تساؤلات بريئة في موضوع خطير: بقلم - محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ولأن مصائب قوم عند الآخرين فوائد, فقد جاء تفجير السفارتين الأمريكيتين في كل من نيروبي ودار السلام, ومن بعدهما التفجير المزدوج بدوره الذي دبرته ونفذته - بالصواريخ العابرة - الآلة الحربية - البحرية الأمريكية في موقعي أفغانستان والسودان - جاء هذا كله , على شناعته ليفتح (بازارا) لا نحسب انه آل الى اغلاق امام سيل متدفق من التحليلات السياسية والتكهنات والتوقعات والآراء التي ما برحت تضطرم وتتفاعل, وخاصة على ساحة الاعلام والسياسة في الولايات المتحدة - ناهيك ان تقع هذه الإحداث الدراماتيكية في مرحلة يقف فيها رئيس أكبر دولة في العالم ليعترف بارتكاب حماقات بل وانحرافات لا تليق بقائد أو زعيم ثم يقف في مواجهته محقق مخصص لا يتورع عن اسئلة غريبة يطرحها حول بقعة بيولوجية على ثوب نسائي, أو حول (أوضاع) أو (أساليب) اتخذها هذا الطرف أو ذاك خلال ممارسة هذا الانحراف .. لدرجة ان قال قائل الأمريكيين: كفانا مهانة حتى صرنا اضحكومة أمام العالم .. أو تساءل نفر منهم: ما هذه الديمقراطية التي لا تتورع عن فضح الستر وكشف عورات الناس؟ سؤال أكثر من بريء ويبدو من واقع ما رأيناه ان امريكا قد عمدت الى موقعي التفجير ثم جمعت الأدلة وحققت في القضايا وخلصت الى الأحكام الصادرة ومن ثم اتخذت القرار العسكري بالرد العنيف على النحو الذي تابعه العالم في أواخر اغسطس الماضي, وقد تم هذا كله في غضون أيام قلائل, أقل من أسبوع واحد من حادثة السفارتين. الا يحق إذن لأي مراقب سياسي أن يتساءل في براءة أو فيما يشبه البراءة. - كيف أمكن للقوم أن يصلوا الى حكم حاسم قاطع أصدروه في حادث السفارتين, بينما ظلت تحقيقات القاضي كينيث ستار دائرة الرحى على طوال أربع سنوات ولم تصل حتى تاريخه الى رأي متبلور أو إلى حكم معقول؟! ألا يحق لنا أن نعرب عن تساؤل مشوب بالاستغراب أو التشكك قائلين: - ما هي حقيقة الأمر .. أهو تأخير هنا (في واشنطن) يبلغ السنوات الأربع ويزيد رغم سخف الموضوع وتدني الخطاب المستخدم وضعف الطالب والمطلوب, ثم هو تعجيل هناك (في افريقيا وفي آسيا) لا يكاد أمده يزيد عن أسبوع رغم خطورة الأمر .. وتهديد أرواح البشر وإلحاق خسائر بالملايين بشعوب فقيرة تحتاج إلى كل سنت أو كل مليم؟ آراء سليمة وسط الركام مع هذا كله, ورغم ركام الآراء وسيل التحليلات وفيض الاجتهادات, فقد رأينا ان نتوقف, مع القارئ الكريم عند تحليلين نرى فيهما ما يستحق الدرس والإمعان. الأول نشرته جريدة (كرستيان ساينس مونتور) (عدد 12/8/1998) بقلم هنري بريخت, الدبلوماسي الامريكي والخبير في شؤون الإرهاب فضلا عن خبرته الميدانية والعملية بأحوال الشرق الأوسط بالذات, إذ عمل في كل من ايران قبل وأثناء أزمة الرهائن في مقتبل الثورة الايرانية, كما عمل في مصر بعد مصرع رئيسها السابق أنور السادات في مطلع الثمانينات. هنري بريخت ينصح السلطات الامريكية الا ترضخ أمام ضغوط الرأي العام طلبا للرد الانتقامي على الهجمات التي توصف بالارهابية, وذلك قبل اجراء التحقيقات واستيفاء عمليات الغزو والتمحيص اللازمة في مثل هذه الظروف. ورغم ان واشنطن لم تلق بالا بالطبع أمام هذه التضحية الا ان ما يسترعى نظرنا ان الخبير الأمريكي يحذر قومه قائلا بالحرف الواحد: - ان الضغوط الهائلة التي تتعرض لها السلطات لكي تعثر على الفاعلين (في قضايا أو أحداث الإرهاب) يمكن أن تفضي الى استنتاجات متسرعة وخاطئة في آن, وذلك على نحو ما فعله الرئيس (الأسبق) رونالد ريجان في عام 1986 حين أمر بقصف ليبيا دون (أن يتوافر لديه) دليل نهائي (ضدها) في حادثة اعتداء وقع على جنود أمريكيين في برلين. ويواصل الدبلوماسي الأمريكي حديثه المنشور قائلا: - من الصعوبة بمكان جمع القرائن واثبات