كشف الغمة عن الحالة العراقية - يوسف الشريف

ت + ت - الحجم الطبيعي

تثير(الحالة العراقية)يوما بعد يوم مزيدا من الأسى والاحباط القومي على كل صعيد , وها هي وسائل الاعلام تطالعنا تباعا بصور وأخبار الجنازات الجماعية لموتى الأطفال نتيجة شح الألبان والأدوية وأمصال التطعيم الوقائية من الأمراض, والكبار ايضا على شاكلة الاطفال يداهمهم الموت والضعف والهزال وأمراض البلاجرا والبربري والإسقرابوط, ويضطرون الى بيع الأثاث والملابس والمغتنيات وحتى الكتب لعلهم يحصلون في المقابل على 25% من الغذاء لعله يقيم أودهم! والحديث عن كم وألوان المآسي الانسانية التي يتجرع الشعب العراقي مرارتها, تتضمنها شهادات وتقارير المنظمات الدولية والأهلية, وليست من قبيل (البروباجندا) العراقية الدعائية, لكن أمريكا لا يهمها في كثير أو قليل ان ترى وتسمع أو تقرأ, وإنما ممارسة كافة اساليب الازلال والتجويع والحصار, لعلها تسفر في النهاية عن اندلاع الثورة والانقلابات التي تطيح بالرئيس صدام حسين, رغم اجماع المراقبين على ان المحنة لم تنجح ولن تنجح في فصم الشعب العراقي عن قيادته, وان الرهان الامريكي على زعزعة إيمانه بعدالة قضيته محكوم بالفشل سلفا, وإلا لما كان رفض معظم فصائل المعارضة العراقية والكردية الشريفة الوقوع في دائرة الترغيب الامريكي الذي يسيل له اللعاب, للمشاركة في تنفيذ مخططاتها المشبوهه لعزل صدام حسين بالقوة! وإذا كان لكل مشكلة أصل وفعل وسبب أو مبرر, فلا شك ان (الحالة العراقية) وصلت الى ما وصلت اليه من التدهور, لأن صدام حسين استباح الكويت من منظور تاريخي خاطىء كونها أرض عراقية ناشزة يتعين استعادتها الى الوطن الام طال الزمن أم قصر, وقد ساهمت ظروف وملابسات شتى في خيار التوقيت ونفاذ سهم القدر, وحدث ما حدث ولا راد لقضاء الله, ثم عاد العراق الى مرافىء العقلانية أو الواقعية واعترف للكويت في وثيقة دولية مشهرة بسيادتها على أراضيها ولم تعد مطمعا ولا مطلبا عراقيا امس واليوم وغدا! حول تلك الظروف والملابسات يصدر في غضون الايام القليلة المقبلة كتاب وثائقي في بغداد يعرض لوجهة النظر العراقية ازاء غزو الكويت واندلاع حرب الخليج عام 1990, بداية بما دار من حوار بين الرئيس صدام حسين والسفيرة الامريكية في بغداد ايريل جلاسبي خلال لقائهما يوم 25 يوليو 1990, وبعده بأسبوع واحد كان اجتياح القوات العراقية للكويت, ولعل الكتاب يفسر الغموض ويقطع الشك باليقين ازاء الجدل المثار حول هذا اللقاء, وإلى أي مدى كان تورط أمريكا في عملية التحريض المباشر على غزو الكويت, أو مجرد السكوت دون اعتراض ولا تحذير بعدما عبر صدام حسين عن سخطه وكشف عن نواياه المبيتة, كون السكوت علامة الرضى ودليل الموافقة, خاصة وان ردود الفعل السلبية التي صدرت عن السفيرة الامريكية, لا يمكن استبعادها في سياق سبر أغوار الوقائع وتحليل مضامينها, باعتبار ان جلاسبي تمثل وجهة نظر بلادها ومصالحها في المنطقة! والمعروف ان الرواية التي نشرتها وسائل الاعلام الامريكية في حينها, تؤكد على ان الرئيس العراقي لم يتخذ قراره باجتياح الكويت, الا بعد ان أدرك غياب الموقف الامريكي, وان تهديداته لم تقابل برد فعل حاسم من قبل السفيرة الامريكية ينم عن معارضة أكيدة. ورغم ان الكتاب المرتقب لا يزال قيد المراجعة ولم يجر توزيعه في المكتبات بعد, الا ان وكالة الانباء العراقية اشارت الى ان صدام حسين قال للسفيرة الامريكية في وضوح وعبارات دقيقة لا تحتمل اللبس والتأويل, ان صبر العراق قد بلغ منتهاه, ولن يقبل على الاطلاق وبدرجة مضاعفة ان يخل أحد بكرامة وحق الشعب العراقي في حياة كريمة ومزدهرة بعد كل ما قدمه من تضحيات جسيمة دفاعا عن سيادة الامة العربية وكرامتها. وذكرت وكالة الانباء العراقية لمحات مقتضبة مما دار في لقاء سابق بين الرئيس العراقي والقائم بالاعمال الامريكي في بغداد أول سبتمبر 1990, وأكد له ان العراق ليست لديه أية نوايا عدوانية تجاه السعودية وخاطبه قائلا: (اذا كنتم قلقون على السعودية فإن قلقكم غير واقعي, اما اذا كنتم تتظاهرون بالقلق لكي تقلق السعودية بالتالي فهذا شأن آخر) وأضافت الوكالة ان الكتاب الوثائقي الذي يعرض لوجهة النظر