وماذا عن التفجيرات العراقية الكلامية؟ بقلم- الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما هزت تجربة الانفجار النووي أرض القارة الهندية المليئة بالتشققات امتلأ العالم بصيحات الفزع, فقد وصلت البشرية إلى حافة التشبع من كثرة ما تختزنه من أسلحة الموت والدمار, ومع صيحات الاستنكار ارتفعت صيحات التهدئة للأطراف الأخرى . وكان الصوت العراقي من الأصوات القليلة التي أيدت هذا الانفجار النووي وباركت حدوثه, ولعله قد خاطب في داخلها أحلام القوة ورغبات التهديد التي لم تهدأ بعد, ولكن لأن النظام العراقي غير قادر على القيام بهذه التفجيرات - ولو كان قادرا لفعلها - فإنه اكتفى كعادته بإطلاق المزيد من التفجيرات الكلامية على أمل أن يحدث هزة مماثلة في الأرض العربية. ففي الأسابيع الأخيرة نشطت التصريحات الرسمية العراقية في وسائل الإعلام الدولية وكذلك في بعض المطبوعات العربية, ومن أجل قراءة وفحص مفردات هذا الخطاب الإعلامي العراقي السياسية, الذي بدا كثيفا في المرحلة الأخيرة, ومتابعة تحليله, قمت بالقراءة المتأنية لبعض مانشر, لمعرفة ما يجمعه أو يفرقه من جوهري وعام, ويعتمد هذا الخطاب العراقي, كما كان دائما, على مقولات خاطئة بدت راسخة في عقول البعض, وان كان لابد من زحزحتها لكي يتم التواصل مع الحقائق فلابد من اطلالة معرفية, فالمعرفة الصحيحة لايمكن أن تنهض إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة. ثلاثة من القيادات العراقية أدلوا بأحاديث صحفية أو تصريحات لوكالات الأنباء منها ثلاثة أحاديث لمجلات عربية في بحر أسبوع واحد, فمحمد سعيد الصحاف وزير الخارجية, تحدث إلى مجلة (المجلة) , وطارق عزيز إلى (المصور) المصرية, وطه ياسين رمضان إلى (المشاهد السياسي) التي تصدر باسم هيئة الإذاعة البريطانية, ولكنها ممولة تجاريا. في هذه الأحاديث الثلاثة بدا بعض الصحفيين الذين أجروها متعاطفين بشكل واضح مع المقولات العراقية إلى درجة أفقدت البعض منهم الحد الأدنى من مستوى الموضوعية المهنية الذي يتوجب على أي صحفي أن يتمسك بها, ولست أريد أن أناقش الموضوع من هذه الناحية فهو أكبر من مجرد تساهل صحفي في مهنته, ولكنه يوضح التناقض الشديد في الاطروحات السياسية العراقية ومن أفواه هذه القيادات, ومحاولة خداع القارئ العربي الذي أصبح فطنا ومتأنيا في الأحكام, فقط قضايا قليلة أجمع عليها الثلاثة وذلك لأسباب معروفة, لن أتحدث عنها الآن, ولكني سأعرض لها في نهاية هذا المقال. القضية الأولى الرئيسية التي تهم النظام العراقي هي قضية العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على العراق, وهي قضية يشار إليها في الأدبيات العراقية دائما باسم (الحصار) ومع الأسف فإن الكثير من وسائل الإعلام تتبنى هذه التسمية الخاطئة, فلولا العدوان العراقي الفظ على الكويت لما كانت هناك عقوبات على هذا النظام وكان يحلو للبعض دائما أن يتجاهل السبب ويقفز إلى النتيجة, وعزفا على هذا الموضوع يقول طارق عزيز لوكالة الأنباء الفرنسية مؤكدا, وإن كنت لا أعرف على أي شيء يستند في تأكيداته: (باستثناء الكويت فإن غالبية الشعور السائد في الشرق الأوسط هو أن عزلة العراق وحصاره لايخدمان مصالح المنطقة حاليا, غالبية دول الخليج مقتنعة بأن (العراق السيد) لا غنى عنه من أجل استقرار اقليمي أكبر) . ويعزف طه ياسين رمضان على نفس نغمة العقوبات ولكنه يعزوها لأسباب أخرى, وأنا أنقل هنا بالحرف الواحد من (المشاهد السياسي) يقول (ان