قنبلة الهند وترسانة اسرائيل النووية..! بقلم - د. طلعت شاهين *

ت + ت - الحجم الطبيعي

التغييرات التي حدثت قبل ثماني سنوات بسقوط حائط برلين الشهير, وتفتت قوة الاتحاد السوفييتي القديم الى دويلات تشبه ما خلفته الامبراطورية العثمانية من أشلاء, لم تكن سوى حلقة جديدة من حلقات تطورالنظام السياسي العالمي نحو آفاق اخرى, وان بدا الأمر كما لو كانت هذه التغييرات نهاية مطاف نظام قديم, وبداية لقيام نظام جديد سارع كثيرون بكتابة شهادة وفاة النظام القديم, والاعلان عن مولد النظام الجديد. لم ينتبه هؤلاء الى أن تلك التغييرات لم تكن سوى بداية, البداية التي أعلنت عن سقوط محور واحد من محورين كانا يزنان العالم القديم, ذلك العالم الذي لا يستطيع أبدا أن يقف على محور واحد, أو قدم واحدة, لذلك فان تلك التغيرات التي حدثت واعتبرها البعض نهائية لو كانت كذلك لاصبح العالم اعرج يسير على قدم واحدة, والسير على قدم واحدة مسألة مؤقتة الى حين تعافي القدم الاخرى, أو صنع بديل, أو ربما بدائل لها. من يعتقد أن النظام العالمي الجديد بتلك التغييرات قام بالفعل على أساس ان الولايات المتحدة الامريكية اصبحت سيدة العالم, تحركه من اليمين الى اليسار والعكس دون ان تجد معارضة, من يعتقد ذلك فهو واهم, أو أنه يقرأ فقط ما تضخه وسائل الاعلام الامريكية او الوسائل الاعلامية الاخرى التي تدور في فلكها. وربما كانت حالة التفاؤل الامريكي وتفاؤل من يعشقون هذه السيادة التي تؤكد على أن سيادة الولايات المتحدة للعالم كله مسألة منتهية, كانت السبب في التعجيل بنهاية هذا (النظام العالمي الجديد) قبل أن يتشكل. لأن هذا التفاؤل رسخ من التمادي في ممارسة المعايير المزدوجة في وزن الامور عالميا, حتى اصبح الميزان الامريكي العلامة التي يجب ان تتبعها الدول الاخرى في وزن السياسة العالمية حتى لا تصبح خارج نطاق الرحمة الامريكية, وتعرضها لغضبها وعقابها, واصبحت هذه المعيارية المزدوجة تتحدى العالم كله حتى الحلفاء الاستراتيجيين من خلال ممارسات اقل ما يمكن ان توصف به أنها مهينة لهؤلاء الحلفاء, ومثال ذلك القوانين التي تمنع اقامة علاقات تجارية او اقتصادية مع ايران وكوبا وليبيا, وكأن العالم كله اصبح ولاية امريكية يمكن من خلالها القوانين الامريكية المحلية ان تلاحق من تريد, ومن تشاء, ومحاكمته على افعال ترى أنها تتعارض مع تلك الهيمنة, دون ان يفكر واضعو تلك القوانين لحظة واحدة ان مشرعيهم يخرقون قوانين دولية ثابتة, أو أن الآخرين يمكنهم ايضا ان يمتلكوا أدواتهم القانونية الخاصة التي يمكن ان ترد الصاع صاعين كما يقولون, وتدفع الولايات المتحدة ديونها بالعملة نفسها. لكن الولايات المتحدة لاتزال تعتمد على امكانية قبول الحلفاء لوجهة نظرها, باعتبارها تمثل جزءا من استراتيجية جماعية يتم تنفيذها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, والتي تمكنت فيها الولايات المتحدة من مد نفوذها الى كل الدول الغربية في أوروبا, تلك الدول التي تقبل هذا الخضوع كنوع من الاعتراف بالجميل, اضافة الى اعتماد الولايات المتحدة على خضوع وسائل الاعلام الرئيسية في العالم لسيطرتها, وتبنيها لوجهة نظرها. تمادي الولايات المتحدة في الكيل بازدواجية المعيار جعل الآخرين يشعرون بالمهانة. مما يدفع بهم في النهاية الى التحرك لحماية مصالحهم الخاصة, أوروبا اصبحت ترى أن الشعور بالامتنان ورد الجميل لا يمكن ان يكون أبديا, وعالم السياسة الدولية متحرك كالرمال, ويمكن ان تنتقل القوى فيه من مكان الى آخر في لمح البصر, وهذا بالضبط ما حدث خلال الأزمة الاخيرة بين الولايات المتحدة وصدام حسين. معايير الولايات المتحدة الامريكية لم تعد تقنع أحدا, والتشدق بمسألة البحث عن الاسلحة الجرثومية والكيماوية المشكوك فيها كانت مثيرة للسخرية لدى اكثر المعلقين السياسيين في أوروبا الغربية, لأن تلك الاسلحة ليست اكثر خطورة من مخازن الاسلحة النووية التي تمتلكها اسرائيل, وصدام حسين ليس اكثر جنونا من بنيامين نتانياهو الذي يوجد في حالة استعداد دائم لخوض قتال ليس مع الفلسطينيين فقط بل مع العالم كله لمنع اقامة دولة فلسطينية وقع هو شخصيا على اتفاق باقامتها, بل أن قوات بوليسه وجيشه تمارس حربا