صورة المستقبل... تيارات وتحديات: (1 ــ 2)، بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هولندا مشغولة بتيارات المستقبل. والهولنديون يقبلون بصورة لا مثيل لها على شراء واحد من اكثر الكتب مبيعا وقد صدر مؤخرا بعنوان: (تيارات المستقبل) . ومن المفهوم ان يعكف على كتابة واصدار هذه النوعية من الدراسات علماء المستقبليات الذين يرصدون اتجاهات الحاضر ويحاولون استشراف تيارات المستقبل وخاصة من خلال بناء نماذج التصورات التي يخلعون عليها اسم السيناريوهات بأنواعها الثلاثة: المتشائم و(المتفائل والمحافظ الذي يتصوران يبقى الحال على ما هو عليه حسب التعبير القضائي الشهير) . لكن الجديد ان يعكف على هذه العملية الحيوية من قراءة المستقبل ورصد تياراته واتجاهاته دارسون ينتمون في الاساس الى عالم الاعلان والترويج. او بشكل اكثر تحديدا الى علم بحوث السوق ومن ثم فنون واساليب الترويج والتسويق. ونكاد نقول ان هذا الجديد ليس بالامر المستحدث او الغريب فطالما انشغل اهل التسويق بالمستقبل وخاصة بما يمكن ان ينطوي عليه من تغيرات وتحولات في انماط استهلاك الجمهور ومن تغيرات وتحولات تعتري اذواق الناس, وتوجههم الى ما يحبونه ويقبلون على شرائه وتبعدهم من ثم عما يصدون عنه كي يصدق عليه حكم الزمن القاسي بأنه اصبح باليا او شابت على ارضه الليالي كما قال يوما الشاعر محمود حسن اسماعيل هكذا ظل باحثان امريكيان هما (ماريان سلزمان) و(ايراماتاثيا) على مدى سنة 1997 بأكملها عاكفين على دراسة موضوع حيوي بالنسبة للاسواق والاذواق والتحولات او الفتوحات في دنيا التكنولوجيا ثم خرجا من دراستهما بالكتاب الذي اشرنا فيما سلف من سطور. نبادر فنقول: ان الكتاب مازال رائجا في هولندا في طبعته الاولى الصادرة بعنوان (تيارات المستقبل) .. وان الاستعدادات جارية على قدم وساق لاصدار طبعات دولية وترجمات عديدة لهذا الكتاب المهم وفي مقدمتها طبعة فريدة ومنقحة بالانجليزية وقد تقرر نشرها على الناس في امريكا في يناير من عام 1999 المقبل وعليك خير. وان الكتاب يتكامل مع تيارات مستقبل حال (بتنوين اللام) او هو مستقبل يدق بشدة ولهفة والحاح ابواب الحاضر وتكاد موجاته العاتية العفية تختلط بتيارات حاضرنا وتندمج معها على اعتبار انه لا يوجد شيء من فراغ, بل ان الجديد يولد باستمرار في رحم القديم كما قال الفيلسوف هيجل في يوم سلف من الايام. وان ابرز ما في تلك الدراسة التي نشير اليها هو انها لا تعنى بالمستقبل القريب من ايامنا على المستوى الفوقي بمعنى انها تشغل نفسها بأفكار الفلاسفة او طروحات المفكرين او حتى ابداعات الفنانين انها مشغولة بالاحرى بالناس العاديين في حياتهم اليومية في السنوات الباكرة من القرن الوشيك المقبل... بمعاشهم وتربية ابنائهم وكسبهم للقوت وسلوكهم في مكان العمل او موقع المعيشة او المساحات التي يمضون فيها اوقات الفراغ. ديمقراطية بحوث المستقبل ذلك نوع نسميه (ديمقراطية البحث المستقبلي وهو نمط من الدراسات التي تتوسل باساليب العلم وتتوخى جوانب الموضوعية ولكنها تبذل جهدا حثيثا وعميقا لكي تنزل بالطروحات العلمية الاكاديمية من سماوات البرج العاجي الى