من القاهرة الى برمنجهام: حوار بين مجلسي ادارة الجنوب والشمال : بقلم- د. فتحي عبد الفتاح

ت + ت - الحجم الطبيعي

بالرغم من ابتعاد المسافة بين القاهرة حيث عقدت قمة الدول الـ 15 مؤتمرها الاخير منذ اسبوعين وبين برمنجهام حيث انهت قمة الدول السبع الكبار اعمالها بداية هذا الاسبوع , الا انه من المؤكد اننا بازاء شكل جديد من اشكال الحوار بين الشمال والجنوب يمكن ان نطلق عليه حوار القمم. فقمة القاهرة هي القمة الثامنة لهذه المجموعة المختارة بعناية وبشكل جيد من بين دول آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية والتي بدأت مسيرتها منذ ثمان سنوات في مؤتمرها الاول في كولالامبور وهي تشكيل خرج من لحمه دول عدم الانحياز وانطلق من ارضية مجموعة الـ 77 الاقتصادية والتي تضم دول الجنوب. وهذا التشكيل الذي يمضي وبنجاح نسبي يضم عددا من دول الجنوب ذات الثقل الاقليمي اقتصاديا وسياسيا في قارات الجنوب الثلاث ولذلك اطلق عليه البعض اسم مجلس ادارة الجنوب. وهذه الدول مرشحة لان تلعب دور المايسترو الفاعل في تنسيق التعاون العلمي والاقتصادي بين دول العالم الثالث وخلق قاعدة مشتركة لضبط الايقاع الذي كان مشتتا ومتضاربا في احيان كثيرة. ونظرة الى الدول التي تشكل المجموعة تعطي مؤشرات كثيرة في هذا الصدد سواء من زاوية التمثيل الجغرافي الصحيح للعالم الثالث او من زواية القدرة والثقل الاقليمي لهذه الدول اقتصاديا وسياسيا. - فمن اسيا هناك الهند واندونيسيا وماليزيا.. واخيرا سيريلانكا. - ومن افريقيا هناك مصر والجزائر ونيجيريا والسنغال وزيمبابوي واخيرا كينيا. - ومن امريكا اللاتينية هناك البرازيل والمكسيك والارجنتين وبيرو وجاميكا وفنزويلا. وهذه الدول تمثل وبشكل موضوعي حوالي 70% من سكان الجنوب ــ مع استبعاد الصين ــ كما انها تمثل تقريبا نفس النسبة من مجمل انتاج دول عدم الانحياز. بينما ضمت قمة برمنجهام الدول الصناعية السبع الكبرى (انجلترا, فرنسا, الولايات المتحدة, المانيا, كندا, ايطاليا واليابان), وقد ضمت اليهم روسيا مؤخرا وهي الدول التي تجمعت في اول مؤتمر لها في منتصف السبعينات كتشكيل قيادي لدول الشمال المتقدم واستحقت بذلك لقب مجلس ادارة الشمال بل انه ونظرا لانها تضم الدول الاكثر انتاجا وتجارة ونفوذا في العالم فقد اطلق عليها البعض لقب مجلس ادارة العالم. ومعنى ذلك اننا بازاء بؤرتين محددتين ومبلورتين وتعبر كل منهما عن قطبي الصراع او الحوار الذي يجرى طوال عقد التسعينات خاصة بعد التغيرات الدرامية التي جرت على الساحة العالمية في اواخر الثمانينات وادت الى اسقاط الثنائية القطبية التي كانت تقسم العالم الى شرق وغرب وحل محلها التقسيمة الجديدة بين الشمال والجنوب. حقيقة كانت هناك دائما اشكال من الحوار الدائم او المنقطع بين الدول المتقدمة والدول النامية خاصة بعد انتهاء مرحلة التحرر الوطني والاستقلال التي اجتاحت دول الجنوب في الخمسينات والستينات. ولكن ذلك الحوار كان يجرى ضمن اطار دولي اوسع ينقسم فيه العالم الى معسكرين وكتلتين يتصارعان فيما بينهما حول الجنوب ومحاولة احتوائه واضافته الى رصيد الصراع لكل من الكتلتين. بل ان الجنوب نفسه كان في هذه الفترة الميدان الرئيسي للحوار الساخن, واحيانا الملتهب بين الشرق والغرب ويمكن ان تعد قائمة طويلة من الصراعات المسلحة في ذلك الوقت, كان طرفا النزاع فيها من اهل الجنوب ولكن المحرك والفاعل الرئيسي كان احد القطبين اللذين تربعا على القمة.. ولدت مجموعة الـ 15 في أتون التغيرات الدولية التي جدت على الساحة العالمية والتي جعلت من القرارات والعوامل الاقتصادية العامل الأساسي والمحدد لطبيعة العلاقات الدولية بينما توارت الايديولوجيات والنظريات التي كانت قائمة او على الاقل جرى تظليلها وتهميشها. وكان من الطبيعي ان تستوعب دول العالم الثالث او الجنوب او العالم النامي او ايا كانت التسمية أن توليفة المصالح الجديدة تستوجب وجود مشروع للتعاون الاقتصادي لسكان هذه الرقعة الجغرافية المشتتة والتي