الخليج والقفز من حلقة النار: بقلم - الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو قدر لي أن أقترح في شأن الخليج الآن شيئًا لاقترحت تقديم موعد القمة الخليجية المرتقبة في ديسمبر المقبل في أبوظبي لوقت أبكر, وقد يكون الشهر المقبل, ولعملت على وضع جدول أعمال محدد وعاجل يتكون من بضع كلمات تتلخص في البحث عن اجابة سؤال محتواه: كيف يمكن أن تحاصر النيران المحدقة بالخليج ؟ فالانتظار حتى آخر العام لعقد القمة المرتقبة على الأرض التي انطلقت منها وهي دولة الامارات العربية المتحدة قبل سبعة عشر عاما, يبدو للمراقب كموعد بعيد, فهذه الاجتماعات أخذت الشكل الدوري, والأحداث العالمية لاتسير بهذا البطء أو التباعد أو الروتينية, فإذا كانت المقولة التي أطلقها ونستون تشرشل صحيحة والقائلة ان اسبوعا في السياسة فترة طويلة, فإن سنة في السياسة الاقليمية فترة أكثر طولاً. والفكرة في الاستعجال ليست لغرض الاستعجال بحد ذاته, ولكن لأن أمر السياسة الاقليمية والدولية أخذ في التسارع, فلو نظرنا إلى الجغرافيا السياسية لدول الخليج وما يحيط بها في أيامنا الحاضرة لاكتشفنا أنها تقع فعليا وسط حلقة من النيران المشتعلة أو الكامنة أو القابلة للاشتعال, وان الأيام المقبلة تندر بمزيد من اشتعال النيران لا إخمادها, وفي الذهن أربعة متغيرات اقليمية محيطة إن أضفنا إليها المتغيرات العالمية فسوف نجد أن الأمر يحتاج الى الإسراع في رسم خطط اتقاء النيران. المتغير الأول يكمن فيما بين الهند وباكستان في الشرق, فبعد التجارب النووية المعلنة لكلتا الدولتين في الأشهر القليلة الماضية بدأ كل منهما يبحث عن مناطق نفوذ لهذه القوة النووية, والدخول إلى النادي النووي العالمي يثير شهية التوسع سواء الحقيقي أو المعنوي, ولقد طفقت باكستان بدافع هذه القوة الجديدة وبدافع ما يربطها بدول الخليج من ثقافة إسلامية تتطلع الى الخليج للمساعدة والتفهم وربما المناصرة في القضايا التي تهمها وهي في الأساس الموقف العدائي التاريخي مع جارتها الهند, كما ان الهند تبحث عن تحالفات لتوسع نفوذها عطفا على ما تؤهلها له قوتها النووية, وبسبب الخلاف الباكستاني - الايراني حول أفغانستان لن تتردد الهند ولا إيران من جانب آخر في عقد تحالف بينهما كل لأسبابه الخاصة, الا ان ذلك سوف يجلب المصالح الهندية إلى أبواب الخليج, ومن ثم يتحول الخليج إلى مكان للتنافس الباكستاني - الهندي, لقد ضج العالم مباشرة بعد اجراء التجارب النووية الهندية والباكستانية ولكنه ما لبث أن تجاوز ذلك وهدأت الضجة, وانصرف كل طرف ليرتب مصالحه الخاصة, وبقي الخليج تتجاذبه تلك المصالح, دون تنسيق حقيقي تجاه هذا الصراع. المتغير الثاني هو ما بين ايران وأفغانستان شمالا, فالصراع المشتعل بينهما هو صراع قد يقود الى حرب, فطالبان, التي تؤكد كل التحليلات أنها مدعومة من الجارة باكستان, قد ذهبت أشواطا في اجتثاث كل المعارضين لها وتقدم شكلا من التطبيق السياسي موغلا في التصلب والتضييق, وهي بالتالي