حيث الشارع والساحة والميدان الى حيث تعيش مع الناس العاديين يتداولونها فيما بينهم ويسيغون فهمها ويهضمون محتوياتها ومن ثم فهي تزودهم بوعي المستقبل وتحصنهم فيما نظن, ازاء غدرات الآتي او صراعات المقبل كي لا تطويهم لجتها وهم غارقون في سبات اللاوعي او تلك مهمة نراها امرا حيويا لصحة المجتمعات وقدرة افرادها على التعامل السليم مع ما يستجد على حياتهم من انماط وظاهرات. من هذا المنظور حرصت مثلا مجلة (المستقبلي فيوتشرست) الشهرية في احدث اعدادها (عدد يونيو ــ يوليو 1998) على التنويه بهذه الدراسة... وحرصت ايضا على تطبيق او تعميق هذا المنظور حين ركزت في هذا التنويه على اثر التكنولوجيات الجديدة التي تتسلل الى حياتنا في خلق مشاكل وازمات للبشر بقدر ما توجد لهم ايضا حلولا وامكانات جديدة وبقدر ما ينجم عنها في الوقت نفسه وتبدلات لا مادية من حيث التحولات التي يمكن ان تعتري انماط السلوك ومنظومات القيم وحزم (بكسر الحاء) الاعراف والقواعد والمعايير التي يقوم على اساسها او سيقوم على اساسها مجتمع البشر في القرن الحادي والعشرين. خمسة اقسام من النتائج وعلى سبيل التبسيط او التيسير في تناول هذا البحث الهام المقبل من هولندا يمكن ان نقسم مضمونه ونتائجه الى خمسة اقسام رئيسية تغطي تحولات التكنولوجيا وعلاقة الانسان بها في القرن المقبل على الاصعدة التالية: 1 ــ البيت 2 ــ التنشئة والتعليم 3 ــ وقت الفراغ والعلاقات الاجتماعية 5 ــ الاقتصاد واستخدامات الحاسوب (الكمبيوتر) . أولا على مستوى البيت والحياة العائلية: يمكن تلخيص ابرز تيارات المستقبل كما يراها الباحثان (ماريان سلزمان) و(ايزا ماتاثيا) فيما يلي: * ان مواقع الانتاج من شركات ومؤسسات سوف تجنح مع سنوات القرن المقبل الى اقامة مدن سكنية مجمعة للعاملين فيها من شغيلة ومديرين ورؤساء ومسؤولين بحيث يعيش الجميع في تلك المجمعات داخل وحدات سكنية مدعومة ماليا ومن ثم متهاودة الاجر سواء كانت شققا او فيلات او بيوتا اسرية صغيرة وليس ذلك حبا في سواد عيون السادة الموظفين او المديرين بل من اجل ان يتم الربط الالكتروني بين موقع السكن وموقع العمل بحيث يصبح السكن جزءا لا يتجزأ من او وحدة متضامنة من وحدات الموقع الانتاجي او الخدمي. وهم بهذا يجعلون الموظف العامل لصيقا بالمؤسسة التي تستخدمه, لا بالمعنى الادبي او العاطفي او الاستعاري, ولكن بالمعنى المادي, الفيزيقي الالكتروني. وقد تعمد المؤسسات الكبرى كما تقول الدراسة الى تزويد هذه المجمعات بكل ما تتطلبه حياة القرن المقبل من خدمات ما بين مواقع المدارس والجامعات وما بين العيادات الطبية في مختلف التخصصات الى مرافق رعاية الطفل (للعاملات) ناهيك عن مواقع تقديم السلع والخدمات اليومية. ان السيناريو الذي نحن بصدده يتصور انه لن يتاح وقت كاف امام العاملين كي يترددوا مثلا على مغاسل الملابس او كيها او مراقبة الاعمال التي تتم لاصلاح مرافقهم المنزلية مثل أعمال السباكة أو الصيانة أو الكهرباء وما إليها, ومن ثم سوف تدعو الحاجة إلى شركات صيانة وخدمات جماعية تشمل كل تخصصات الإصلاح المنشودة. سوف تتغير التصاميم الهندسية في بناء الوحدات