التهمة في ميدان الإرهاب الدولي, وعليك ان تفكر في هذا الصدد في عدد المشتبه بهم الذين ما زالوا رهن الاعتقال في اسرائيل دون أن توجه اليهم تهمة ما .. أو في عدد افراد الجيش الجمهوري الايرلندي الذين برأتهم المحاكم الأعلى من أحكام أصدرتها بحقهم المحاكم الأدنى. هدفان أساسيان للإرهاب ثم يوضح السيد بريخت في مقالة كرستيان ساينس مونيتور ان اي عمليات ارهابية انما تقصد الى تحقيق هدفين اساسيين هما: (1) الانتقام. (2) تغيير السياسات المتبعة. والكاتب - الخبير الامريكي .. ينعي على اختصاصي الارهاب ومكافحته في امريكا انهم يوجهون شكوكهم بداية الى جماعات عربية أو ايرانية, وهو يدعوهم الى توسيع نطاق الشك أو التحقيق حول الاطراف التي لها مصالح اساسية إما في الانتقام من أمريكا, أو في حملها على تغيير ما تتبعه من سياسات. وقد يصل هذا التوسيع - في رأيه - الى بلدان شبه القارة الهندية وقد صدرت منها تهديدات هندية وباكستانية بحق الامريكيين. بعد ذلك يصل الدبلوماسي الامريكي هنري بريخت الى ما نراه بمثابة بيت القصيد في مقاله المنشور حين يقول بالحرف أيضاً: هناك حكومة بعينها اعتدت علينا في الماضي ولكنني متأكد الى حد كبير بأنها لن تطالها دراسات (او تحقيقات او شبهات) خبراء الارهاب في امريكا وتلك هي حكومة اسرائيل التي دبرت في الخمسينات خطة ارهابية في القاهرة كانت تهدف بها الى تغيير سياسة امريكا لغير صالح مصر فيما عرف وقتها باسم قضية (فضيحة) لافون. وحكومة اسرائيل كذلك هي التي قصفت السفينة الامريكية ليبرتي في حرب عام 1967. تلك هي كلمات الدبلوماسي الامريكي الخبير كما قدمته الجريدة الامريكية في شؤون الارهاب نقلناها بحروفها ولم ترد عليها سوى اضافات عمدنا الى وضعها بين اقواس لزوم التوضيح لا أكثر ولا أقل. و.. اسرائيل أيضا ان الرجل لم يصل الى حد توجيه اتهامات بعينها الى اسرائيل او غيرها. ولكن حسبه ان ينفرد بالقول بأن اسرائيل لا ينبغي اخراجها من دائرة الشك والتحقيقات فيما يقع من حوادث الارهاب. وحسبه ايضا الا يقع في فخ البروباجاندا التي صاحبت فرقة الانقاذ التي بعثتها اسرائيل, رجالا وكلابا الى موقع السفارتين في افريقيا. فكم تعلم الناس من صروف الايام ومحن الدهر ان مثل هذه التصرفات كثيرها من قبيل دفع الشبهة او ابراء الذمة او قتل القتيل ثم المشي وربما الندب في جنازته. ولا يهم اسماء الفاعلين المباشرين ولا هوياتهم ولا جنسياتهم, فمنهم مخدوعون ومنهم من وقعوا فريسة التضليل او غسل الدماغ او استغلال النعرات والسلبيات الشخصية ادق الانحرافات.. المهم في رأي صاحبنا الامريكي هو الاجابة على تساؤلات حائرة من قبيل: من هو الطرف صاحب المصلحة في تغيير سياسات امريكا تجاه قضية الشرق الاوسط والشأن الفلسطيني على وجه التحديد؟ ثم من هو صاحب السجل الحافل بعمليات الارهاب المتقدمة ضد سفارات امريكا كما في حالة لافون وضد عمارات امريكا البحرية وضد ارواح جنود امريكا وضباطها كما في حالة السفينة ليبرتي والفرق بين الحادثين هو 13 عاما من عمر الزمن؟ رأى مدير المخابرات المركزية ونحسب أيضا أن هذا التصور الامريكي بالنسبة لاسرائيل لم يأت من فراغ. ثمة شعور نكاد نلمسه من خلال قراءاتنا ومتابعاتنا للأدبيات السياسية ـ الفكرية في أمريكا ان هناك من يشاطر الدبلوماسي بريخت آراءه التي بسطنا بعضها في سياق هذا الحديث. كيف لا ــ وقد جاءت هذه المشاركة من جانب كاتب آخر هو السيد روبرت م. جيتس شخصيا وهو المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الامريكية ولعلة يتميز بين سائر مديريها بعقلية السياسي وليس بعقلية الاستخباراتي اذ خدم عضوا في مجلس الامن القومي بالبيت الامريكي الابيض في ظل أربعة رؤساء. (نيويورك تايمز 16/8/1989) ان روبرت جيتس يطالب ادارة الرئيس كلينتون بأن تأخذ في محاربة الارهاب بمزيج من عاملين: 1 ــ القوة بمعنى الحزم. 