قمة الساقطين آخر مسخرة !بقلم- جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

آخر مسخرة هذه القمة التي انعقدت في موسكو بين الرئيس الأمريكي كلينتون والرئيس الروسي يلتسين.. أي بين رئيس محكوم عليه بالسقوط بسبب فضائحه الأخلاقية, ورئيس محكوم عليه بالسقوط لارتكاب كل الفضائح الممكنة في عالم السياسة والأخلاق والوطنية . آخر مسخرة هذه القمة بين رئيس تطارده الغانيات في بلاده, فيحاول التغطية على الفضائح.. مرة بضرب أفغانستان والسودان, ومرة بالذهاب إلى قلب الأحداث في موسكو, ومرة بالتهديد بضرب العراق, ومرات بطلب الغفران من الله ومن الشعب ومن زوجته المخدوعة.. بين رئيس آخر قاد بلاده إلى الخراب الشامل, ومازال متشبثا بالحكم وهو غير قادر عليه وغير مؤهل إلا للمهمة التي قام بها خير قيام.. وهي تدمير روسيا ووضعها على حافة الانهيار الشامل. آخر مسخرة هذه القمة, ومع ذلك فإنها تعكس الرعب الذي يجتاح الغرب الآن مما قد يحدث في روسيا وانعكاساته على العالم كله. لقد راهنت أمريكا على يلتسين من البداية, وساندته ضد جورباتشوف الذي قام بتفكيك الاتحاد السوفييتي ونسف النظام القديم لا لمصلحة الشعوب السوفييتية وإنما لصالح الغرب بقيادة أمريكا, ومع ذلك فقد تخلت عنه أمريكا لصالح يلتسين الذي أكمل المهمة وقام بتحويل روسيا من دولة عظمى إلى دولة تهددها المجاعة والانهيار الشامل, وتعيش على المساعدات وتستجدي المعونة وتحكمها عصابات المافيا. وباسم الديمقراطية, وقفت أمريكا تؤيد وتشجع وتبارك قيام الجيش الروسي ــ بأوامر يلتسين ــ بقصف البرلمان الروسي بالمدافع, بعد ان تحولت السفارة الأمريكية إلى غرفة عمليات لمؤازرة يلتسين ضد الانقلاب عليه, ولم يخيب يلتسين بعد ذلك ظن الأمريكان, ففعل كل ما أرادوه.. وزيادة. وباسم اقتصاديات السوق تم نهب الاقتصاد الروسي وانخفض الانتاج القومي إلى النصف, وعرفت روسيا المجاعة, وامتناع الدولة عن صرف مرتبات الجيش والموظفين, وفي الوقت الذي كان الغرب يهلل لضخامة المساعدات والاستثمارات التي تم ضخها إلى روسيا والتي بلغت 56 مليار دولار, لم يكن أحد يذكر ان الأموال التي تم تحويلها للخارج من روسيا بلغت 66 مليار دولار, وغير ما تم نهبه وتهريبه بصورة غير رسمية على يد عصابات المافيا التي تحولت إلى دولة داخل الدولة, وتم تتويجها كأقوى تنظيمات المافيا في العالم كله. ومن قبل الانهيار المالي الأخير, كان المواطنون الروس يقارنون بين ما يعيشون فيه وبين الماضي القريب تحت الحكم الشيوعي الذي لم يكن بالطبع هو الجنة الموعودة, ولكنه على الأقل كان يوفر العمل والتعليم والعلاج والطعام لكل المواطنين. والذين انبهروا بالحلم الأمريكي الذي تم ترويجه اعلاميا يدركون الآن أن ثمن ما دفعوه من أجل الكوكاكولا والهامبورجر والرفاهية التي تتمتع بها قلة من اللصوص الذين تحولوا إلى أصحاب ملايين بالطرق غير المشروعة, بينما الأغلبية تعاني الجوع, والحكومة تعاني الافلاس, والبلد الذي كان يحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء مطالب اليوم ـ في ظل اقتصاديات السوق وتعليمات البنك الدولي وصندوق النقد ان يستورد 70% من احتياجاته الغذائية. المواطن في روسيا يدرك الآن إلى أين قادته سياسات الاصلاح!! التي قادها جورباتشوف ثم يلتسين, بدعم كامل من الغرب بزعامة أمريكا. ويقارن بين ذلك وما حدث في الصين التي رفضت وصاية الغرب و (روشتة) البنك الدولي وصندوق النقد, وابتدعت السياسة الاصلاحية التي تناسبها, فحققت ما حققت من نمو اقتصادي غير مسبوق, ومن استقرار سياسي واجتماعي. والآن.. يستبد القلق بأمريكا ودول الغرب مما يحدث في روسيا, فالانهيار الشامل هناك يعني الفوضى في بلد ما زال ــ رغم كل ما حدث له ــ يملك السلاح الذري والقوة العسكرية التي يحسب حسابها, والانهيار الشامل هناك سوف يعني الفشل الأكيد لسياسات: الرأسمالية المتوحشة ( التي لا تضع الأبعاد الاجتماعية في حسابها. والانهيار الشامل هناك يعني انهيار النظام العالمي الجديد الذي ثبت أنه ليس إلا محاولة لتثبت تفوق وثراء الدول الغربية وفقر الآخرين إلى الأبد. انهيار روسيا بعد الانهيار في جنوب شرق آسيا يعني نقل الأزمة المالية إلى قلب أوروبا وأمريكا والعالم كله, ولكنه يعني أيضا وقبل أي شيء نهاية ما بشرت به أمريكا ودول الغرب من وخاء وتقدم في