السكنية كي تلبي أغراضا مستجدة على حياة البشر, فمثلا هناك من سيطلب غرفة لممارسة حياكة الثياب داخل المنزل أو تصميما لورشة نجارة أو حدادة بيئية صغيرة لزوم إشباع الهواية لأفراد الأسرة. * ثم يأتي الأسلوب الأوتوماتيكي الكامل في استخدام غرف النوم .. كل شيء سيكون مرهوناً بزرّ تكبسه فيتم فورا تحقيق المراد من رب العباد يصدق هذا على الأضواء ودرجاتها وعلى الستائر وإحكامها وعلى أجهزة الاستقبال أو الإرسال وتشغيلها وعلى استخدام الهواتف وعلى ضبط المواقيت المرسومة للإيقاظ أو لتوخي الدقة في مواعيد الدواء, وما إلى ذلك. ربما نكون قد أخذنا حاليا ببعض هذه الأساليب, لكن الجديد هو الماكينات المستحدثة التي سوف يضمها الناس الى ترسانة الآلات في غرف نومهم ومنها مثلا كما تشير الدراسة العبارة في هولندا ماكينة اسمها (نوفا دريمز) وهي وسيلة تكنولوجية تجمع بين أقنعة توضع على العين برقة ونعومة لحجب الضوء وإشاعة الهدوء وبين دائرة الكترونية تؤدي نبضاتها الى تهيئة الفرد من أجل ... الأحلام (!) ومعها - فوق البيعة - منبهات توقظ النائم بلطف بعد انتهاء الحلم وقد تساعده على تسجيل وقائع الحلم ربما لزوم التفسير والتأويل, ورحم الله بن سيرين ! وليس لنا ان نندفع الى تصور ان حكاية ماكينة الأحلام هذه هي محض خيال راود كاتبي الدراسة. ان الماكينة التي نتحدث عنها أصبحت الآن قيد التطوير تمهيدا لاخراجها الى الأسواق وهو ما تبشرنا به مجلة (المستقبلي) بكل رصانتها واختصاصها في مثل هذه المواضيع. * استخدامات ماكينات وتجهيزات منزلية تتسم بالذكاء والألمعية الالكترونية, ثلاجة المنزل مثلا سوف تتولى بنفسها ومن خلال قدراتها الآلية جرد ومتابعة نواقص المواد والأطعمة, يظهر لك على ساحتها أو فوق أبوابها بيان واضح ومفصل بما ينبغي أن تشتريه ربة المنزل, مثلاً من مقادير الجبن الذي نفد أو الحليب الذي نقص أو الخضر التي آلت مع الأيام إلى الفساد, وقد تمعن الثلاجة في الذكاء اللماح فتكون موصولة في هذا البيت أو ذاك بمركز تلقي وتوريد الطلبات من المنازل واليها, وهذا المركز يتسلم الرسالة الالكترونية طبعا من الجهاز المنزلي ويقوم على تجهيز الطلبات من السلع المختلفة - ومن ثم توصيلها إلى البيت المنشود وربة البيت أو مدبرة البيت - ولا هي هنا أو أنها مشغولة - فيما نرجو وفيما يرجو باحثو المستقبل - بما هو أهم وأجدى بالقيام على شؤون الأسرة وقضاء مصالحها. * سوف يزيد الطلب على الحجرات المعزولة صوتيا في بيوت السنوات الأوائل من القرن المقبل, وهو نتيجة نراها منطقية لازدياد الضجيج الصوتي الى حد الإهانة الصوتية التي يمكن أن يجرّمها القانون, كما انه ناجم عن ازدياد (ميكنة) الحياة داخل البيوت بفعل ما سوف تحتويه من أجهزة وكائنات آلية - روبوت - وماكينات من شتى الأنواع. * ثانيا على مستوى عمليات التنشئة الاجتماعية والعلاقات العائلية وأساليب التربية والتعليم * هنا يميل الباحثون إلى الأخذ بقدر من التشاؤم حين يتوقعون اتساعا في نطاق بوالص التأمين ضد .. الطلاق, الذي سوف يكلف غاليا ومن ثم ذا التأمين مطلوب لدفع تكاليفه وسداد مغارمه, وفي هذا الإطار سوف يسند المجتمع ادوارا الى