مملكة مارينا والقطط السمان!بقلم- جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

أيام أو أسابيع وتنتهي (هوجة)مارينا التي ثارت بعد مصرع طالب جامعي صدمه لانش بحري يملكه رجل الأعمال المعروف محمد أبو العينين, بعدها تبارت الصحف في الكشف عن مظاهر التسيب والفوضى التي تعيشها قرى الساحل الشمالي وخاصة الثرية منها, وما يفعله أولاد الأكابر هناك . وكعادتنا سوف تنتهي (الهوجة) بعد قليل, ويعود كل شيء إلى ما كان عليه, وتختفي القرارات التي قيل انها اتخذت لاعادة الانضباط إلى هذه البقعة من أرض مصر التي أهدرت كل القوانين والنظم, واخترعت قانونها الخاص وطبقته بنجاح.. وهو القانون الذي يعطي (أبناء الأكابر) الحق في أن يفعلوا ما يشاؤون اعتمادا على سلطة الآباء المالية أو السياسية, وهو قانون كان سائدا منذ عهد المماليك حتى ثورة يوليو 1952, ثم عاد بعد ذلك مع عودة المماليك والانقلاب على يوليو. وبداية .. فلن أتحدث عن (الحادث المؤسف) الذي أدى إلى قتل الطالب الجامعي, وما صاحبه من ملابسات, ومن اهمال, ومن نقص امكانيات المستشفيات هناك في علاج هذه الحالات.. لأن ذلك تم تناوله باسهاب كبير في كل الصحف والمجلات, ولأن الحديث عن المسؤولية الجنائية سابق لأوانه لأن التحقيق مازال مستمرا, ولأن بعض ما نشر يثير الغثيان للجوئه إلى الإبتزاز.. أو الاستجداء , للأسف الشديد! الملاحظة الوحيدة المتعلقة بالحادث والتي نقف عندها أولا, أننا أمام قضيتين مختلفتين لا ينبغي الخلط بينهما, قضية مصرع الطالب الجامعي في مارينا, وقضية (بلاوي) الساحل الشمالي ولالاتها وكيفية التعامل معها. ومن هنا.. فإن أبو العينين لا ينبغي ان يحاكم بوصفه المسؤول عن كل ما يجري في الساحل الشمالي من الطبقة الجديدة, وإنما هو طرف في قضية مصرع الطالب الجامعي.. إذا كان مذنبا فسيحاسب, وإذا كان بريئا فسوف يسعد ذلك الكثيرين من الذين يريدون البرهنة على ان في دينا الأعمال نماذج طيبة لا تستولي على أموال البنوك, ولا تهرب من مسؤولياتها, ولا تعيث في الأرض فسادا. أما القضية الأساسية التي نقف عندها, فهي قضية الطبقة الجديدة التي نمت وترعرعت, وفسدت وأفسدت, والتي أصبحت (مارينا) عنوانا لها, وأول ما ينبغي الالتفات إليه هنا ان هذه الطبقة قد أصبحت جزءا أساسيا من نسيج المجتمع, وإذا كانت الأضواء تسلط عليهم في صيف (مارينا) التي جعلوها مملكة خاصة لهم, فإن ذلك لا ينفي حقيقة انهم متواجدون في طول البلاد وعرضها, ويمارسون نفس النفوذ, ويسلكون نفس السلوك, ويجدون نفس الحماية, أو يوجدونها لأنفسهم! ان القضية ليست قضية بعض الصبية من أبناء الأكابر وسلوكهم المثير للاشمئزاز ولكنها قضية خلل اجتماعي هائل لابد من محاصرته قبل ان ينخر كالسوس في أعمدة المجتمع. وهذا الخلل لم يظهر فجأة, ولم يتستر بالخفاء, ولكنه موجود وملموس منذ سنوات, وصيحات التحذير من