لن تقبل الأقليات لا العرقية ولا الطائفية التي تكون أفغانستان التاريخية, وما قتل الايرانيين التسعة أخيرا إلا شكل من أشكال هذا التطبيق الضيق لبعض مرئيات الطالبان, وأفغانستان بلد المصايد السياسية والعسكرية لكل قوة خارجية, فإن دخلت إيران في حرب مباشرة أو غير مباشرة بإطلاق وتسليح مئات الآلاف من الأفغان النازحين إلى أراضيها ودفعتهم في مواجهة طالبان فإن صراعا طويلا ومهلكا لإيران وجيرانها سوف يبدأ, إلا أن الأخطر والأفدح يتمثل في أن المعارك في أفغانستان وغياب الدولة التي لها فهم حقيقي بالعلاقات الدولية الحديثة سينعشان الإرهاب الدولي ويطلقان سعار هذا الإرهاب ليصل الى جل مناطق العالم ولم نكن نحن ولن نكون بعيدين عن هذا السعار. المتغير الثالث هو ما يحدث في شمال وشمال غرب الخليج أي في العراق, فهناك تدور حرب صامتة تارة ومعلنة تارة أخرى بين لجان مجلس الأمن المكلفة بالبحث عن تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية, وبين النظام العراقي الذي أخذ في الآونة الأخيرة يشتد في تعنته ويدفع بالأمور الى حافة المواجهة المباشرة من جديد وللمرة الرابعة أو الخامسة, عطفا على ما يعتقده من لين من الأطراف الدولية, او اتباعا لتحليل له يخلص الى ان رأس القوة الكبرى وهي الولايات المتحدة ورئيسها بيل كلينتون مشغولان بل مضطربان نتيجة ما يعانيانه من صعوبات داخلية شخصية, فالوقت بالنسبة للقيادة العراقية وقت استيفاء الاوراق لما ترغب فيه, لأن مجلس الأمن والقوى الدولية لم يعد لهما قدرة على عنت العراق الا تعليق المراجعة الدورية للعقوبات الدولية, ومن الواضح ان التحرك السياسي العراقي في الاقليم العربي والمحيط هو تحرك تكتيكي يحاول فتح الابواب المغلقة حتى الآن, شرقا مع ايران وغربا مع سوريا, الا ان الاجتماعات التي تعقدها القيادة العراقية, والتي ما فتئت تحلم بأن اقصر الطرق للبقاء هو في تحضير حملة عسكرية ما على جهة ما تحقيقا لما تسميه صحافتها (فعل مقتدر) وتترك معاناة الشعب العراقي بشبابه ورجال وقطاعاته المختلفة للزمن كي يحلها. المتغير الرابع في الشمال, فتركيا تتحرك باتجاه اسرائيل وتقوم بتخطيط المناورات البحرية والجوية معها, كما تشارك الاردن في مناورات ارضية وجوية مع تركيا, وتركيا تدخل الملعب الشرق اوسطي كما لم تدخله من قبل قط, ولكن الخليج ليس بعيدا عن هذا المحور, فهو الخلفية المبتغاة من جراء هذه المناورات, حيث يشكل مصدرا مهما لانتاج الطاقة من جهة وسوقا رائجا للمنتجات من جهة ثانية. وفي الاطار الدولي الأمر مخيف أكثر وحتى لا أبدو كمن يرجم بالغيب دعوني انقل لكم خبرين تجاهلتهما وكالات الانباء والصحف الا فيما ندر, الاول وهو الاقل اهمية ان عصابة للسطو على محلات الصرافة في احدى دول الخليج تبين من التحقيقات الأولية انها مكونة من مواطنين روس وربما لهم علاقة بالمافيا الروسية التي انتشرت في العالم, اما الخبر الثاني والأفدح فيقول انه كشف في اسطنبول عن مواد نووية مهربة من روسيا, واعتقال