قضايا تصنع المستقبل: من شهودي - الجنرال ديجول وسارتر: بقلم - رجاء جارودي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما صدرت دراسة بعنوان (المحرقة اليهودية)في شكل ملف عن جريدة(لومند دبلوماتيك)شهر أغسطس ,1998 وقع تصنيفي ضمن قائمة من تسميهم الجريدة (المراجعين) Revisionnistes أي أولئك الذين يشككون في وجود المحرقة اليهودية على أيدي النازية, وهذا يمثل بهتانا أستنكره, فأنا لا أنفي اضطهاد اليهود بل أنا ضحية من ضحايا الاحتلال النازي لفرنسا وأغلب أصدقائي من المضطهدين اليهود, لكن كفاحي يهدف إلى عدم توظيف هذا الاضطهاد لانجاز اضطهاد آخر ضد شعب فلسطين أو الشعوب العربية الأخرى مع اعادة النظر في حجم الاضطهاد ليندرج ضمن ممارسات النازية ضد قوميات أخرى وشعوب مختلفة. وقد ذكرت من بين شهودي رجالا اعترفوا لي في الماضي وفي الحاضر بعدالة مواقفي وإنسانية توجهاتي, وأرى في هذه الظروف ان استعرض شهادات من رجال ساندوني وحيوني في ظروف سابقة كنت فيها منتميا إلى قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي., فرجل زعيم مثل الجنرال شارل ديجول لا يتطرق الشك إلى كفاحه الطويل والمنتصر ضد النازية الألمانية والاحتلال وهو يعتبر قائد معركة تحرير فرنسا والمساهم الأكبر في انهيار النازية وهزيمتها. كتب لي في 12 فبراير ,1958 منذ أربعين عاما بعد أن طالع كتابي الذي صدر في ذلك التاريخ بعنوان (الإنسانية الماركسية) وفيه تحليل لما يمكن أن ينقذ الفكر الماركسي من الالحاد وعنف حرب الطبقات وما يمكن أن يجعل منه منهج تقدم بواسطة العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الخيرات. وقال لي الجنرال ديجول في رسالة بخط يده: (لقد طالعت كتابك (الإنسانية الماركسية) بالاهتمام الذي تتطلبه الأفكار المطروحة فيه وبالتقدير الذي يستحقه اقتناعك بهذه الأفكار وقد تأثرت شخصيا شديد التأثر خاصة بالعبارات الرقيقة التي تضمنها اهداؤك. وأرجوك يا عزيزي جارودي ان تثق في عواطفي القلبية والذكرى المخلصة التي احتفظ بها عنك...) . وهكذا فزعيم مثل ديجول, عرف عنه عداؤه للشيوعية, وبخاصة في عام 1958 حيث كان يستعد لتحمل مسؤوليات رئاسة الجمهورية الفرنسية, يطالع كتابي حول الشيوعية ذات الوجه الإنساني ويحييني بهذا الأدب المعروف عنه ولم يصنفني ضمن غلاة الشيوعية أو المنظرين المتطرفين. وهي شهادة أعتز بها ونشرتها في كتابي (شهودي الصادر عام 1998) . أما الشهادة الأخرى فمن أكبر فلاسفة فرنسا, الراحل جون بول سارتر الذي رفض جائزة نوبل ولم يتقاض مكافأتها والذي ظل مفكرا حرا إلى يوم مماته لم يهادن ولم يجامل. لقد اشتركت مع جون بول سارتر في عقد ندوات فكرية وجامعية منذ يوم السابع من ديسمبر 1961 في قاعة (لاموتواليتي La Mutualite) الشهيرة بحضور آلاف الجمهور المثقف وكان موضوع تلك الندوات هو (الشيوعية والوجودية) وأصدرت دار النشر (بلون) حصيلة تلك الندوات والمداخلات عام 1962. وكان سارتر يراسلني في مرحلة الاستعداد للندوات ونتطارح معا قضايا تهم فلسفته الوجودية وعلاقتها بالمذهب الماركسي وتقييمها للأديان ومواقفها من التزام الإنسان وسعادته ونظريات سارتر فيما يتعلق بهيكلة المجتمع. ويقول سارتر في رسالة بعثها إلي مؤرخة في 13 يناير 1956 (أنا سعيد بأن أناقش معك أنسب الوسائل التي تجعلنا نحلل الإنسان وهو يقف حيال المكيفات الاجتماعية ويضع لها تصوراته الخاصة ويتحرك بمقتضاها... وانني أدعوك حتى نحدد مناهجنا ونكتشف معا إلى أي مدى هي متكاملة...) . وقد كتب إلي سارتر هذا الكلام قبل سنوات من عقد ندواتنا, وقد كان في عام 1956 يعد دراسة فلسفية ضانية عن الروائي الفرنسي الشهير (جوستاف فلوبير Gustave Flaubert) الذي عاش في القرن التاسع عشر, وأنا أمتلك إلى اليوم الصفحات الأولى من تلك الدراسة بخط يد جون بول سارتر. وهذه الدراسة حول فلوبير كان سارتر يهدف من ورائها اثبات ان المحيط الثقافي والسياسي والاجتماعي للكاتب هو الذي يحدد اتجاهاته ويؤطر عبقريته. وقد قال لي سارتر في نفس الرسالة (13 يناير 1956) ما يلي: (من غير شك ان شاعرا مثل (شارل بودلير charles Baude Laire) لم يكن بامكانه أن يصبح (بودلير) الذي نعرفه لو عاش في القرن الثامن عشر مثلا, وهذا ما أكدته في كتبي (الإنسان والعدم) وفي مواقفي. فالمهم هو أن نحلل المكيفات الاجتماعية للعبقرية, وأنا أدعوك لنجري حوارات حول مفهومك ومفهومي للمكيفات الاجتماعية, فسنتقدم لا محالة خطوات كبرى إذا ما حاولنا معا وبالتعاون فيما بيننا ان نحلل هذه المكيفات والمعاني التي تنتج عنها لنفهم هذا أو ذاك من الشخصيات التاريخية. وعلى ضوء هذا المنهج الفكري يمكن أن نضع قائمة في شخصيات عاشت في القرن التاسع عشر من خلال استقراء سيرتها الذاتية ونسلط عليها الأضواء معا...) . هذه بعض الشهادات التي تنير الحاضر, لانها صادرة عن شخصيتين كبيرتين كان لهما الأثر البعيد لا في حياة فرنسا السياسية والثقافية فحسب ولكن على الصعيد العالمي وعلى مستوى الفكر العالمي في القرن العشرين.

Email