العراقية ازاء ازمة الخليج, يتناول بالشرح والتفصيل لوقائع الحرب التي شنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وأسفرت عنه من إخراج العراق من الكويت, وفصل خاص تحت عنوان (صفحة الغدر والخيانة) في اشارة الى التمرد الذي شهدته المنطقة الجنوبية من العراق وكردستان نهاية أزمة الخليج! والحقيقة ان صدور هذا الكتاب الوثائقي في هذا التوقيت العصيب الذي وصلت اليه (الحالة العراقية) يندرج ولاشك تحت عنوان المراجعة ونقد الذات من جانب بغداد ازاء موقفها من أزمة الخليج, ولعله يحمل في ثناياه ودوافعه هدفين اساسيين: الأول: إلقاء الضوء على الجوانب الخفية التي لا تزال مثارا للجدل والاجتهاد والخلاف حول ازمة الخليج من وجهة النظر العراقية من جهة, وتعرية الدور الامريكي من احتمائه بالشرعية الدولية ودوافعه النبيلة ازاء تحرير الكويت من جهة اخرى, وان التحريض الامريكي كان موصولا بالاستراتيجية الامريكية الكونية في ظل النظام الدولي الجديد للهيمنة على قدرات العالم, وبلوغ نهاية اشواط الحلم الامريكي الذي ظل يطمح الى مجرد موضع قدم على مقربة من أضخم احتياطي نفطي في العالم, وتمويل نفقات القوات الامريكية من موارده, من هنا يأتي حرص امريكا وإصرارها على استمرارية الحصار والعقوبات المفروضة على العراق, رغم امتثاله لعمليات التفتيش على حيازته لأسلحة الدمار الشامل على مدى ثماني سنوات متصلة! الثاني: ان كتاب العراق الوثائقي من شأنه رفع الالغام التي تعترض طريق المصالحة القومية المنشودة بين العراق والكويت, اذا ما نجح في كشف الحقائق حول مصير الأسرى الكويتيين على نحو موضوعي يقنع الكويت ببراءة ذمة العراق, سواء حصر اسماء من راح منهم ضحايا الحرب, أو كان اختيارهم البقاء في العراق بمحض ارادتهم, وعندئذ سوف تنزاح واحدة من العقبات الكأداء التي با تزال تعطل انعقاد القمة العربية وإنجاز المصالحة العربية الشاملة, ايذانا بالتحشد القومي لمواجهة القضايا المصيرية الكبرى. والشاهد ان العراق لم يأل جهدا في استعادة علاقاته العربية والاقليمية والدولية سابق مصداقيتها وشفافيتها, وهو ما يعزز مواقفه ومطالبه المشروعة على صعيد رفع العقوبات الدولية, والالتزام العادل بتنفيذ قرار الامم المتحدة الخاص بالغذاء والدواء مقابل النفط, وتوفير قطع الغيار ومستلزمات منشآته النفطية, وقد انفتحت أبواب المصالحة مع ايران مؤخرا عبر تبادل الاسرى والشروع في ترسيم الحدود المشتركة, والعلاقات مع الاردن تجاوزت مرحلة الملاحقات العدائية وعادت الى ديمومة المصالح والمنافع المتبادلة, ورغم تراكم الخلافات السياسية والعقائدية على مدى يزيد على ربع قرن بين العراق وسوريا كونهما فصيلين ينتميان الى فكر البعث, الا ان ضرورات التعاون بينهما في مواجهة تغول تركيا على أنصبة الدولتين من مياه نهر الفرات, كانت مدخلهما الى الولوج نحو تفعيل المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المشتركة, حيث بلغت قيمة مبيعات سوريا من الغذاء والدواء للعراق 74 مليون دولار, وجاري الآن تشغيل خط الانابيب لنقل البترول العراقي الى ميناء بانياس السوري وليس عبر ميناء البكر فحسب. لكن تظل امريكا تقف بالمرصاد للعراق وتتوعده بمزيد من العقوبات وإلى حد التهديد باستمرارها الى الابد ان لم يتراجع عن رفضه الاذعان للتفتيش الدولي الى ما لا نهاية, بعدما تأكدت عمالة المفتشين الدوليين لأمريكا وتسريبهم لأسرار مهمتهم في العراق الى اسرائيل تباعا, باعتراف صريح من هنري شيلتون رئيس هيئة الاركان المشتركة الامريكية الذي أكد على قيام سكوت ريتر مساعد كبير المفتشين الدوليين بهذه المهمة. وإذا كان العراق قد حقق واحدا من جولات انتصاراته على امريكا في قمة دول عدم الانحياز التي انعقدت في جنوب افريقيا مؤخرا عبر الدعوة الى رفع الحصار ووقف عمليات تركيا العسكرية شمال العراق, وإدانة حظر الطيران في جنوبه وشماله, فإن العبء الأكبر يقع على العراق أولا ازاء ضبط النفس وخياره للنضال السياسي, و التمسك بنهج العقلانية والمراجعة ونقد الذات, وذلك ما نشده في كتابه الوثائقي ازاء استجلاء صورة مواقفه قبل وبعد ازمة الخليج, وإلى حين صدوره لكل حادث حديث! صحفي مصري*

Email