كانت والى عهد قريب غارقة في صراعاتها القومية والعرقية الضيقة, سعيا وراء اشكال وأساليب عملية للتعاون الاقتصادي والتجاري المشترك.. وذلك قبل ان تصبح هذه الارض هي الوحيدة المفتوحة والمستباحة في عالم جديد يتشكل على أسس السوق المفتوحة والمنافسة بلا حدود والبقاء للأقوى والأقدر. وكان من الطبيعي والأمر كذلك ان تكون قمة القاهرة مهمومة بقضية العولمة خاصة انعكاساتها الاقتصادية المتمثلة في التجارة الدولية, ففي هذا العالم الجديد الذي تتداخل وتتشابك فيه المصالح وتجبر الدول الصغيرة على فتح ابوابها واسواقها أمام السادة الكبار والمتحكمين في التجارة الدولية ويجري تقليص لدور الدولة الوطنية ومهامها, تتعرض دول الجنوب لمخاطر جمة سواء من زاوية الاجتياح الشمالي الذي يمكن ان يطوق بل وحتى يقضي على صناعتها النامية.. او من زاوية نصيبها في التجارة الدولية واسواقها المالية التي بدأت تتعرض بالفعل لنكسات بل ومؤامرات بالرغم من وجود فترة السماح التي اعطتها قوانين الجات للدول النامية.. ومن المتوقع بعد انتهاء هذه الفترة وعدم الوصول الى حلول مرضية يتفق عليها الجميع ان يزداد الحصار المالي والتجاري على هذه الدول. ولقد كان ذلك هو العنوان الرئيسي للرسالة التي وجهها زعماء قمة القاهرة الى رؤساء قمة السبعة او الثمانية الكبار في برمنجهام. وبالرغم من ان البيان الختامي لقمة برمنجهام لم يشر وبشكل مباشر الى القضايا التي أثارها زعماء قمة القاهرة الا انه من الواضح ان الرسالة قد وصلت وقد بان ذلك بوضوح في التحذير الذي وجهته قمة الكبار الى مؤسسات الاستثمار العالمية التي ساهمت في كثير من الاحيان في الأزمة المالية عبر الاستثمار في القطاعات المعرضة للخطر وسحب الاموال بشكل سريع وعدم وجود تغطية انتاجية حقيقية للحجم الهائل من السندات والاسهم الورقية المطروحة في البورصات العالمية. وهو الامر الذي اشتكت وعانت منه دول مثل اندونيسيا وماليزيا في الازمة الاقتصادية التي المت ببعض دول شرق آسيا والتي لن تقتصر نتائجها على تلك الدول بل من الممكن ان تصيب الاقتصاد العالمي كله بالشلل والتخبط, ما لم يجري وضع حلول توائم بين قمة الانتاج الفعلي في السوق الرأسمالي العالمي وحجم الاوراق والأسهم والسندات التي يجري عليها التداول.. كذلك فإن قضايا مثل تخفيف الديون على دول العالم الثالث والدول الأكثر فقراً بشكل خاص, ومكافحة الارهاب والمخدرات وما يسمى بالاقتصادي الرمادي او الاسود قد فرضت نفسها في قمة برمنجهام خاصة بعد ان اكدت دراسات صادرة من دول الشمال نفسها بوجود علاقة مباشرة بين سعة الفساد في بلد ما من بلدان العالم الثالث وبين حجم التوظيفات والمعاملات الاجنبية في تلك البلد. وهذا ما اكدته الدراسة التي اعدتها جامعة هارفارد بالولايات المتحدة, وايضاً منظمة الشفافية الدولية (I.T) والتي تتخذ من برلين مقراً لها. ومن الواضح ان قضية التجارة الدولية هي التي تكتسب حالياً الأهمية الأساسية في العلاقة بين الشمال والجنوب, ومن الطبيعي ان تفرض نفسها في حوار مباشر بين الطرفين. حوار يجيد تقييم الامور وبشكل عملي لصالح جميع الاطراف, وينطلق من مقولة قديمة تتجدد اطلقها الاصلاحي الراحل فيللي براندت المستشار الاسبق لألمانيا الغربية, وذلك في تقريره المعروف باسمه والذي قدمه في اوائل الثمانينات. هذا التقرير الذي يؤكد ان مساعدة دول الجنوب على عبور مشاكلها الاقتصادية واشراكها بشكل فعال وايجابي ومنصف في التجارة الدولية, لن يساعد فقط هذه الدول على ان تلعب دوراً نشطاً في الاقتصاد العالمي. بل وسيساعد ايضاً الدول الصناعية الغنية على مواجهة الكثير من المشاكل التي تعاني منها خاصة الانكماش والبطالة. وقد يكون ذلك سبباً للدعوة التي ترددت في مؤتمر القاهرة لعقد قمة مشتركة في المستقبل تجمع بين مجلس ادارة الجنوب ممثلاً في مجموع الـ 15 ومجلس ادارة الشمال الذي يضم الثمانية الكبار. فحوار القمم غالباً ما يسفر عن خطوات الى الأمام ولصالح جميع الأطراف. مدير مركز الابحاث والدراسات*

Email