاستحقاق الرئاسي, وقد حاولنا على امتداد ما تقدم ان نفسر ما هية هذه المبالغة الضخمة, قلنا ان استعادة اللبننة عملية تاريخية كبرى لتحديد وزن الداخل اللبناني وتأثيره ولكننا لا نريد هنا ان يفهم من كلامنا أننا نسقط تلقيائا كل الخطوات الصغيرة ولكن المهمة في مسيرة الألف ميل. وفي اعتقادنا ان (أم الخطوات) هذه قانون ديمقراطي للانتخابات النيابية بحيث ينبثق منها مجلس نيابي وافي التمثيل يشكل نقطة انطلاق السياق الطبيعي لانتاج السلطة في لبنان, وبالمناسبة لم يقدم المرشح بطرس حرب شرحا كافيا لاعتباره ان جعل المحافظة دائرة انتخابية هو من ضرورات الديمقراطية, نفهم حرصه على تطبيق الطائف الذي ينص على المحافظة, لكننا لا نفهم هذا التمسك من دون حيثيات ديمقراطية وازنة فعلا. القانون الديمقراطي للانتخابات النيابية التي ستجرى عام 2000, والذي يتيح مشاركة شعبية تنتج اختيارات غير مضبوطة سلفا يشكل مفصلا مهما, وقبله انتخاب رئيس مسيحي قوي قوة سائر الرؤساء.. خطوات مهمة من المسيرة التي سعينا إلى تعيينها. خطوة بطرس حرب جدية وجريئة.. لكنها لن تغير الآن في الواقع شيئا ملموسا لا نقلل منها لكننا نرى لها حدودا.. وهو نفسه إذا كان يريد ان يصل إلى رئاسة الجمهورية فممره كلمة السر وكواليسها, خطوة بطرس حرب لا تعدو كونها اعلان نية.. غير ان الموضوع يتصل بالدينامية اللبنانية المطلوبة لاستعادة الداخل ووزن الرأي العام, اتاحت لنا خطوة حرب المساهمة في كشف عدد من المسائل الجوهرية.. ولا بأس كما قال أحد الزملاء في ان يشكل إعلان حرب ترشيحه وبرنامجه تقاطعا بين مصلحة سياسية للنائب ومصلحة عامة في التأثير على جوهر ما يشكو منه لبنان, وبهذا المعنى قاربنا هذه الخطوة الرمزية التي حركت المشهد السياسي .. فحسب! كاتب لبناني

Email