2 ــ والدبلوماسية بمعنى الصبر والتخطيط بل والاعتراف المسبق بأن الامر قد ينطوي على وقوع خسائر جديدة في المستقبل. في هذا الاطار يقول مدير المخابرات الامريكية السابق: صحيح اننا نستطيع ان نقدم الى العدالة بعض الارهابيين لكن الاولى والاهم (والاصح) هو ان نعمد الى اتباع سياسات واستراتيجيات يمكنها في الاجل الطويل ان تضعف جذور الارهاب. التعبير المستخدم في الادبيات الامنية العربية المعاصرة هو (تجفيف منابع الارهاب) ما هي ابرز معالم هذه السياسة الجامعة بين حزم القوة وبين صبر التخطيط الدبلوماسي؟ نحن في هذا السياق بازاء معالم بارزة ثلاثة يقترحها السياسي الامريكي لكي تشكل محاور السياسة الامريكية ضد ظاهرة الارهاب الدولي وهذه المحاور بكلمات جيتس هي على النحو التالي: الأول: تستطيع امريكا ان تتبع سياسة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط دون ان تقوم هذه السياسة على اساس التزلف او التمحك او التملق ازاء سياسة نتانياهو رئيس وزراء اسرائيل في تعويق الجهود وتعطيل المسيرة (نحو السلام) في المنطقة (جيتسس يستخدم في مقاله تعبير (كاوتاو) والتعبير يذهب في دلالاته الى معنى ان تحنو الجباه او يصل الامر الى السجود, والعياذ بالله!). وعلينا ايضا (والحديث لمدير المخابرات الامريكية السابق) ان نتابع بدقة حوارا وليدا مع الرئيس الايراني محمد خاتمي ولا يصدنا عن ذلك مواقف خصومه من المتشددين في الداخل. الثاني: يؤسفنا نحن الامريكيين أن ندعم حقوق الانسان والحريات السياسية في الشرق الاوسط, على نحو ما فعلنا في الاتحاد السوفييتي السابق وما نفعله حاليا في آسيا (يقصد الصين بالذات وقد نعلق قائلين: ربنا يستر فما نظن ان النتائج في روسيا الحالية مشجعة بحال من الاحوال). الثالث: اتباع استراتيجية امريكية تجاه الارهاب تتسع لامكانات التعامل مع العالم خارج حدودنا. فليس لسياسة امريكية ان تنجح في هذا المجال الا اذا قبل قادتنا حقيقة ان الولايات المتحدة لا يمكن ان تعزل نفسها عن سائر البشرية او تعامل بقية العالم وكأنه مجرد مصلحة عارضة قد تلبيها لبعض الوقت أو انها لعبة فوتبول سياسية, ولا بوسع أمريكا ايضا ان تتخلى عن المسؤوليات وايضا عن التكاليف والتضحيات التي تقتضيها مقاليد الزعامة أو القيادة في العالم. تضحيات لمحاربة الارهاب ثم ينتقل روبرت. م جيتس للحديث عن التداخل الذي بات واضحا وخطيرا كذلك بين مقتضيات العلاقات الدولية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم, وبين عوامل ومطالب السياسة الداخلية بكل ما تنطوي عليه من مصالح فئوية واعتبارات محلية وجهود جماعات للضغط, واصغاء الى حد الاختلال الى ما تمليه ظروف الانتخابات سواء في سباق الرئاسة الأولى أو على مستوى مجلس الكونجرس والنواب والشيوخ.. في هذا المقام يختتم جيتس مقاله المنشور قائلا: ان على الجمهوريين والديمقراطيين ان يتكاتفوا معا من أجل الكف عن هذا الاختباء خلف استطلاعات الرأي العام التي تدعي انها تبين مدى عزوف الأمريكيين عن الوفاء بالتزامات السياسة الخارجية, لاسيما اذا كانت هذه الالتزامات يترتب عليها مغارم أو تضحيات. والحاصل فعلا ان الأمريكان في هذا القرن قلّما تقبلوا بحماس ان يحملوا على عاتقهم أي التزامات دولية. والذي حدث, ان الأمر اقتضى مزيجا من شجاعة الزعامة وبُعْد النظر لدى القيادة في واشنطن وخاصة على مستوى رؤساء الجمهورية في البيت الأبيض. وبهذا المزيج من الشجاعة والبصيرة استطاع رؤساء أمريكيون عديدون بتأييد من الكونجرس اقناع جماهير الأمريكيين بضرورة ان ينهض بلدهم الى مستوى القيادة, وان يحموا مصالح بلدهم في كل أنحاء العالم.. حتى ولو كانوا يعرفون سلفا مدى جسامة ما سوف يتحملونه من الدم والموارد والأموال. كاتب مصري مقيم في نيويورك*

Email