مقنعة منذ أن وصل الى السلطة, وممارساته الفعلية على أرض الواقع اكثر خطورة من (جعجعات) بعض الذين تحاول الولايات المتحدة أن تحاسبهم على كلماتهم, بينما تتغاضى عن أفعال نتانياهو. اعتمادا على نظرية الهيمنة لم تكن الولايات المتحدة تعتقد أنها سوف تجد نفسها يوما في موقف الدفاع عن النفس ضد تطبيق المعيار المزدوج الذي تقيس به الأمور في سياستها الدولية, لكن الأسابيع الأخيرة كشفت عن معطيات جديدة في السياسة العالمية وضعت الرئيس الامريكي والبيت الابيض لأول مرة في موقف الدفاع. بعد فقدان الهيبة في مواجهة سياسات رئيس الوزراء الاسرائيلي وفشل محاولات رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في انقاذ ماء الوجه الامريكي المراق على عتبات نتانياهو جاءت القنبلة الهندية لتنفجر في وجه الرئيس الامريكي وتكشف له عن ان نظرية الهيمنة الامريكية مشكوك فيها, الهند عادت للتجارب النووية بعد ان فقدت الثقة في السياسات الغربية تجاهها واصبحت ترى ان ازدواجية المعايير تضعها في موقف حرج في مواجهة اعدائها التقليديين في المنطقة وبشكل خاص الصين التي اصبحت تتمتع بموقع خاص في السياسة الامريكية بل ان الهند ترى ان سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين تمثل نوعا من الاحتواء المطلوب للحفاظ على الهيمنة الامريكية في تلك المنطقة, لذلك القنلبة النووية للهند مطلوبة لتعلن من خلالها عن وجودها كدولة كبرى في عالم اصبح فيه الصغير مقموعا. القنبلة الهندية كشفت عن هزيمة مزدوجة للولايات المتحدة الامريكية اولا ان الرئيس الامريكي وجد نفسه في مواجهة هزيمة كبرى منيت بها اجهزة المخابرات المركزية التي اقامت الدنيا ولم تقعدها وكادت ان تفجر في منطقة الخليج حربا مدمرة بسبب تقاريرها حول اسلحة مشكوك في وجودها بالقصور الرئاسية العراقية ثم اثبتت لجان التفتيش ان تلك التقارير كاذبة ان لم تكن ملفقة لدفع العالم الى حرب اهدافها خفية وقبل ان تبتلع الولايات المتحدة هزيمة مخابراتها في ازمة العراق اذ بها تكتشف ان تلك المخابرات التي تستنزف اموال دافعي الضرائب الامريكيين المحرومين من العديد من الخدمات الصحية والتعليمية لم تكتشف بكل الاجهزة الدقيقة التي تملتكها والاقمار الصناعية التجسسية التي تسيرها في السماء فشلت في اكتشاف ثلاثة تفجيرات نووية على قدر كبير من القوة وربما لو لم يعلن رئيس وزراء الهند عن التجارب عبر الاذاعة والتلفزيون ما كان يمكن للولايات المتحدة ان تعلم بهذا الحدث الخطير. القنبلة النووية الهندية تمثل تحديا جديدا لسياسات الولايات المتحدة في منطقة متفجرة اصلا واي محاولة للرد على التحدي الهندي لن تكون لها فاعليتها, لان الهند ليست الدولة الوحيدة في الشرق التي تمتلك تلك القنبلة النووية, واي محاولة لاجبار الهند على التخلي عن تجاربها المبرمجة للحصول على السلاح النووي لن تكون لها فاعلية, لان هذا يعني ان على الولايات المتحدة ان تطلب من اسرائيل ان تتخلى عن ترسانتها النووية المعدة للاستخدام في اية لحظة. اما تصريحات الرئيس الامريكي التي ادلى بها عند سماعه نبأ التجارب النووية الهندية والتي حاول من خلالها ان يؤكد على قدرة بلاده على عقاب الهند فإنها لن تكون سوى هزيمة جديدة في سلسلة الهزائم المقنعة التي اصابت كلينتون مؤخرا لان الولايات المتحدة وكل الدول التي حاولت ان تقف في مواجهة التطلعات الهندية نحو امتلاك القنبلة النووية لا تمتلك القدرة الاخلاقية لعقاب الهند, لان تلك الدول تمتلك مخزونا من تلك الاسلحة وقبل ان تطالب الاخرين عليها ان تدمر ما تمتلك. الحديث عن عقوبات اقتصادية مسألة غير مجدية مع الهند, التي تعتبر اضخم سوق استهلاكي في العالم بعد الصين لذلك فان اية عقوبات لن تمنع التجارة مع الهند, وان منعتها بشكل مباشر, فإن الشركات المتعددة الجنسيات تعرف كيف تبيع منتجاتها في الهند, بل يمكن للهند ان تستفيد من تلك العقوبات اكثر مما يعتقد البعض, وعلينا ان نتذكر تصريحات انديرا غاندي عام 1974 التي اكدت فيها ان العالم في حاجة الي الهند اكثر من حاجة الهند الى العالم, كانت تقصد بالطبع حاجة الاقتصاد العالمي للسوق الهندي في عالم تحركه الصالح الاقتصادية. كاتب مصري مقيم في اسبانيا*

Email