ظل نظام عالمي تقوده أمريكا ويرفع شعارات الديمقراطية وحرية السوق. ولذلك تسارع أمريكا ودول الغرب والمنظمات التابعة لها بالاعلان عن دعم يلتسين وتقديم المعونة لروسيا إذا التزمت بالسياسات التي يرفضها الشعب الروسي الآن بعد ان قادته إلى المجاعة والمهانة. أي أن المطلوب ان تتناول روسيا المريضة نفس الدواء الذي قادها إلى حافة الموت, وإلا فلن يصلي عليها (القسيس) الأمريكي عند الوفاة!! والوضع يزداد سوءا, ونتائج (الروشتة) الأمريكية حتى الآن خسائر في الثروة القومية الروسية تتجاوز الألف مليار دولار, وإغلاق أكثر من ثمانين ألف مصنع , وارتفاع أرقام البطالة لتصل إلى 13 مليون عاطل, وارتفاع الديون الخارجية إلى أكثر من 140 مليار دولار.. ومع ذلك يذهب كلينتون ليطالب الروس بالاستمرار في نفس الطريق الذي أدى إلى ان يعيش ما يقرب من نصف الشعب الروسي الآن تحت ضغط الفقر.. والبقية في الطريق ما عدا القطط السمان الذين نهبوا كل شيء وأصبحوا هم الحكام الحقيقيين في روسيا الآن. ولا حل في روسيا إلا برحيل يلتسين واسدال الستار على نصائح أو املاءات صندوق النقد الدولي, ومحاربة انقاذ الوضع باعادة الهيبة إلى الدولة الروسية, وتطبيق مفهوم السوق القائمة على التخطيط والسيطرة على الأسعار, ولا يعني ذلك بالطبع العودة إلى ما كان قائما تحت النظام الشيوعي, وإنما تبني السياسات التي تلائم روسيا وترى مصالحها وليس مصالح الغرب الساعي إلى نظام عالمى يفرض فيه سيطرته على الجميع. ولقد انهارت البورصة المالية في روسيا, وانهارت معها باقي البورصات الرئيسية في العالم. ولعل ذلك هو ما أثار الانتباه إلى الأزمة الروسية في العالم العربي, فنحن ــ والحمد لله ــ لا ننظر أبعد من موقع أقدامنا, ونجلس منذ سنوات مستريحين إلى القناعة بأن الأوراق كلها عند أمريكا, وأنها ستصنع العالم الذي تريده, وستضعنا في المكان الذي يليق بأصدقاء تركوا أمورهم في أيديها. هل تذكرون كيف هلل الكثيرون منا, وأقاموا الأفراح والليالي الملاح عند انهيار الاتحاد السوفييتي, غير مدركين عواقب انفراد أمريكا بالسيطرة على العالم, والثمن الذي سندفعه ــ نحن العرب ــ والعالم أجمع نتيجة لذلك. ولقد دفعنا, وما زلنا ندفع, وسنظل ندفع طالما قنعنا بدور المتفرج على اللاعبين وطالما اعتبرنا أحضان أمريكا هي المكان الطبيعي الذي نقبع فيه ونبيع الدنيا من أجله, وليتنا نتمتع بهذه الأحضان, فعناق أمريكا بالنسبة لنا هو عناق الموت.. وإن اختلفت المظاهر وتعددت الأسباب. في أواخر عهد جورباتشوف كنت في موسكو, وكان السؤال الذي يواجهني في كل مكان , ومع كل مسؤول أو مثقف متعاطف معنا هو : أين العرب مما يجري في روسيا الآن؟ وكان العرب غائبين, وظلوا كذلك حتى أصبحت روسيا أحد القلاع التي تمرح فيها الصهيونية ويسيطر فيها اليهود على الكثير من مراكز القرار. والحديث في هذا الأمر طويل ومؤلم ويكشف عجزنا الكامل عن التعامل مع المتغيرات الدولية,ولعلنا نعود إليه في مقال آخر. أما الآن فنكتفي بالحديث عن الأزمة التي تهز العامل, ولعلنا ـ هذه المرة ـ ننجح في ان نمد أبصارنا لأكثر من بورصة موسكو أو غيرها من البورصات, فالأمر خطير, والعالم كله مقبل على فترة هامة من الصراع الدولي, والانهيار في روسيا سوف يعني الانقلاب الكامل على أوضاع عالمية تريد أمريكا ان تجعلها المدخل إلى قرن جديد تريده أمريكا 100% وإن كره الآخرون! والمأساة في روسيا تكشف الأوهام الأمريكية كما لا يكشفها شيء آخر, فالسيطرة الأمريكية مشكوك فيها إلى أقصى حد . وروشتة صندوق النقد الدولي الموضوعة لخدمة أمريكا لم تعد هي الترياق الذي تشربه كل الشعوب وكأنه القضاء والقدر. والرأسمالية المتوحشة التي لا تضع في حسابها العوامل الاجتماعية تتعدى كما لم يحدث من قبل. والبحث عن الطريق الخاص للتقدم هو مسؤولية كل أمة. هي التي تحدد الهدف وتعرف الطريق وتختار ما يناسبها من سياسات. فلنمد أبصارنا إلى ما هو أبعد من بورصة موسكو, فالأحداث خارجها هي الأهم, وهي التي ستقرر مصير هذه الدولة, وستترك بصماتها على العالم كله. وأخشى ما أخشاه ان نكرر ما فعلناه سابقا, ونعيش في غيبوبتنا حتى يحدث الانهيار .. ويذهب العلماء ــ كالعادة ـ إلى اسرائيل , أما نحن فنسعد ونبتهج بالغزو الجميل لآلاف الراقصات الروسيات للملاهي الليلية في كل العواصم العربية!

Email