كبار السن من رجال ونساء يقومون فيها برعاية اطفال ويكونون بمثابة جد أو جدة لهم لقاء أجر معلوم وفي اطار اساليب مؤسسية محكمة التنظيم - خاصة إذا كان واكدا هؤلاء الأبناء آلام وآلاب يعملان بدوام كامل أو حتى يعملان في أماكن نائية تحول بينهما وبين ايلاء رعايتهما الكاملة لفلزات الأكباد. وفي هذا الإطار كذلك يضطلع الحاسوب بدور متعاظم حيث يعمق همزة الوصل بين الآباء وبين خبراء التربية وتنشئة الأطفال وعلم النفس الطفل, ومن خلال هذا التواصل عبر الحاسوب تكتمل دورة التفاهم والتساؤل والتشاور واسداء النصح الى أم ملهوفة أو الى أب حائر في حل مشكلات ابنائهما في شتى مراحل النمو من الطفولة المبكرة وإلى المراهقة المتأخرة (هذه الخدمة بدأت تخرج مثلاً إلى الوجود في مجتمعات الغرب وهناك من يطلق عليها اسم (سايبرسبوك) بالنسبة الى الدكتور (سبوك) اختصاصي الطفولة الامريكي الشهير الذي رحل في مطالع عام 1998 الحالي ومعناها: ان اختصاصي الطفولة في خدمة سيادتك على تقديم جهاز الحاسوب, ودونك الجهاز في بيتك وتملك ان تديره وتدق رموز الخدمة تبدأ من ثم دائرة مفتوحة بينك وبين الاختصاصي المنوب ثم اطرح ما شاء لك الله ان تفعل من اسئلة يأيك الجواب الثاني المفيد. * وعلى مستوى العائلات المشتتة بين أركان الدنيا الأربعة يستطيع الحاسوب ان يلمّ شملها بفضل الاجتماعات المعقودة عن بُعد تيلي كونفرنس حيث يثرثرون بالصوت والصورة ويسألون عن الأحوال والعيال عبر الشاشات المنزلية. ونفس الأسلوب قد يستخدم بداهة في مقررات التعليم والدراسة عن بعد بين البيت والمدرسة وخاصة تعليم اللغات حيث تنتقل الكاميرات الى الاقطار والشعوب التي تتكلم اللغة المرغوب تعلمها وتدخل بيوت هذه الأمم لتطلع المتعلم على دقائق اللغة وكوامن استخدامها بتوجيه من المعلم بطبيعة الحال. * في هذا الاطار يتم في المستقبل (تثوير) المكتبات العامة في المدارس والمؤسسات بحيث تتحول عن الكتاب التقليدي في شكله المطبوع الى الكتاب الالكتروني مسموعا ومكتوبا عبر جهاز الحاسوب, وسيكون التحول تدريجيا فالبشرية لن تستغني عن الكتاب الذي نعرفه بحال من الأحوال - ولكنها سوف تسعد دعاة حفظ البيئة عندما تعمد الى اعادة صبّ الروايات والمغامرات البوليسية وكتب الكلمات المتقاطعة وسائر المطبوعات التي يتخلص الناس منها بعد قراءتها تعمد الى هذا كله فتعيد صبه أو صياغته في شكل الكتروني يتم الاطلاع عليه وتداوله بواسطة الحاسوب ومن ثم فهي تقتصد في استخدام الورق مما يؤدي الى إبقاء أكبر عدد من أشجار الورق على قيد الحياة. و .. لنا ملاحظات وبعد فتلك تصورات وتنبؤات توصل اليها اثنان من الباحثين الامريكان واصدرا في هولترا كتابا مهما عن (تيارات المستقبل) ليوردا فيه محصلة ابحاثهما, ولسوف يكون لنا ملاحظات بطبيعة الحال, سواء على جدوى هذا التيار المستقبلي في مطلق الأحوال, أو على مدى فائدته التي تعود علينا في اطار حياتنا وثقافتنا وانساقنا المعرفية في الوطن العربي, فقط علينا أن نستكمل, في حديث قادم بإذن الله, الجوانب الثلاثة المتبقية من السيناريو المستقبلي الذي رسمه الباحثان الامريكيان وبعدها يكون لكل حادث حديث.

Email