غطرسة أمريكا في المنطقة هي بسبب الوضع العربي الرسمي, وأنا أقول لك في هذه المناسبة إن الحصار (على العراق) هو عربي قبل أن يكون أمريكيا, ولولا الموقف العربي لما حدث العدوان, ولولا الموقف العربي لما حصل واستمر الحصار إلى اليوم, انه قرار أمريكي لكن ينفذه عرب, لا بل هناك بلاد عربية تنفذ الحصار ابعد مما هو وارد في قرارات مجلس الأمن, لدي اتفاق مع فيتنام بـ 200 مليون دولار, واندونيسيا بـ 300 مليون دولار (سقط النظام الاندونيسي الذي يستشهد به نائب الرئيس على كل حال) وليس لدي مع أي بلد عربي اتفاقية حتى بمليون دولار. ترى أيهما نصدق, مقولات طارق عزيز بأن الدول العربية ضد العقوبات, ام نصدق النائب الأول لرئيس الجمهورية العراقية الذي يقول بكل قوة ويشدد دون شك على ان الحصار عربي أصلا, فيقول في موضع آخر من الحوار (ان العديد من الدول العربية لا تطبق الحصار فحسب بل تطبق أبعد مما هو وارد في قرارات مجلس الامن كي تحاول ان ترضي أمريكا؟! ولا تقف درجة التناقض في المقولات والتصريحات عند هذا الحد, فهناك قضية مازال النظام العراقي يتلاعب بها مع العقول الساذجة, وهي قضية موقفه من اسرائيل, او ما يسميه البعض خطأ بالربط بين العقوبات على العراق والمسيرة السلمية في الشرق الاوسط, وهي هنا فرضية ضبابية تحاول ان تصنع نوعا من الوعي الكاذب بأن العقوبات على العراق هي لمنعه من (محاربة اسرائيل) وهي قضية آن الأوان للاستشهاد بما يقوله فيها اقطاب النظام العراقي علنا, فالصحاف يقول في مقابلته: (الأولوية بالنسبة لنا هي رفع (الحصار) عن الشعب العراقي والفلسطيني واللباني) في اشارة واضحة لا تخطئها العين الى محاولة الربط, ورغم الحقيقة الواقعية وهي ان الشعب الفلسطيني هو ضحية, وان النظام العراقي هو معتد على جار عربي مسالم, الا ان الربط لاستدرار العطف واظهار القضيتين وكأنهما قضية واحدة, ولكن حتى لو خدع البعض بذلك فدعنا نر ما يقوله نائب الرئيس العراقي في هذا الصدد, وانا هنا ايضا انقل كلماته بالحرف الواحد ردا على سؤال متعاطف حيث يؤكد (ان بعض الدول العربية تستخدم قضية العراق كورقة, فعندما تحاصر في العملية السلمية تهدد باستعادة العلاقات مع العراق) , ويواصل السيد النائب (وحتى هذه الورقة مع الاسف لا يجيدون استعمالها, ونحن لا نرفضها, نقول لهم انتم ضمن ظروفكم قبلتم بأوسلو وبمدريد, لتفعلوا ما تفعلون... هناك حكومات عربية فقدت ارادتها, وعليها ان تستجيب لما تريده امريكا من عدم حضور العراق لقمة عربية...) ويعني الرد هنا عدم الممانعة علانية من قبل النظام العراقي في استخدام موقفه المعلن والظاهري كتكتيك تجاه اسرائيل, في الوقت الذي ينبغي على الدول العربية أو بعضها عدم استغلال ذلك بشكل جيد. ماذا يعني ذلك لكل صاحب بصيرة؟, يعني ان العراق الرسمي لا يعارض أوسلو أو مدريد أو مسيرة السلام, هو يعرف ذلك, وأهل المطبخ السياسي العربي والدولي يعرفون, ولكنه يريد ان يضلل الناس العاديين, وتأكيدا لذلك يقول طارق عزيز في (المصور) بهذا الصدد ردا على سؤال ايحائي ايضا: هل من قبيل الصدفة ان تحول امريكا الوضع في العراق الى ازمة مستمرة, وان تحول عملية السلام في المنطقة الى جثة هامدة؟ يقول عزيز: (مانراه الآن هو النتيجة الطبيعية للهيمنة الامريكية, ولا يمكن للوضع ان يتغير لا فيما يخص العراق أو يخص القضية الفلسطينية الا بوضع حد حاسم للهيمنة الامريكية) ولابد ان السائل والمجيب قد تناسيا ان الوضع لم يتغير منذ خمسين عاما منذ اعلان الدولة الاسرائيلية, ولم يكن وقتها العراق تحت العقوبات الدولية, كما ان المجيب قد تناسى ان الامريكان قد ارسلوا اخيرا مساعدات انسانية للعراق بمبلغ اربعين مليون دولار, واستقبلهم بفرحة افراد من النظام العراقي آملين ان تكون هذه المبادرة بداية تعاطف امريكي معهم, كما نسى ان امريكا قد قدمت مساعدات لوجستية للعراق في حربه مع ايران لا تقدر بثمن, كما تجاوز الرد الاشارة الى المساعي الحثيثة التي يبذلها النظام العراقي لفتح حوار مع الولايات المتحدة. ولكن علينا الا ننسى ان طارق عزيز هو استاذ في مدرسة سياسية تجيد المناورة والتضليل ووضع روايات زائفة تغير من شكل أي موضوع. ودعونا ايضا نر ما تقوله الاقطاب في الموضوعات المتماثلة فليس أهم من شاهد اثبات افضل مما ننقله على ألسنتهم, يقول طارق عزيز في المقابلة نفسها مع مجلة (المصور) : (زعم ان العراق تشكل تهديدا على دول الخليج, وكانت دول الخليج باستثناء الكويت ترفض استخدام القوة (ضد العراق في فبراير الماضي) وهذا يعني على أقل تقدير ان دول الخليج ليست مقتنعة بالمبررات الامريكية...) فماذا يقول نائب الرئيس طه رمضان في ذلك؟ يقول (اغلب الحكومات (العربية) قد فقدت ارادتها وفقدت قدرتها على ان تقف الى جانب حقوقها وأمنها, اغلب الحكومات التي قالت انها ضد ضرب العراق (في فبراير الماضي) كان موقفها لامتصاص النقمة الشعبية, ودفاعا عن انفسهم وليس خوفا على العراق, نحن نعرف ان منهم من قال ــ والحديث مازال لنائب الرئيس ــ نحن ضد ضرب العراق وكان يقول لأمريكا نريد ان ضربتم هذه المرة ان تضربوا بشكل ينهي النظام, واذا كانت الضربة تقليدية فان ذلك سوف يعزز وضع النظام (العراقي) وسيثير مشاكل لهذه الكيانات التي باعت نفسها لأمريكا وللكيان الصهيوني) . لقد استخدم طارق عزيز وطه رمضان مقولات متناقضة, بين اشادة بموقف الدول الخليجية وتضامنها وموقف ناقد يتهمها بالعمالة والازدواجية في المواقف, ولكن التناقض ليس جديدا على النظام العراقي, الا ان الاخطر ان النائب تحدث في مقابلته عن (كيانات) ومن يعرف المفردات العربية يعرف ان كيانات كانت محفوظة للاشارة الى اسرائيل, وعدم الاعتراف بها ولكنه يعمم الوصف هذه المرة ليظهر مدى احتقاره للدول العربية. لأن النظام العراقي يعرف فقط ان وسيلته الوحيدة للحكم هي ان يحافظ على حكم القهر واستدامة عناء العراقيين, وليس لديه الشجاعة للاعتراف باخطائه, فان خطته للعودة الى الساحة العربية والدولية لا تعدو الاستعانة بنفس المقولات السابقة التي يصر عليها, وفي المقابلات والتصريحات التي اشرت اليها حزمة من التناقضات المضحكة المبكية, منها على سبيل المثال علاقة البعث العراقي بالدين الاسلامي, وكل من قرأ شيئا من أدبيات البعث العراقي في السابق يعرف كيف ينظر هذا البعث الى المتدينين وكيف عامل الاتقياء في العراق من تقتيل وتنكيل, لقد ارتدى مسوح الدين اليوم واصبح الاسلام جزءا من العقيدة البعثية الجديدة, فقد اوقف العرض الذي قام به (المليون متطوع) أخيرا لاداء صلاة الظهر, وكما يقول نائب الرئيس في هذا الموضوع (عقيدتنا دائما ايمانية, والدليل ان من أسس البعث هو من عقيدة اخرى فوجد في الاسلام النظرة الصحيحة, ونحن عندما انضوينا الى حزب البعث لم ننضو لأن المرحوم ميشيل عفلق مسلم أو راح يكون مسلم) . اما في موضوع الديمقراطية فيقول نائب الرئيس أيضا (اما الحديث عن الديمقراطية الغربية فاننا لا نرفضها فقط وانما نحتقرها ايضا, وهي بدعة يريد الغرب