آثاره لم تتوقف, ولكن المشكلة أن أحد لا يسمع, وإذا سمع فإنه لا يهتم! كانت صيحات التحذير تنبه إلى خطورة انقسام الوطن إلى وطن للفقراء وهم الأغلبية الساحقة ووطن آخر للأثرياء.. وما أبعد الفرق بين الوطنين! الأغلبية الساحقة التي دفعت ثمن حروب التحرير ومعارك البناء , كتب عليها أيضا ان تدفع ثمن ما يسمى بـ ( الاصلاح الاقتصادي) , والأقلية الثرية قبضت ــ وما زالت تقبض ــ ثمن ذلك كله , وتحيله إلى قوة اقتصادية وسياسية تفرض بها ما تشاء. ثم خطت هذه الطبقة خطوات أخرى في ترسيخ الانقسام في المجتمع, وانهت ما كنا نتحدث عنه من حقوق متساوية للمواطنين, وأصبح لهذه الطبقة عالمها الخاص جدا.. من رياض الأطفال والمدارس والجامعات الخاصة, إلى المستشفيات الاستثمارية إلى مشاتي الغردقة, ومصايف الساحل الشمالي. ولعلنا نذكر كيف تدخل رئيس الجمهورية ذات يوم حين حولوا إحدى المدن الجديدة إلى مدينة للأغنياء فقط, ويومها أمر الرئيس مبارك بأن يكون هناك مكان في المدينة لمساكن الشباب من محدودي الدخل, وبالفعل أعلنت وزارة الاسكان عن مساكن اقتصادية في المدينة الجديدة ثمن الشقة منها 120 ألف جنيه فقط لا غير! وأعلن وزير الاسكان ـ لا فض فوه ــ انه وزير للاسكان وليس وزير للشؤون الاجتماعية, وعلى الكل ان يفهم ذلك! ولقد زاد من خطورة ظاهرة انقسام المجتمع وسيطرة الأقلية الثرية أمران هامان: * الأمر الأول.. ان هذه الطبقة أو الفئة كانت ــ في معظمها ــ بلا جذور وبلا ثقافة. إن رئيس جمعية رجال الأعمال يقول منذ أيام إن 90% من رجال الأعمال هؤلاء لا يعرف أحد من أين جاؤوا ولا من أين جاءت ثرواتهم! هذه (الطبقة) التي وجدت نفسها فجأة في قمة السلم الاجتماعي كان المسرح عندها هو هياتم وفيفي عبده, والسينما عندها هي أفلام الجنس الممنوعة, والغناء عندها هو ( تعالى وخش عليّه) , والمتعة عندها ان تنفق بسفاهة تداري بها جهلها وانحطاط ذوقها.. والأبناء في ذلك على دين آبائهم. * والأمر الثاني الذي زاد من خطورة الظاهرة.. هو ما حدث من زواج بين السلطة والثروة, كان من نتيجته ان تسرب الفساد إلى السلطة, وانتقل النفوذ إلى أصحاب المال, ووجدنا مسؤولين يمارسون التجارة وهم في السلطة, وأبناء ما زالوا في المدارس الابتدائية يتحولون إلى رجال أعمال تعقد الصفقات باسمهم ويكسبون الملايين بفضل عبقريتهم المبكرة. ثم وجدنا رجال الأعمال ينفقون الملايين ليدخلو مجلس الشعب ويتمتعوا بالحصانة.. وما أدراك ما الحصانة, ويجمعوا بين السلطة والثروة بأنفسهم.. والنتيجة تراها في قضية مثل قضية قروض البنوك التي حصل عليها الأعضاء الأفاضل بلا ضمانات.. وما خفي كان أعظم! والنتيجة هي ما نرى جانبا منه في (مملكة) مارينا حيث الثروة التي تفسد السلطة, والسلطة التي تتحالف مع الثروة, والقانون الغائب, والمال الذي يأتي بسهولة وينفق بسفه, والقيم الضائعة والسلوك