ثمانية اشخاص من بينهم بعض رعايا جمهوريات سوفييتية سابقة, وفي الخبر جاء ان المواد التي كشف عنها من بينها ستة جرامات من البولوتينيوم المشع, والصفقة قيمتها فقط مليون دولار لاغير, هذان الخبران هما بعض من نتاج الفوضى والانهيار الاقتصادي والقانوني في الشمال القريب من الخليج, فما يحدث في روسيا وتداعياته يشكل تحديا لدول الخليج من الضرورة الاستجابة له, خاصة بعد تنصيب بريماكوف رئيسا للوزراء, فهو يعرف المنطقة العربية والشرق الاوسط حق المعرفة, وهو بهذه المعرفة الدقيقة يستطيع ان يستفيد من مناطق الضعف التي خبرها لفترة طويلة أثناء عمله واحتكاكه الدائم في هذه المنطقة من العالم. الولايات المتحدة تعاني من عجز يكاد يقعد الادارة الامريكية عن متابعة ما يجري في العالم, وقد تطول هذه المعاناة والعجز فتأتي بعض قرارات الادارة فيما يخص المنطقة متسرعة غير هادفة وغير مدروسة. باختصار تحيط بالخليج هذا الخريف جبهات ساخنة لصراعات خطيرة مشتعلة او كامنة, تمتد من شبه القارة الهندية الى الشرق الاوسط وتتسع حتى وسط آسيا, فماذا يفعل الخليج والخليجيون ازاء كل ذلك؟ وان اضفنا الى ذلك كله تدني اسعار النفط والضنك الاقتصادي المتوقع فماذا يكون؟ لا أريد ان اتشاءم او أبث التشاؤم ولا أريد ايضا ان ارجم بالغيب, ولكن السؤال المنطقي هو كيف يمكن ان نقفز خليجيا من حلقة النار هذه, وننجو من شر التحالفات والخلافات التي تحيط بمنطقتنا, قد يكون القفز جائزا في حلبات السيرك, ولكن في العلاقات الدولية يكون ذلك غير جائز وايضا غير ممكن فما العمل؟ لا مخرج لدول الخليج العربي للنجاة من هذه الحلقة الجهنمية الا بفعل ماهو صحيح, اول الصحيح رسم سياسة متقاربة ان لم تكن متطابقة تجاه كل او معظم المشكلات العالقة في المتغيرات الاربعة التي أشرت اليها سابقا, على الاقل, والتفكير جديا فيما هو عاجل والتحسب المسبق لما هو آجل, ولعل الحديث المعلن او المومأ اليه ــ على سبيل المثال ــ عن تمويل القنبلة الباكستانية مباشرة او غير مباشرة او دفع فاتورتها السياسية, يذكرنا بالقرار القديم في الثمانينات بتمويل وتعضيد المقاومة الافغانية ضد الاحتلال السوفييتي, وقتها أخذت بعضنا العاطفة دون حساب للنتائج وقد كان الامر المبدئي صحيحا ولكن تم دون تخطيط أو دراسة لضبط المخرجات على المديين المتوسط والطويل فتدفقت كمية غير معقولة من الارهاب على دول المنطقة العربية من جراء تلك السياسة المتسرعة لقتل رأس الحية فانفلت عش زنابير لا يزال يتطاير من حولنا, وفي هذا السياق يكون من الاوفق ايضا عدم الدخول في لعبة التوازن بين ايران وطالبان, كما ان عملية السلام العربي ــ الاسرائيلي تحتاج الى جهد خليجي موحد أو متقارب. باختصار فان الخليجيين لم يعودوا بعيدين عن دوائر الاستقطاب وحدود الخطر, والمطلوب هو سياسات واضحة للعمل في اتجاه اطفاء حلقة النيران المشتعلة من حولهم, حيث ان تركها مشتعلة او محاولة القفز عبرها قد تأتي بأكثر وأخطر مما نتوقع او نرغب.

Email