التنمية.. قيم وثقافات: بقلم- حسن العالي

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع تراجع العوائد النفطية, وتزايد حاجة الحكومات الخليجية الى ترشيد الانفاق, وتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة, تم اجراء العديد من المراجعات والدراسات التي كشفت عن اعباء انماط التنمية والرفاهية التي اشيعت خلال العقود الثلاث الماضية, فإذا كانت الطفرة النفطية خلال حقبة السبعينات قد مكنت دول المنطقة من دخول مرحلة من الرفاهية يرافق هذه المرحلة تطوير معايير وقيم انتاجية الفرد والمجتمع. وحتى بالنسبة لفئات عديدة من رجال الاعمال, ارتبطت تلك المرحلة بالقيام بانشطة المضاربات وذات المردود الربحي السريع. الا انه بطبيعة الحال كانت هناك شرائح من رجال الاعمال سعت ولا تزال الى تجسيد دورها التنموي السليم من خلال ما تتعهده من انشطة ومشروعات اقتصادية منتجة. اننا نتذكر اليوم هذه الحقائق ونحن نتابع سعي حكومات دول المنطقة الى تطوير قنوات وانماط تجسد من خلالها المشاركة الاهلية والشعبية في تحمل اعباء التنمية والحفاظ على المستويات الجيدة للرفاهية الاجتماعية. ان ابرز المعوقات التي يصطدم بها هذا السعي هو الثقافة الاقتصادية الاستهلاكية والاتكالية التي افرزتها الحقبة الماضية وكرستها بين فئات لا يستهان بها سواء من رجال الاعمال او المواطنين. وهذا ما يفسر اسلوب الحذر في تطوير تلك القنوات والأنماط خشية من عدم نجاحها او سوء فهمها مما يولد انعكاسات اجتماعية سلبية. وعلى سبيل المثال فقد برز الحديث عن اهمية تنويع مصادر الدخل, وضرورة قيام القطاع الخاص بلعب دور ريادي في التنمية الاقتصادية الخليجية خلال السنوات العشر الماضية. وقد سعت الاجهزة الحكومية الى اتخاذ العديد من المبادرات لتحسين مناخ الاستثمار خاصة فيما يتعلق بتدريب وتهيئة العنصر البشري المحلي وحماية الصناعات الوطنية والتمويل. كما قامت مؤخرا بمحاولات اولية لاختبار حجم شهية القطاع الخاص لشراء بعض المشروعات الحكومية او المشاركة في ملكيتها. وعلى الرغم من ان استجابات هامة من قبل القطاع الخاص يمكن رصدها هنا في عدد من دول المنطقة الا ان التقييم العام ان هذه الاستجابات لم تكن على المستوى المطلوب ولا تتلاءم مع حجم ونوعية المشروعات التنموية المطلوب تنفيذها من جهة, ولا مع حجم الامكانات المالية التي يملكها القطاع الخاص من جهة اخرى. وعندما نقول ان الثقافة الاقتصادية السائدة لعبت دورا بارزا في اعاقة ولادة الاستجابات المطلوبة لا نقصد مباشرة ان القطاع الخاص الخليجي يفضل تركيز استثماراته في قنوات مصرفية آمنة او انشطة تجارية وتقاولية وخدمية واستثمارية قصيرة الاجل فحسب. ففي التحليل النهائي ان مقدرة القطاع الخاص على تعظيم عوائده من الاستثمارات يعني تعظيم العائد الاجمالي للاقتصاد الوطني. بل اننا نقصد غياب روح الابتكار والتجديد والمبادرة لدى فئات عديدة من المستثمرين الخليجيين. ان هذه الفئات تفتقر الى روح الابتكار والتجديد التي تملكها فئات منظمي الاعمال entrepreneurs التي نشاهدها في الكثير من دول الغرب. ان هذه الفئات استطاعت دوما ان تضخ دماء جديدة الى الانشطة الاقتصادية من خلال تبني تأسيس وتطوير المشروعات الجديدة التي سوف تتحول لاحقا الى مشروعات عامة ضخمة. ان بروز هذه الفئات في دول المنطقة بحاجة الى ثقافة اقتصادية تقوم على الرغبة في اكتشاف كل ما هو جديد والمخاطرة المحسوبة بالتعاون مع البنوك ومؤسسات التمويل الاخرى. وهنا يثار تساؤل آخر حول مقدرة القيادات الادارية للبنوك التجارية الخليجية على ابداء روح المشاركة في هذا المضمار. ان الغالبية العظمى ان لم نقل جميع البنوك التجارية الخليجية قد انتهجت النمط الانجليزي في انشطتها