ان يستعمر دول العالم الثالث من خلال هذه اليافطة) . لو عرضت لكل المتناقضات التي تأتي في احاديث القيادات العراقية لما انتهى المقال, ولكن أخذت فيما سبق بضع شذرات من أحاديث ثلاثة وبعض التصريحات, وكان هدفي من وراء ذلك التوصل الى المعرفة الحقيقية فوق انقاض من المعرفة الخاطئة وكما قلت فان هناك نقاطا اتفتقت عليها هذه القيادات في احاديثها حول اعتبار ان رئيس اللجنة الخاصة للبحث عن الاسلحة ذات الدمار الشامل ريتشارد باتلر (يتصرف كموظف يخدم الادارة الامريكية) , ولو عدنا للتصريحات الخاصة التي اطلقها النظام العراقي حول رالف اكيوس رئيس اللجنة السابق لما اختلفت المفردات, كما ان المتفق عليه بين القيادات العراقية ان (الحصار) لن يرفع الا بمعركة, قالها الثلاثة تقريبا بكلمات مختلفة, وان لم يشيرو الى نوع المعركة. اما الاتفاق الذي لا خلاف حوله بين الثلاثة وآخرين من قيادات النظام العراقي, الذي لابد ان القارئ الفطن يعرفه فهو الاشارة الى القيادة, قال الصحاف (لدينا قيادة من طراز خاص) وقال نائب الرئيس (ان الشعب العراقي قد اعطى ولاءه للقائد المنصور... اكثر قائد يحظى بتأييد شعبه في المنطقة هو صدام حسين, بل ويحظى بولاء غالبية الشعب العربي) المهم ان نائب الرئيس بعد هذا القول يرى في مكان آخر من المقابلة انه (من المعروف منذ عهد الراشدين ومن جاء بعدهم كانت ولاية العراق وحكمه من أصعب الامور... فالشعب العراقي اصعب شعب في الولاء) . ليطمئن القارئ انني اخذت ما أشرت اليه بين قوسين فيما سبق من المقابلات الصحفية نفسها, وهي ــ اي هذه الاشارات ــ تتحدث عن نفسها, وتدل الداني والقاصي عن نوع التفكير الذي تتبناه القيادة العراقية في حقوق الانسان والديمقراطية وعلاقتها بجيرانها, ومفرداتها هي التهديد والوعيد, الا انني اريد ان اختم القضية المركزية التي يسميها الساسة العراقيون الحصار وهي تسمى دوليا العقوبات, هل تضرر النظام العراقي بها أم لا, لن أجيب, وانما سأنقل لكم قول نائب الرئيس حول ذلك بنص كلماته: (لقد دمروا المنشآت التي بناها خبراء اجانب لمدة خمسة وعشرين عاما, واعدنا بناءها بسنتين من قبل الفنيين العراقيين, وبنت افضل شركة يابانية برج المواصلات في اربع سنوات ونصف, وبطول 116 مترا, فلما دمر في الحرب, اعاد بناءه مهندسون عراقيون بارتفاع 103 امتار, وخلال ثمانية عشر شهرا فقط, وبنينا الجسر بطابقين, ولو رفع الحصار ــ هكذا يقول نائب الرئيس ــ سنة ,1991 فان كل هذه الخبرة العراقية لن تظهر ونعود نعتمد على الخبرات الاجنبية) ان في هذا القول تناقضا لكل الدعوات المطالبة برفع العقوبات, هكذا يقرأ العاقل ما ادلى به النائب الاول لرئيس الجمهورية العراقية, لانه في ظل العقوبات بنيت العراق بشكل افضل وفي وقت اقصر! اليس ذلك ما يقوله نائب الرئيس؟! خلاصة الامر ان طرق التفجيرات الكلامية التي يلجأ اليها النظام البعثي كل حين من الوقت ببث بعض المقولات المتناقضة من خلال تصريحات بعض قادته هي طرق قد عفى عليها الزمن لا تصلح لزمان يتغير بسرعة, والتلاعب اللغوي لم يعد يغني عن الغليان السياسي, ان المعركة الحقيقية امام الشعب العراقي هي ازالة الاشكال القمعية السائدة لكي لا يستعبد الانسان العراقي لعنف اقلية لا تريد ان تفهم اشارات العصر, وتجاهر بعدم فهمها ذاك. ولن يكسب العراق أي تعاطف معه من خلال هذه التفجيرات الكلامية ولكن مسؤوليه سيكونون مثارا للسخرية والتعجب أكثر وأكثر. رئيس تحرير مجلة (العربي) الكويتية*

Email