الهمجي, وسلطة الدولة التي تتآكل. والمصيبة الكبرى ان (أبناء الأكابر) الذين سلطت عليهم الأضواء بمناسبة حادث (مارينا) هم الذين يتم اعدادهم لحكم مصر وتولي أكبر المسؤوليات فيها. إنهم الذين تحجز لهم الوظائف قبل ان يتخرجوا بينما طوابير الخريجين المتميزين تعاني البطالة من سنوات. وهم الذين تعقد الصفقات بأسمائهم ويحصلون على التوكيلات بنفوذ آبائهم, وهم الذين سيتحولون إلى أباطرة في سوق المال والتجارة, وسيدخلون مجلس الشعب ليضعوا القوانين التي تحقق مصالحهم, وسيكون منهم الوزراء ورجال السياسة وخبراء الاقتصاد, وهم الذين سينشرون الفساد في الأرض وليس في (مملكة مارينا) وحدها. وقبل شهور اصطدمت الدولة ببعض كبار رجال الأعمال, وحدث الصدام في أعقاب مباحثات رسمية مصرية أمريكية في العاصمة الأمريكية, فوجئت القيادة المصرية ببعض (هؤلاء) يروجون للمقولات الأمريكية ويهاجمون السياسة الاقتصادية للحكومة المصرية ويتهمونها بأنها تضع العراقيل أمام قطار (الخصخصة) الذي تريده أمريكا ان يسير بأقصى سرعة دون ان يلتفت للضحايا على الجانبين, ولم تكن مأساة روسيا قد انفجرت في ذلك الوقت وإن كانت بوادرها ظاهرة للعيان. يومها أدركت القيادة السياسية ان ( القطط السمان) قد زادت شراهتها, وان طموحها لم يعد له حد , وانها تريد من الادارة السياسية والاقتصادية ان تكون في خدمة هذا الطموح, وإلا استعدت عليها (الأصدقاء) الذين تتصور أن لهم نفوذا في مصر , وأنهم يستطيعون ان يقدموا الدعم للقطط التي صنعوها على مدى سنوات.. بالقروض والمساعدات والتوكيلات والصفقات البريئة والمشبوهة. ولم تسكت القيادة السياسية, بل عملت على اعادة ترتيب الأوراق في عالم رجال الأعمال, وبدأت تدعم أجيالا جديدة لتنافس القطط السمان الذين يريدون السيطرة على كل شيء, وأرسلت رسالة تحذير جادة.. بأنها قادرة على ان تعيد هذه القطط الشاردة كما كانت.. أو على حق قول أحد المسؤولين: إذا لم يراعوا المصلحة العامة فنحن قادرون ان نجعلهم (يمشوا حافيين) !! الآن .. يبدو الصدام أعمق وأشمل.. فهو بين القطط السمان وبين المجتمع كله, والعواقب وخيمة إذا لم يتم تدارك الأمر, لأن التوازن بين فئات المجتمع مفقود, والسلام الاجتماعي مهدد. لم يعد مقبولا ان تستمر السياسات التي تؤدي إلى افقار الأغلبية وزيادة ثراء الأغنياء, ولم يعد مقبولاً ان تستمر التصرفات الاستفزازية للقطط السمان, ولا ان يستمر السلوك الفاحش لأبنائهم, ولم يعد مقبولاً أن تضيع الفوارق بين التجارة والسياسة أو يستمر ذلك الزواج الباطل بين المال والسلطة. وأحداث العالم ــ من أندونيسيا إلى روسيا ــ تدق أجراس الخطر للجميع, ويبقى السؤال: هل نحن مستعدون للمواجهة الصعبة لاعادة التوازن للمجتمع, أم سندفن رؤوسنا في الرمال وننتظر حتى تمر (هوجة) مارينا, ثم يبقى الحال على ما هو عليه.. أو هكذا يتصور الغافلون!!

Email