حيث تقتصر عملياتها التمويلية على الانشطة التجارية والتقاولية ورأس المال التشغيلي للمؤسسات الصناعية. وظلت مساهماتها محدودة في المساهمات الانتاجية الطويلة الاجل او انشطة الاستثمار الاخرى كتعهد الاكتتاب في رؤوس اموال المشروعات الجديدة والدخول المباشر في تمويل وادارة هذه المشروعات سواء من خلال اسهم رأس المال او اصدار السندات. في الوقت الذي نجد فيه ان مفهوم (المصرف الشامل) قد تطور في كثير من البلدان بما فيها البلدان النامية. واذا انتقلنا من مستوى رجال الاعمال الى مستوى المواطنين, تبرز بصورة واضحة ردة الفعل غير الطبيعية لدى قسم كبير منهم ازاء التوجهات الحكومية لزيادة أو فرض رسوم على العديد من الخدمات التي تقدمها لهم بهدف ايجاد موارد للدخل للانفاق على صيانة وتحسين هذه الخدمات. وغني عن القول ان مثل هذه الرسوم موجودة في جميع انحاء العالم. الا ان تأخر دول المنطقة في فرضها حتى ولو بصورة رمزية قد ولد نوعا من الشعور وبالتالي الثقافة بأن فرضها اليوم هو بمثابة أداة للدولة لزيادة موارد الدخل لا غير دون النظر الى ابعادها الاجتماعية الاخرى والتي تتمثل في ايجاد قنوات للمشاركة الشعبية في تحمل اعباء التنمية وصيانة مستويات الخدمات الاجتماعية التي تمثل الشكل الرئيسي للرفاهية. والملاحظة التي يمكن ايرادها هنا ايضا انه اذا كانت هناك جهود ضخمة قد بذلت خلال العقود الماضية في مجال التعليم بكافة مراحله بدول المنطقة حيث امتلأت مؤسساتنا وشركاتنا واجهزتنا الحكومية بالشباب المتعلم الا اننا مع ذلك نظل نتساءل عما اذا كانت هذه الجهود قد نتج عنها دمج المعارف والانجازات الاقتصادية المتحققة بالبيئة المحلية (مناهج التعليم ومعاهد التدريب والكليات التقنية واجهزة اقتصادية توجيهية واستشارية) التي بدورها تؤمن تحويل هذه المعارف والانجازات الى معارف وانجازات وطنية (بمفهوم تملك المعارف والتقنيات الملازمة لها, والناجمة عنها من قبل اجيال متعاقبة) وبالتالي ايضا ضمان تطويرها والبناء عليها في جهود ابداعية وتطويرية. كذلك لم يتولد عن نماذج التنمية في دول المنطقة تكريس واضح لمبدأ المشاركة في تحمل المسؤولية والاعباء. وعندما توجهت هذه الدول الى تسعير بعض الخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تقدم في السابق مجانا او بأسعار رمزية بدا وكأن الامر واقع تحت ضغوط تراجع الموارد المالية اكثر منه جهودا لتكريس ذلك المبدأ. كذلك الحال بالنسبة لربط الدخل بالانتاجية والكفاءة حيث بات من الواضح ضرورة وجود هذا الربط وهو موضوع قائم بذاته وبحاجة الى التعمق والدراسة. أيضا الحديث ينطبق على الكثير من المهن الحرفية والمتوسطة التي ظلت حتى امد قريب بعيدة عن هوى المواطنين ورغباتهم مما استدعى رفع شعارات مثل اعادة التأهيل الثقافي والاجتماعي لدى الشباب من اجل تقبل هذه المهن. والموضوع بطبيعة الحال مرتبط بعناصر اخرى وخاصة تحسين شروط العمل وسن القوانين الاجتماعية التي تزيد من جاذبية هذه المهن. ان هناك مسؤولية مشتركة للحكومات والقطاعات الاهلية في تصحيح الكثير من المفاهيم الاقتصادية الخاطئة. ان احد الاسس المؤمل اتباعها هو ضمان الا تؤدي التوجهات الاقتصادية الجديدة الى تحميل المواطنين الاعباء دون ان تشعرهم بايجابيات ومزايا هذه التوجهات في المديين المتوسط والطويل الاجل. كما ان ايجاد السبل التي تجنب ذوي الدخول المحددوة تلك الاعباء في المدى القصير ايضا هو امر مطلوب. ان حث المجتمع الى التحول نحو وتيرة افضل واسرع من البناء والانتاجية والمساهمة الجماعية في الحفاظ على اشكال الرفاهية واسسها ينبغي ان يأخذ عدة اشكال. ونرى ان اعادة تأهيل وتوجيه الكثير من مفاهيم الثقافة الاقتصادية السائدة هي اهم هذه الاشكال.

Email